المنطق والفلسفة
مقدمة
كان الحافز الفلسفي الأساسي الذي يدفع راسل — على حد تعبيره — هو اكتشاف ما إذا كان من الممكن معرفة أي شيء معرفةً يقينية. وقد راوده هذا الطموح — الذي يطابق طموح ديكارت — بسبب أزمتَين فكريتَين مبكرتَين: فقدانه الإيمان الديني، وخيبة أمله في الاضطرار إلى تقبُّل البديهيات كأساسٍ للهندسة. وكان أول مسعًى فلسفيٍّ حقيقيٍّ يتولاه هو إثبات أن الرياضيات تعتمد على المنطق؛ فنجاحه في هذا المسعى كان من شأنه أن يقدم أساسًا من اليقين للمعرفة الرياضية. فشل المشروع، لكن انطلقت من المحاولة عدة تطورات فلسفية مهمة. واتجه راسل بعد ذلك إلى مشكلات الفلسفة العامة؛ حيث يصبح العثور على اليقين أصعب. ومع ذلك أخذ يعمل في بناء نظريات كان يأمل أن توفر حلولًا مُرضية، بصرف النظر عن الطابع المراوغ لليقين. وراح يعود إلى هذه المشكلات مرة بعد مرة، ويطور آراءه ويغيرها وهو يؤمن بالأساليب التحليلية المستمدة من عمله المنطقي. وقد شعر في آخر الأمر أن بإمكانه أن يقول إنه حقق درجةً من النجاح، مع أنه كان يدرك أنه لم يكن يتفق معه إلا قلة من أقرانه الفلاسفة.
هناك قسم مهم في عملي الفلسفي — في عامَي ١٨٩٩-١٩٠٠ — أخذت فيه أعتنق فلسفة مذهب الذرية المنطقية وأسلوب بيانو في المنطق الرياضي. كان هذا تغيرًا جذريًّا هائلًا بحيث إنه يجعل عملي السابق — فيما عدا ما كان رياضيًّا بحتًا — غير ذي صلة بكل ما أنجزته فيما بعد. كان التغير في هذه السنوات بمنزلة تغير جذري؛ أما التغيرات اللاحقة فكانت تتسم بأنها بمنزلة تطوُّر.
كان التطور الذي أعقب التغير الجذري كبيرًا، ولكن كانت تحفزه في كل مرحلة حاجةٌ إلى حل المشكلات التي تأتي بها المراحل السابقة، أو — إذا كانت المشكلات أكبر من اللازم — إلى اكتشاف طرق بديلة للتقدم للأمام. وتوضح هذه المتوالية الجدلية من المشكلات أن الطرفة التي أطلقها تشارلز برود «ينتج السيد برتراند راسل نظامًا فلسفيًّا جديدًا كل عام أو نحو ذلك، أما السيد جي إي مور فلا ينتج أي نظام فلسفي على الإطلاق.» مع أنها تنطبق على مور، فإنها لا تنطبق على راسل، ولا سيما في تلميحها إلى الطابع المتقلب الذي تتسم به خطوات رحلة راسل الفلسفية.
وخلال السنوات التي تفصل بين حصوله على شهادته واكتشافه لبيانو — وهي تقريبا عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر — كان راسل خاضعًا لتأثير المثالية الألمانية كما كان يفضلها أساتذته في كامبريدج. وكانت النسخة المنشورة من أطروحة حصوله على الزمالة عبارة عن سردٍ عن الهندسة بالأسلوب الكانطي، ولكن ولاءه الأساسي كان لهيجل؛ إذ كتب سردًا عن الرياضيات بالأسلوب الهيجلي، وأعد جدلية مثالية كاملة للعلوم يهدف منها إلى إثبات أن كل الواقع أصله تصوُّر ذهني، وذلك بأسلوب هيجل.
تبرأ راسل من هذا العمل فيما بعد، بصرامته المعهودة، واصفًا إياه بأنه «ليس إلا محض هراء» (تطوري الفلسفي، ص٣٢). لقد طرأ التغير الجذري في أسلوبه الفلسفي — كما رأينا — نتيجةً لثورته المشتركة مع مور على المثالية، ونتيجةً لاكتشافه للعمل الفلسفي الذي أنجزه بيانو. وكان عمل بيانو مهمًّا للغاية؛ لأنه حفز من رغبة راسل لاشتقاق الرياضيات من المنطق، وقدَّم له الوسيلة اللازمة لتنفيذ ذلك. وكرس راسل السنوات ما بين عام ١٩٠٠ و١٩١٠ لهذه المهمة أساسًا، ونتج عن ذلك قدرٌ كبير من الإنجاز الفلسفي القيِّم. يناقش كتاب «مبادئ الرياضيات» (١٩٠٣) هذا المشروع، ويتألف كتاب «أصول الرياضيات» (١٩١٠–١٩١٣) من وصف تفصيلي لمحاولة تنفيذه. ومن بين الأبحاث الفلسفية القيِّمة التي أنجزها راسل أثناء ذلك كتاب «عن التدليل» (١٩٠٥)، وبعض الأفكار الواردة فيه صار لها تأثير هائل على تاريخ الفلسفة لاحقًا.
واستمرَّ العمل الفلسفي إبان هذه السنوات بعد أن انتهى العمل المنطقي المشترك بإصدار كتاب «أصول الرياضيات». وشرع راسل في تطبيق أساليب التحليل التي توصل إليها في هذا العمل على مشكلات الميتافيزيقا (الاستقصاء عن طبيعة الواقع) والإبستمولوجيا (الاستقصاء عن طريقة حصولنا على المعرفة واختبارنا لها). ويصف كتابه القيِّم القصير الخالد «مشكلات الفلسفة» (١٩١٢) الآراء الميتافيزيقية والإبستمولوجية التي كان يعتنقها آنذاك. كان ينوي أن يتناول هذه الآراء بمزيد من التفصيل في كتاباته اللاحقة، وبدأ في عام ١٩١٣ في كتابة مسودة لكتابٍ كبير، نُشر بعد وفاته بعنوان «نظرية المعرفة» (١٩٨٤). ولكنه كان غير راضٍ عن بعض جوانب الكتاب؛ لذلك قرر تفكيكه ونشره كجزء من سلسلة من الأبحاث، بدلًا من نشره في كتاب. وفي الوقت نفسه بدأ يطبِّق الأساليب المنطقية على تحليل الإدراك بِناءً على اقتراحٍ من وايتهيد؛ وأسفر ذلك عن مجموعة من المحاضرات ألقاها في جامعة هارفرد ونشرها لاحقًا في كتاب بعنوان «معرفتنا بالعالم الخارجي» (١٩١٤). ويمثل هذا الكتاب — إضافةً إلى بحث بعنوان «صلة البيانات الحسية بالفيزياء» نُشر في العام نفسه — استطرادًا من راسل ناقش فيه شيئًا مثل مذهب الظواهر. ومذهب الظواهر هو الرأي القائل بأن المعرفة الإدراكية يمكن تحليلها في إطار معرفتنا بالمعلومات الأساسية للتجربة الحسية. (وأقول «شيئًا مثل مذهب الظواهر» لأنه مع أن راسل وصف هذه الآراء بعد ذلك بنصف قرن بأنها تابعة لمذهب الظواهر، فإنها في الكتابات الأصلية ليست واضحة هكذا؛ وأناقش هذه النقطة في مكانها المناسب أدناه.) وبعد ذلك بأربع سنوات، في سلسلة أخرى من المحاضرات، طبَّق راسل منهجه التحليلي على الأشياء وطريقة حديثنا عنها. وأطلق على هذا المنهج «فلسفة مذهب الذرية المنطقية». وفي الوقت نفسه نشر كتابًا كان في الواقع نسخة شعبية من كتاب «أصول الرياضيات»، وعرض فيه الأفكار الأساسية لفلسفة الرياضيات. والكتاب بعنوان «مقدمة إلى الفلسفة الرياضية» (١٩١٨).
وفي عشرينيات القرن العشرين سعى راسل إلى تحسين تطبيق أساليبه التحليلية على فلسفة علم النفس والفيزياء والتوسع في ذلك. وكانت أول ثمرة لهذا السعي هي كتاب «تحليل العقل» (١٩٢١)، ويطبق فيه فهمه لمبدأٍ يشبه مذهب الظواهر على تحليل الكيانات العقلية. وكان الكتاب الثاني هو «تحليل المادة» (١٩٢٧)، وفيه يسعى راسل إلى تحليل المفاهيم الأساسية للفيزياء، مثل القوة والمادة، من منظور الأحداث. وحجة هذا الكتاب تتبع مذهب الواقعية تمامًا؛ فقد كان راسل يرى أنه من غير الممكن تحليل المفاهيم الأساسية للفيزياء دون الإقرار بوجود كيانات معينة يستحيل إدراكها؛ وبهذا انتهت علاقة راسل مع مذهب الظواهر. ومن الممكن أيضًا وصف الكتاب بأنه عودة إلى الواقعية؛ لأن راسل كان ملتزمًا بشكلٍ صارم بعض الشيء من الواقعية قبل أن يؤلف كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي».
بعد رحلة العودة من شكلٍ من أشكال مذهب الظواهر أو ما يشبهه، أعاد راسل التفكير في المشكلات التي أصبح يرى أنها لم تكن محلَّ معالجة مناسبة في ظل افتراضاته المبنية على مذهب الظواهر. ونتج عن ذلك كتاب «ما وراء المعنى والحقيقة» (١٩٤٠) حيث يناقش فيه ثانية علاقة التجربة بالمعرفة المشروطة، وكتاب «المعرفة الإنشائية» (١٩٤٨) ويعود فيه — من ضمن أمور أخرى — إلى موضوع تركه دون أن يناقشه مناقشة مناسبة في الكتابات السابقة؛ وهو الموضوع المهم المتعلق بالاستنتاج غير البرهاني (غير الاستدلالي)، من النوع الذي يُفترض عمومًا أنه يُستخدم في العلوم.
تستحق كل مرحلة من هذه المراحل على مدى تطور فكر راسل مناقشةً مستفيضة، ويمكن الاطِّلاع عليها في الأعمال المذكورة في قسم القراءات الإضافية في نهاية الكتاب. وفي الأقسام التالية أقدِّم سردًا موجزًا لهذه المراحل.
رفض المثالية
تتخذ المثالية عددًا من الصور المتباينة، ولكن عقيدتها الأساسية مفادها أن الواقع في جوهره له طابع ذهني. ولعل مصطلح «الفكرية» من الممكن أن يكون تسمية أفضل من المثالية، فمصطلح «المثالية» من المصطلحات الفنية في الفلسفة، وليس له علاقة بالمعاني العادية لكلمة «مثالي». والمثالية — في إحدى صورها، وفي رأي بيشوب بيركلي — هي الفرضية القائلة بأن الواقع يتألف جوهريًّا من مجموعة من العقول وأفكارها. وأحد هذه العقول غير متناهٍ، وتنشأ منه معظم الأفكار؛ ويعتبره بيشوب هو الذات الإلهية. وفي آراء لاحقة من النوع الذي يعتنقه تي إتش جرين وإف إتش برادلي — وكلاهما تأثر تأثرًا كبيرًا بالمثالية الألمانية — تكون الفرضية هي أن الكون يتألف جوهريًّا من عقل واحد يستشعر نفسه، إذا جاز التعبير. وهما يؤكدان أن خبرتنا المحدودة والجزئية والفردية، والتي تخبرنا أن العالم يتألف من مجموعة متعددة من الكيانات ذات الوجود المنفرد — والكثير منها، إن لم يكن معظمها، مادية أكثر منها ذهنية — متناقضة، أو على أقل تقدير مضللة. وتعددية الأشياء هذه ليست إلا «مظهرًا»، يُخفي الطبيعة الحقيقية للواقع بدلًا من أن يصوِّرها. وَيَشِي هذا بفكرة مهمة ملازمة للمثالية، تعلَّم راسل أن يتقبلها؛ وهي أنه نظرًا لأن التعددية عبارة عن مظهر مضلل، فإن الحقيقة هي أن كل شيء متصل بكل الأشياء الأخرى في الكون؛ ولذلك فإن الكون عبارة عن شيء واحد، وكل شيء هو عبارة عن كيان واحد. وهذا الرأي يُعرف بمذهب «الأحادية».
حين رفض مور وراسل المثالية في عام ١٨٩٨ (وكان نشْر مقال مور في ذلك العام، وعنوانه «طبيعة الرأي»، علامةً على ذلك الرفض) اعترض كلٌّ منهما على الفرضيات الأساسية التي تقوم عليها المثالية، وهي أن التجربة ومكوناتها تعتمد بعضها على بعضٍ اعتمادًا متبادلًا ومعقدًا، وأن كل شيء عبارة عن كيان واحد. وبهذه الطريقة التزما بمذهب «الواقعية»، وهي الفرضية التي تقول بأن مكونات الخبرة منعزلة عن الخبرة ذاتها، والتزما بمذهب «التعددية»، وهي الفرضية القائلة بأنه يوجد الكثير من الأشياء المستقلة المنفردة في العالم.
كان راسل يرى أن المثالية والفكرة الملازمة لها — الأحادية — تنشآن من نظرة «للروابط» تُفسح، فور دحضها، المجالَ للواقعية التعددية. والروابط تعبر عنها تعبيرات مثل «أ تقع على يسار ب»، و«أ موجودة قبل ب»، و«أ تحب ب». كان راسل يرى من وجهة النظر المثالية أن كل الروابط «داخلية»، بمعنى أنها عبارة عن صفات للأطراف التي تصل بينها، وتظهر — في وصفها الكامل — كصفات للكل الذي تؤلفه بما فيها من أطراف. يكون هذا أحيانًا قابلًا للتنفيذ؛ ففي «أ تحب ب» فكرة محبة أ ﻟ ب عبارة عن صفة ﻟ أ — بمعنى أنها عبارة عن حقيقة عن طبيعة أ — والحقيقة المعقدة التي تدل عليها «أ تحب ب» تحمل صفة المحبة التي يتلقاها ب من أ. ولكن إذا كانت كل الروابط داخلية، يترتب على ذلك فورًا أن الكون يتألف مما يطلِق عليه الفيلسوف المثالي هارولد جواكيم «الكل ذو المعنى»؛ لأنه يعني أنه من طبيعة أي شيء أن يكون متصلًا بكل شيء آخر؛ وبناءً على ذلك، فإن أي وصف كامل لأي شيء سيُطلِعنا على كل شيء عن الكون بالكامل، وبالعكس. يعبر برادلي عن هذه الجزئية كما يلي: «الواقع واحد. ويجب أن يكون مفردًا لأن التعددية — في حالة الإقرار بأنها حقيقية — تناقض نفسها؛ فالتعددية تفترض ضمنًا وجود الروابط، وهي تفرض دائمًا كرهًا وجود وحدة عليا، وذلك من خلال روابطها» (المظهر والواقع، ص٥١٩).
رد راسل معترضًا على هذا الرأي بقوله إن أتباع مذهب المثالية يرتكبون خطأً جوهريًّا، وهو أنهم يفترضون أن كل القضايا تتخذ صيغة الموضوع والمحمول. فلنأخذ عبارة «الكرة مستديرة». يمكن استخدام هذه العبارة للتعبير عن قضية تُسند فيها صفة الاستدارة إلى كرةٍ معينة («تُسند» معناها: تنطبق على، تقال عن). ففي رأي راسل، أخطأ أتباع مذهب المثالية حين ظنوا أن كل القضايا — حتى الارتباطية — تتخذ شكل الموضوع والمحمول؛ مما يعني أن كل قضية يجب أن تؤلف في التحليل النهائي إسنادًا عن الواقع ككلٍّ، وأن الروابط في حد ذاتها غير واقعية. على سبيل المثال: من وجهة النظر المثالية، ينبغي فهم القضية «أ موجودة إلى اليسار من ب» على أنها تقول: «الواقع يتصف بصفة أن أ تبدو إلى اليسار من ب» (أو نحو ذلك).
ولكن إذا رأى المرء أن الكثير من القضايا ارتباطي في الشكل على نحوٍ يتعذَّر فصْمه، فإن المرء هكذا يرى أن الأحادية زائفة؛ فقولنا إن الكثير من القضايا ارتباطي على نحوٍ يتعذر فصْمه يساوي قولنا إن الروابط حقيقية أو «خارجية»؛ فهي لا تقوم على الأطراف التي تصلها؛ فالرابطة «إلى اليسار من» لا تنتمي في حد ذاتها إلى أي شيء مكاني، بمعنى أنه ليس من الضروري أن يوجد شيء مكاني إلى اليسار من أشياء أخرى. وذهب راسل إلى أنه لكي نضمن صحة أن «أ على يسار ب»، يجب أن يكون لدينا أ وكذلك ب «على نحوٍ منفصل» حتى تصبح الأولى طرفًا في رابطة مع الثانية، وهي رابطة «إلى اليسار من». وبالطبع فإن قولنا بوجود أكثر من شيء واحد معناه رفض الأحادية.
ويشكل رفض الأحادية رفضًا للمثالية في رأي راسل؛ لأنه من الضروري في المثالية أن تكون الرابطة التي تربط الخبرة بالأشياء المكوِّنة لها رابطة داخلية؛ وهو ما يساوي بالتبعية أن نقول بعدم وجود رابطة من هذا النوع؛ وهو ما يساوي بالتبعية أن نقول إن الروابط غير حقيقية. ولكن في رأي راسل المخالف القائل بأن الروابط حقيقية، لا يمكن دمج الخبرة مع الأشياء المكوِّنة لها؛ بمعنى أن تلك الأشياء موجودة بمعزل عن كونها أشياء تُستشعَر. ويصب هذا في صميم ما كان يقصده كلٌّ من راسل ومور بالواقعية.
من غير المؤكد ما إذا كان راسل محقًّا في الظن أن كل أتباع المثالية (بما فيهم لايبنتس) — وقبلهم فلاسفة العصور الوسطى أصحاب فكرة ميتافيزيقا المادة والصفة — كانوا ملتزمين بالرأي القائل بأن كل القضايا تتخذ شكل الموضوع والمحمول. ولكنه قطعًا اعتبر أنه اكتشف خللًا مهمًّا للغاية في الفلسفة السابقة. وبعد رفض المثالية اتجه لفترةٍ إلى النقيض منها؛ وهو أن يكون واقعيًّا حيال كل شيء. وكان على حد قوله «تابعًا ساذجًا لمذهب الواقعية» من حيث إنه كان يؤمن أن كل ما يدركه من صفات الأشياء المادية هي صفات حقيقية لها، وأنه كان تابعًا لمذهب الواقعية من الزاوية الفيزيائية؛ لأنه كان يؤمن بأن كل الكيانات النظرية للفيزياء هي عبارة عن «كيانات موجودة فعليًّا» (تطوري الفلسفي، ص٤٨-٩)، وأنه كان تابعًا لمذهب الواقعية من الزاوية الأفلاطونية؛ لأنه كان يؤمن كذلك بوجود — أو على الأقل ﺑ «كينونة» (وهي درجة مخففة وربما أقل من الوجود) — «الأعداد والآلهة الإغريقية والروابط والكائنات الخرافية مثل وحش الكمير والأمكنة الرباعية الأبعاد» (مبادئ الرياضيات ص٤٤٩). ولاحقًا شذب راسل هذا الكون الباذخ بتطبيق قاعدة نصل أوكام، وهو المبدأ القائل بأنه لا ينبغي زيادة عدد الكيانات دون ضرورة. فعلى سبيل المثال، إذا كان من الممكن شرح الأشياء المادية باستفاضة في سياق الكيانات دون الذرية، فينبغي ألا تحتويَ القائمة الأساسية لمكونات الكون على الأشجار من جهةٍ وأيضًا على اللبتونات والكواركات وغيرها من الجسيمات القياسية التي تتألف منها الأشجار من جهةٍ أخرى. وكانت هذه هي الطريقة التي طبق بها أسلوب التحليل فيما بعد. ولكنه كان لا يزال يؤمن بصيغةٍ شاملة من مذهب الواقعية في كتاب «مبادئ الرياضيات»؛ فعاد إلى الواقعية بعد أن اطَّلع على أعمال جيوسيبي بيانو في باريس في عام ١٩٠٠.
أصول الرياضيات
كان لايبنتس يحلم بوجود «لغة شاملة»، وهي لغة شاملة ودقيقة تمامًا، ستحلُّ عند استخدامها كلَّ المشكلات الفلسفية. وأقرَّ راسل — في كتابه الذي يتناول لايبنتس — أن هذا الحلم كان توقًا إلى اكتشاف منطقٍ رمزي، كان يقصد به راسل آنذاك الجبر البولياني الذي وضعه جورج بول في منتصف القرن التاسع عشر. ولكنه لم يكن يظنُّ في تلك المرحلة أن لايبنتس كان على الصواب في افتراض أنه يمكن حل المشكلات الفلسفية باستخدام التفاصيل الفنية التي يقوم عليها نظام منطقي استدلالي؛ لأن الأسئلة المهمة حقًّا في الفلسفة تتعلق بشئون «سابقة على الاستدلال»، وهي المفاهيم أو الحقائق المشار إليها في المقدمات التي ينطلق منها الاستنتاج. وكان راسل يؤكد أنه أيًّا كانت هذه المشكلات، فإن المنطق لا يقدمها لنا؛ إذ إن المنطق يمكنه مساعدتنا في الاستدلال عليها فقط.
ولكن راسل غيَّر رأيه حين اطَّلع على أعمال بيانو. واستلهم راسل على الفور من خطوات التقدم التي حققها بيانو في الأسلوب المنطقي (سبقه إليها جوتلوب فريجه، ولكن ذلك لم يدركه أيٌّ من بيانو أو راسل آنذاك) طُرقًا لصياغة المبادئ الأساسية للمنطق، ولعرض شيئين في غاية الأهمية؛ أولًا: كيفية تعريف كل مفاهيم الرياضيات من حيث المبادئ الأساسية، وثانيًا: كيفية إثبات كل الحقائق الرياضية انطلاقًا من تلك المبادئ الأساسية. باختصار، استلهم راسل منها كيفية إثبات أن لا فارق بين المنطق والرياضيات. وهذا هو الهدف من كلٍّ من كتاب «مبادئ الرياضيات»، وصيغته الأكثر استفاضة وهو كتاب «أصول الرياضيات».
ويُعرف مشروع اشتقاق الرياضيات من المنطق باسم «النزعة المنطقية». ولم يسعَ راسل في كتاب «مبادئ الرياضيات» إلى مناقشة هذه الجزئية من البرنامج باستفاضة؛ إذ لم يزد عن تقديم وصفٍ مختصر سطحي. لكنه أدرج المناقشة المستفيضة في كتاب «أصول الرياضيات». وكان من بين أهم الأسباب التي دعت راسل إلى تأجيل المهمة حتى إصدار كتاب «أصول الرياضيات» هو أنه اكتشف وجود تناقض ظاهري؛ مما كان يهدد المشروع بأكمله.
كان علماء الرياضيات الأوائل يستقصون عن الروابط الموجودة ضمن المفاهيم الرياضية وأقرُّوا بأنها كلها قابلة للاختزال إلى الأعداد الطبيعية (الأعداد المستخدَمة في العد ١، ٢، ٣ …) مع أنه لم يكن أحد قد برهن على هذا بدقة حتى ذلك الحين. وكانت الخطوة الأولى في البرنامج إذنْ هي تعريف الأعداد الطبيعية بمصطلحات منطقية. وهذا هو ما أنجزه فريجه من قبل، مع أن راسل لم يدرك ذلك آنذاك.
وفي ظل تطبيق هذه المفاهيم، يتسنَّى حل مجموعة كبيرة من المشكلات، ومن بينها: كيفية تعريف العددين صفر و١ (أشار راسل إلى أن هذين العددين من أصعب المفاهيم في الرياضيات)، وكيفية التغلب على الأحاجي المستندة إلى «واحد وكثير» (هل الكرسي شيء واحد أم كثير من الأشياء: أهو كيان واحد، أم كثير، إذا أحصيتَ أجزاءه ومكوناته؟) وكيفية فهم الأعداد غير المتناهية. وفور تعريف الأعداد الكاملة، لا تمثل الأعداد الأخرى (الأعداد الموجبة والسالبة والكسور والأعداد الحقيقية والأعداد المركبة) أيَّ صعوبة تُذكر.
ومن ثَمَّ يصبح الجزء الأول من البرنامج — وهو تعريف المفاهيم الرياضية في ضوء المفاهيم المنطقية — عمومًا غير معقَّد، وذلك بمجرد أن تتوافر التفاصيل الفنية المناسبة. ويتضح أن الجزء الثاني — وهو الجزء المتعلق بالنزعة المنطقية الذي ينطوي على بيان إمكانية إثبات الحقائق الرياضية من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها المنطق — أصعبُ بكثير.
والسبب الأساسي في ذلك — من وجهة نظر راسل آنذاك — كان اكتشافه لوجود تناقض ظاهري. ويتصل ذلك التناقض الظاهري بمفهوم محوري للمشروع، كما يعرض الوصف المختصر السابق: مفهوم الفئات. ووجد راسل نفسه يتفكَّر أثناء عمله في حقيقة أن بعض الفئات — وبعضها ليس كذلك — أفراد لأنفسها؛ فمثلًا، فئة ملاعق الشاي ليست في حد ذاتها ملعقة شاي؛ ولذلك ليست عضوًا لنفسها، ولكن فئة الأشياء من غير ملاعق الشاي هي فرد من نفسها لأنها ليست ملعقة شاي. ماذا إذنْ بخصوص الفئة التي تضم كل الفئات التي ليست أفرادًا لأنفسها؟ إذا لم تكن هذه الفئة فردًا من نفسها، تصبح بالتبعية فردًا من نفسها؛ وإذا كانت فردًا من نفسها، فلن تصبح بالتبعية فردًا من نفسها؛ إذنْ فهي فرد من نفسها وليست فردًا من نفسها في الآنِ عينه؛ ومن هنا يأتي التناقض الظاهري.
في البداية ظنَّ راسل أن السبب في ذلك يعود إلى خطأٍ تافه، ولكن اتضح له أنَّ كارثة قد حلت، وذلك بعد أن بذل جهدًا كبيرًا لتصحيح الأمور، وبعد التشاور مع فريجه ووايتهيد. ونشر راسل «مبادئ الرياضيات» دون أن يجد حلًّا. ولكن أثناء انكبابه هو ووايتهيد على تأليف كتاب «أصول الرياضيات»، ظن أنه قد وجد الحل، ولكن ثبت أن الاستراتيجية التي وضعها خلافية للغاية. وفيما يلي وصف لمجريات الأمر.
اكتشف راسل أنه يتعذَّر مواصلة محاولة استنتاج النظريات الرياضية من بديهيات منطقية بحتة دون وجود بديهيات إضافية تتيح إثبات نظريات معينة في علم الحساب ونظرية المجموعات. ويوجد بديهيتان من هذه البديهيات الإضافية (تفاصيلهما غير مهمة؛ أذكرهما على سبيل الاكتمال) هما: «بديهية اللانهائية»، وتقول إنه يوجد مجموعات غير متناهية في العالم، و«بديهية التغير» (وأحيانًا يُطلق عليها «بديهية التضاعف») وتقول بأن داخل كل مجموعة من المجموعات غير المتوالية غير الفارغة توجد مجموعة تتقاسم عضوًا واحدًا بالضبط مع كلٍّ من المجموعات الفردية الأخرى. توجد حاجة إلى وجود البديهيات حتى يتسنَّى تعريف الأعداد من حيث الفئات، كما سبق الوصف. ولكن يبدو أن كلتيهما تنطويان على صعوبة ما، وهي أنهما ذواتا طابع وجودي، بمعنى أنهما تقولان «يوجد كذا» — في الحالة الأولى عدد، وفي الثانية مجموعة — وهذه مشكلة لأنه لا ينبغي أن يُعنى المنطق بما يوجد أو بما لا يوجد، بل ينبغي أن يُعنى بالأمور الشكلية تمامًا فقط. ولكن راسل وجد حلًّا، وهو تناول التعبيرات الرياضية باعتبارها جملًا شرطية؛ أي باعتبارها جملًا بصيغة «إذا … إذنْ»، على أن تشغل البديهيات الفراغ الموجود بعد «إذا»: وكأنها تقول، «إذا سلمت بصحة هذه البديهية، إذنْ …» ونظرًا لأن هذه الجمل الشرطية قابلة للاستنتاج من بديهيات المنطق؛ فلا يهم الاستعانة الظاهرية بالاعتبارات الوجودية.
ولكن نشأت صعوبة أكبر بكثير من بديهية إضافية ثالثة، وهي «بديهية قابلية الاختزال». هذه هي البديهية التي استخدمها راسل للتغلُّب على مشكلة التناقض الظاهري، ولكن علماء المنطق الآخرين لا يستطيعون تقبُّلها.
ترتبط بديهية قابلية الاختزال ﺑ «نظرية الأنماط» التي وضعها راسل. توجد طريقة مبسطة لفهم هذه النظرية، وذلك من خلال ملاحظة أن التناقض الظاهري الذي اكتشفه راسل سببه أن صفة «عدم كون الفئة فردًا من نفسها» تنطبق على الفئة التي تضم كل الفئات التي تحمل تلك الصفة. لكن إذا أمكن ابتكار قيد يقضي بأن هذه الصفة قابلة للتطبيق على الفئات التي تضم أفرادًا فقط وليس على الفئة التي تضم فئات، فلن ينشأ تناقض ظاهري. ويوحي هذا بأنه لا بد من وجود ما يشبه فارقًا يتألف من مستويات فيما بين الصفات، بحيث إن الصفات المسندة في مستوًى معينٍ يتعذَّر إسنادها عند مستوًى أعلى.
توجد صيغة معدلة من نظرية الأنماط — وهي صيغة أبسط من الصيغة التي وضعها راسل — تحمل هذا المعنى وتبدو جديرة بالتصديق في رأي بعض علماء المنطق. وكان مَن اقترحها هو عالم الرياضيات والفيلسوف فرانك رامزي، وتُعرف هذه النسخة باسم «النظرية البسيطة للأنماط». وهذه النظرية تسير كما يأتي: اللغة التي تنطبق على حقلٍ معين تحمل تعبيرات جبرية من المستوى ١ — الأسماء — وتشير إلى الأشياء الموجودة في الحقل، وتحمل تعبيرات جبرية من المستوى ٢ — المحمولات — وتشير إلى صفات تلك الأشياء فقط، وتحمل تعبيرات جبرية من المستوى ٣ — محمولات المحمولات — وتشير إلى صفات تلك الصفات فقط … وهكذا. والقاعدة هي أن كل تعبير جبري ينتمي إلى نمطٍ معين ولا ينطبق إلا على التعبيرات الجبرية من النمط التالي الذي يليه في التسلسل الهرمي. وفي ضوء الوصف المبسط الذي ذكرته، نرى كيف أن هذه الاستراتيجية تقدِّم حلًّا لمشكلة التناقض الظاهري.
تُعرف النسخة المعقدة من نظرية الأنماط التي وضعها راسل باسم «النظرية المتشعبة للأنماط». (فهم هذه النظرية فهمًا صحيحًا من الأمور الخلافية — انظر، على سبيل المثال، هايلتون ١٩٩٠، الفصل السابع — ولكن الوصف التالي قد يقدِّم تقريبًا أوليًّا.) كان السبب الذي دفع راسل إلى ابتكار «التشعب» — ويُقصد به التقسيم الداخلي للأنماط إلى «رُتب» — هو أنه كان يعتقد أن العثور على حل لمشكلة التناقض الظاهري كان يتطلب ذلك بالتحديد. وكان تصوره أن مشكلة التناقض الظاهري تنشأ من محاولة تعريف الصفات باستخدام تعبيرات جبرية تحتوي على إشارةٍ إلى «كل الصفات»؛ لذلك كان لا بد من التحكم بشدةٍ في الحديث عن «كل الصفات»؛ ومن ثَمَّ، يجب تقسيم صفات النمط ١، مثلًا، تقسيمًا فرعيًّا إلى رُتب: رتبة أولى من الصفات لا يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل الصفات»؛ ورتبة ثانية من الصفات يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل صفات الرتبة الأولى»؛ ورتبة ثالثة يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل صفات الرتبة الثانية»؛ وهكذا. وما دام لا تَرِد إشارةٌ قط إلى «كل الصفات» ولا تنسبها إلى رتبة محددة، فلا تُعرَّف أي صفة بحيث يُشار إلى المجموعة الكلية التي تنتمي إليها. وتضمن هذه الطريقة تجنب التناقض الظاهري.
ولكنها تحقق هذه النتيجة على حساب جانبٍ آخر؛ فهي تتسبَّب في إدخال صعوبات في نظرية الأعداد الحقيقية بحجب أهم تعريفاتها ونظرياتها. وللتغلب على هذه المشكلة ابتكر راسل بديهية القابلية للاختزال، وتحاول هذه البديهية تصميم طريقة لاختزال الرُّتب الموجودة ضمن نمطٍ ما إلى الرتبة الأدنى. وتخلَّى راسل عن هذه الخطوة في الطبعة الثانية من كتاب «أصول الرياضيات» (١٩٢٧) بعد أن شبَّهها أحد المعلقين باستخدام «القوة المفرطة» لإنقاذ نظرية الأعداد الحقيقية. ولكنه وجد نفسه في مأزق لأنه لم يستطع قَبول وجود أي بديل للنظرية المتشعبة للأنماط. وفي رد فعلٍ لهذا الموقف، قدم رامزي النظرية «البسيطة» للأنماط التي سبق وصفها. (تجدر الإشارة إلى أن نظرية رامزي تستدعي المناقشة في حد ذاتها؛ فهي تقدم طرحًا خلافيًّا مفاده أن الطابع الدائري الذي تتسم به التعريفات التي تنسب الصفات إلى نفسها غير ضارٍّ؛ وتتطلَّب النظرية اعتناق وجهة نظر واقعية خلافية بالقدر نفسه عن وجود المجموعات الكلية قبل تعريفها.)
اصطدمت طموحات راسل المتعلقة بالنزعة المنطقية بصعوبات، وهو ما يرجع في جزء منه إلى طبيعة الطموحات نفسها وفي جزء آخر إلى أن النزعة المنطقية نفسها غير قابلة للتنفيذ، وذلك كما توحي التطورات اللاحقة التي شهدتها الرياضيات، ولا سيما أعمال كيرت جوديل. برهن جوديل على أن أي نظام منهجي يلائم نظرية الأعداد ينطوي على معادلة غير قابلة للتحديد، بمعنى أنها معادلة لا يمكن إثبات صحتها أو إثبات نفيها. ومن النتائج المباشرة لهذه النظرية أن يتعذر إثبات اتِّساق مثل هذا النظام داخل النظام؛ لذلك لا يستطيع المرء افتراض أن الرياضيات (أو أيًّا من أقسامها الكبرى) يمكن تزويدها بمجموعة من البديهيات الكافية لإنتاج كل حقائقها. وتبرهن أعماله على أن المنهج القائم على البديهيات ينطوي على عوائق شديدة متأصلة، وأن الطريقة الوحيدة لإثبات اتساق الكثير من أنواع أنظمة الاستدلال هي استخدام نظام استنتاج معقد إلى حدٍّ يجعل اتساقه هو نفسه محل شك بالقدر نفسه.
كان ما يحتاج إليه راسل لمواصلة مشروعه المنطقي هو تنظيمًا منهجيًّا يستبعد إمكانية التناقض. وتفيد أعمال جوديل أن هذا مستحيل. ولا بد من أن نستنتج من ذلك أن الإنجاز الذي أحرزه كتاب «مبادئ الرياضيات»، وكتاب «أصول الرياضيات» بوجهٍ خاصٍّ، لا يكمن في درجة تحقيق كلٍّ منهما لأهدافه المعلنة، بل فيما يمكن أن يُطلق عليه «النتائج الاشتقاقية» المهمة التي حققاها في مجالَي المنطق والفلسفة.
نظرية الأوصاف
كان من أبلغ النتائج الاشتقاقية تأثيرًا «نظريةُ الأوصاف» التي وضعها راسل. وحقَّقَ راسل باستنباط هذه النظرية المهمة عددًا من الأهداف المختلفة؛ فمن الدروس التي استفادها من انتقاد المذهب المثالي هو أن القواعد النحوية السطحية للغة من الممكن أن تضلِّلَنا بخصوص معنى ما نقوله. كما سبق، كان راسل يظن أن السبب الذي كان يدفع الفلاسفة إلى اعتناق ميتافيزيقا المادة والصفة — وهو رأي يتوغل في صعابٍ عويصة، كما يتبيَّن من الجدل الذي شهده تاريخ الفلسفة — هو أنهم رأَوْا أن كل القضايا تتخذ صيغة موضوع ومحمول أساسًا؛ فقد تناول الفلاسفة عبارتَي «الطاولة مصنوعة من الخشب» و«الطاولة تكون إلى يسار الباب» على أن الموضوع في كلٍّ منهما هو كلمة «الطاولة»، وأن المحمول هو الكلمات التي تلي الفعل الرابط «فعل الكينونة» في كلتيهما. ولكن فيما يمكن أن تعد الجملة الأولى قضية من هذا النوع، فإن الجملة الثانية تعبر عن شيء مختلف بعض الشيء؛ قضية ارتباطية، وهي في الواقع تحتوي على موضوعين («الطاولة» و«الباب»)، وهي تؤكد على أن كلًّا منهما تجمعه رابطة معينة بالآخر. وهكذا فإن الصيغة المنطقية للجملة الثانية مختلفة بعض الشيء عن الصيغة المنطقية للجملة الأولى؛ ومن ثَمَّ، كان لا بد — من وجهة نظر راسل — من وجود منهج لكشف الصيغة الكامنة الحقيقية لما نقوله من أجل مساعدتنا على تجنب الأخطاء الفلسفية.
وكانت الخطوة المهمة التالية التي اتخذها راسل هي تطبيق المنطق الجديد على هذه المهمة. ومثلما يفيد المنطق الجديد في تعريف مفاهيم الرياضيات وعملياتها، فهو يفيد أيضًا في تحليل ما نقوله عن العالم؛ وبهذا نحصل على صورة صحيحة عن الواقع.
ولعرض كيفية تنفيذ نظرية الأوصاف لهذه المهمة، يمكن وصف كيفية حل هذه النظرية لمشكلة مهمة تتعلق بالمعنى والإسناد. تأتي أصول تناول راسل لهذه المشكلة في أعمال الفيلسوف النمساوي أليكسيوس مينونج، وقد درسها راسل دراسة متأنية؛ ولذلك كانت من المؤثرات المبكرة التي تأثر بها. كان مينونج يرى أن العبارات الدالة — أسماء مثل «راسل» وأوصاف مثل «مؤلف كتاب مبادئ الرياضيات» — لا يمكن أن ترد على نحوٍ ملحوظ في القضايا (تحديدًا: في الجُمل التي تعبر عن قضايا) إلا إذا كان ما تدل عليه موجودًا. وأخذ مينونج يدافع عن رأيه بقوله: فلنفترض أنك تقول «الجبل الذهبي ليس موجودًا». من الواضح أنك تتحدث عن شيء — الجبل الذهبي — وأنت تؤكد على أنه غير موجود؛ وما دام ما تقوله له معنًى، فلا بد أنه يوجد جبلٌ ذهبي، بمعنًى معين. وتقول نظريته إن كل شيء يمكن التحدث عنه — تسميته والإشارة إليه — لا بد أن يكون إما موجودًا أو له «كينونة» من نوعٍ ما حتى لو كانت تلك الكينونة لا تساوي الوجود، وإلا صار ما نقوله مجردًا من المعنى.
تقبَّل راسل هذا الرأي في البداية، وطرحه فعلًا في كتاب «مبادئ الرياضيات»؛ وهذا هو السبب — كما ذكرت آنفًا — في أنه ذكر في هذا الكتاب اعتقاده بوجود — أو على الأقل بكينونة — «الأعداد والآلهة الإغريقية والكائنات الخرافية مثل وحش الكمير». ولكن سرعان ما أساءت عدم قابلية تصديق هذا الرأي إلى «رؤيته النابضة بالحياة للواقع» — على حدِّ تعبيره — لأنه لم يحشد الكون بكيانات مجردة وأسطورية فقط، بل أيضًا بأشياء مستحيلة مثل «المربع المستدير»، ولم يستطع راسل أن يقبل هذا.
استخدم راسل أساليب المنطق لاستنباط حلٍّ جميل. لم يكن يرغب في التخلي عن الرأي القائل بأن أي اسم لا يكون ذا معنًى إلا إذا كان يوجد شيء يُطلق عليه هذا الاسم، ولكنه حاول أن يؤكد أن الأسماء «الصحيحة منطقيًّا» هي وحدها تلك الأسماء التي تدل على كيانات «محددة» يمكن أن «يتعرف» عليها المرء. وكان راسل يقصد ﺑ «التعرف» صلة مباشرة وفورية بين الذهن والشيء؛ وتشمل الأمثلة الوعي بالبيانات الحسية التي يحيط بها الإدراك (انظر أدناه) ومعرفة مثل تلك الكيانات المجردة على أنها قضايا. الأسماء الصحيحة منطقيًّا هي وحدها التي يمكنها أن تشغل مكان الموضوع نحويًّا في الجُمل. وأفضل الأمثلة اسما الإشارة «هذا» و«ذلك»؛ لأنه من المؤكد وجود إحالة لهما في كل مرة يُستخدمان فيها. وكل عبارات التسمية الظاهرية الأخرى هي في الحقيقة ليست عبارات تسمية على الإطلاق، بل هي — أو عند تحليلها يتضح أنها — «أوصاف مُعرَّفة»، بمعنى أنها عبارات مُعرَّفة ﺑ «أل». وتكمن أهمية هذا في أنه عند تحليل الجُمل التي تحتوي على أوصاف، تختفي العبارات الوصفية؛ ومن ثَمَّ لا يتوقف معنى ما يقوله المرء على وجود مفترض أو كينونة مفترضة لكيانٍ ما يبدو أن الأوصاف — وفقًا للقواعد النحوية السطحية — تدل عليه.
- (١)
لفرنسا ملك.
- (٢)
ليس لفرنسا أكثر من ملك واحد.
- (٣)
ملك فرنسا أيًّا كان هو أصلع.
الجملة (١) هي ادِّعاء بالوجود؛ والجملة (٢) ادِّعاء بالتفرد، بمعنى أنها تحتوي على معنًى ضمنيٍّ لأداة التعريف «أل» في الوصف يقضي بأنه لا يوجد إلا شيء واحد نتحدث عنه؛ والجملة (٣) هي الإسناد. تكون الجملة الأصلية «الملك الحالي لفرنسا أصلع» صحيحة حين تكون كل العناصر الثلاثة صحيحة؛ وتكون كاذبة إذا كان أيٌّ منها كاذبًا. وفي الحالة الراهنة تكون الجملة كاذبة لأن العنصر (١) كاذب.
لا يظهر وصف «الملك الحالي لفرنسا» في أيٍّ من (١)–(٣). وما دامت العبارة الوصفية قد اختفت — جرى التخلص منها بالتحليل — فلا ضرورة لاستحضار ملك حقيقي لفرنسا لجعْل الجملة ذات معنًى.
- (١)
- (٢)
- (٣)
تتخذ أوجه الاعتراض على نظرية راسل أساسًا صورة التصدي لادِّعائه بأن الأوصاف المُعرَّفة ليست عبارات إحالة مطلقًا، والتشكيك في تحليله للجمل التي تحتوي عليها في مكان الموضوع نحويًّا. وفي العلاقة الأخيرة يذهب البعض إلى الادِّعاء بأن الأوصاف المُعرَّفة تضم ادَّعاءَي التفرد والوجود.
من الممكن أن نضرب مثالًا على مشكلة التفرد بشخصٍ يقول: «الطفل الرضيع يبكي.» يفترض تحليل راسل ضمنًا — فيما يبدو — أن هذه الجملة لا يمكن أن تكون صحيحة إلا في حالة وجود طفل رضيع واحد فقط في العالم. والحل هو اشتراط وجود فهْم ضمني يجعل سياق الكلام يوضح أي قدرٍ من العالم يندرج في النطاق الذي ينطبق عليه الكلام. لنفترض أن والدَي طفلٍ رضيع يقيمان في بناية سكنية يوجد فيها عشرات الأطفال الرُّضَّع، وكلهم يبكون، فيبدأ طفلهما يبكي هو الآخر. فإذا قال الأب: «الطفل الرضيع يبكي.» فلن يحدث سوء فهم بالتأكيد لأن السياق يقيد الإحالة إلى الطفل الرضيع الوحيد الذي يهمهما. يبدو الأمر بديهيًّا، ويقدم طرقًا للتخلص من الاعتراض من خلال الاحتكام إلى الحدود الضمنية والصريحة ﻟ «مجال الخطاب».
أما المشكلة المتعلقة بالوجود، فهي أشد تعقيدًا بعض الشيء. في مناقشة يكثر الاستشهاد بها لنظرية راسل، يحاول بي إف ستروسون أن يبرهن على أن قول «الملك الحالي لفرنسا أصلع» لا يعادل «التصريح» بوجود ملكٍ لفرنسا حاليًّا، بل هو افتراض أو افتراض مسبق بوجوده (كتاب «عن الإحالة»، من دورية مايند، ١٩٥٠). ويتضح ذلك من خلال فكرة أنه إذا قال شخص هذه الجملة، فمن غير المحتمل أن يقول محدثوه: «تلك معلومة كاذبة.» بل سيقولون بدلًا من ذلك: «ليس لفرنسا ملك حاليًّا.» وبهذا يَصوغون الجزئية التي لم يَصُغْها هو في الواقع كتصريح، بمعنى أنه لم ينجح في أن يقول شيئًا صحيحًا أو كاذبًا. وهذا يساوي القول بأن الأوصاف يجب أن تكون عبارات إحالة؛ لأن جزءًا مهمًّا من إسهامها في قيم الصواب للجمل التي تحتوي عليها هو أن الجُمل قيد المناقشة — ما لم تؤدِّ وظيفة إحالة — لا تحمل أي قيمة حقيقة مطلقًا.
إن استخدام ستروسون لفكرة «الافتراض المسبق» لشرح كيفية عمل الأوصاف — وذلك في سياق رأيه المعارض — في الجُمل؛ قد تسبب في انطلاق قدرٍ هائل من الجدل النقدي، وتسبب ذلك أيضًا في استعداده للسماح ﺑ «فجوات قيم الصواب»، بمعنى انعدام قيمة الصواب في جملة ذات معنًى؛ وبهذا ينتهك «مبدأ ثنائية التكافؤ» الذي يقضي بأن كل جملة (تقريرية) يجب أن تحتويَ على إحدى قيمتَي الحقيقة: إما «صحيحة» وإما «كاذبة». ولكن لا شك أن الرد الأهم على النقد الذي وجَّهه لراسل هو القول بأن الفكرة التي تستند إليها حجته — وهي أنه من المستبعد أن نقول: «هذه معلومة كاذبة.» حين يقول شخص: «الملك الحالي لفرنسا أصلع.» — لا تعني أنه يتعذر اعتبار الوصف بمنزلة إصدار ادِّعاء يتعلق بالوجود. ربما يكون صحيحًا أننا قد نرد على ذلك بإنكار وجود ملكٍ لفرنسا؛ وعلى كلٍّ ربما يكون قولنا فقط «هذه معلومة كاذبة» مضللًا؛ لأنه قد يلمح إلى شيء مختلف للغاية، وهو أن لفرنسا ملكًا غير أصلع. ولكن إذا أجبنا ﺑ «ليس لفرنسا ملك حاليًّا.» فإننا نكون قد أقررنا في الواقع بأن استخدام الوصف يصدر ادِّعاءً يتعلق بالوجود؛ إذ إن ذلك هو بالضبط ما يتناوله النفي.
من الانتقادات الأخرى أن راسل لم يدرك إمكانية استخدام الأوصاف بطريقتين مختلفتين؛ فلنتأمل الحالتين الآتيتين؛ أولًا: تشاهد لوحة فنية تعجبك، فتقول: «إن الرسام الذي رسم هذه اللوحة عبقري.» أنت لا تعرف الرسام، ومع ذلك تنسب العبقرية إليه. ثانيًا: اللوحة هي لوحة «العذراء مريم جالسة على الصخور»، وأنت تعلم أن ليوناردو دافنشي هو الذي رسمها. وتتمتم بالجملة نفسها في إعجاب. في الحالة الأولى يُستخدم الوصف استخدامًا «يفيد النعت»، أما في الحالة الثانية فيُستخدم استخدامًا «يفيد الإحالة». وكما يقول كيث دونيلان — وهو الذي وجَّه هذا الانتقاد — فإن رؤية راسل تتعلَّق فقط بالاستخدامات التي تُفِيد النعت. وهذه جزئية مهمة نظرًا لوجود حالات يمكن استخدام الوصف فيها استخدامًا ناجحًا للإحالة إلى شخصٍ ما حتى إذا لم يكن ينطبق عليه؛ فيمكن استخدام جملة «الرجل الذي يحتسي الشمبانيا هناك أصلع» لقول معلومة صحيحة حتى إذا كانت كأس الرجل الأصلع لا تحتوي إلا على ماء فوار.
من المحتمل أن يكون الرد على ذلك عن طريق التفرقة بين مستويات التحليل الدلالية والذرائعية. تصح رؤية راسل في المستوى الدلالي، وتجعل جملة «الرجل الذي يحتسي الشمبانيا أصلع» كاذبة حرفيًّا؛ لأنه مع أنه أصلع فعلًا، فإنه يحتسي الماء. وعلى المستوى الذرائعي نجحت الجملة في الإحالة، وأبلغت عن حقيقة؛ لأن هذا النوع من الاستعمال ينجز المهمة. ولكن ربما يحاول راسل أن يدافع عن رأيه بالقول إنه ما دام أن تحليله يهدف إلى نوع محدد من «التعبير» الذي يُفهم عمومًا على أنه إحالي تحديدًا، فإن ما يقوله يصح. أما الأسئلة المتعلقة بالاستعمال فهي موضوع آخر.
ومع ذلك، يطرح هذا الرد فعلًا أسئلة عن العلاقة التي تربط الاستعمال بالمعنى. فإذا كان الاستعمال يشغل جزءًا كبيرًا من المعنى، فلا بد من أخذ الحقائق المتعلقة به في الاعتبار عند شرح كيفية عمل العبارات. والسؤال المتعلق بقدر الأهمية التي يجب أن نوليها للاستعمال من الأسئلة الخلافية؛ إذ تزعم إحدى وجهات النظر أنه يكاد يستنفد المعنى، وترفض وجهات نظر أخرى هذا الادِّعاء. تتطلب نظرية راسل أن نفكر في دلالات العبارات واستعمالاتها على أنهما موضوعان قابلان للفصل على أقل تقدير.
ولهذا السبب ولأسبابٍ أخرى تتعلق أساسًا بموضوع الإحالة المهم من الناحية الفلسفية — عن كيفية تأثير اللغة على العالم — تؤدي نظرية راسل التي تتناول الأوصاف دورًا مهمًّا في المناقشات المتعلقة بفلسفة اللغة. وهذه النظرية مهمة لأغراضنا الحالية باعتبارها مثالًا للأسلوب التحليلي الذي طبَّقه على محاولاته لحل المشكلات التي كانت تعتري نظرية المعرفة والميتافيزيقا، كما سنرى الآن.
الإدراك والمعرفة
من أهم أسئلة الفلسفة السؤال التالي: ما هي المعرفة، وكيف نحصل عليها؟ أكد جون لوك ومَن جاءوا بعده من أتباع المدرسة التجريبية أن أساس المعرفة المشروطة عن العالم يكمن في الخبرة الحسية؛ أي استخدام الحواس الخمس، بمساعدة أجهزةٍ مثل مناظير الرؤية المقربة وما شابه ذلك، عند الضرورة. ولكن المدرسة التجريبية تواجه اعتراض الحجج المتشككة التي تهدف إلى إثبات أن مزاعمنا عن التوصل إلى المعرفة ربما كثيرًا — بل ربما دائمًا — ما تكون غير مبررة، وتوجد أسباب كثيرة لذلك؛ فنحن أحيانًا ما نرتكب أخطاءً في الإدراك أو الاستنتاج، وأحيانًا ما نحلم دون أن ندرك أننا نحلم، وأحيانًا ما تضللنا حواسنا بسبب تأثير الحمى أو المشروبات الكحولية؛ فكيف يمكننا أن نتيقَّن أن ما نزعمه لم تضعفه أيٌّ من هذه العوامل، في كل مرة نزعم فيها معرفتنا بشيءٍ ما؟
وضع راسل في كتاب «مشكلات الفلسفة» في عام ١٩١٢ أول محاولة منهجية للتصدي لهذه الأسئلة. وسأل راسل: هل توجد أي معرفة يقينية إلى حدٍّ يمنع أي إنسان لبيب من الشك فيها؟ ويجيب على ذلك بالإيجاب؛ ولكن يتضح أن اليقين أبعد ما يكون عن اليقين المطلق الذي يعززه الدليل.
على أساس الملاحظات المباشرة المتعلقة بالخبرة الإدراكية — فكرة أن طاولةً مثلًا تبدو وكأن لها ثلاثة ألوان وأشكال وملامس مختلفة، وذلك حسب تفاوتات توجد إما لدى من يدركها وإما في الظروف المحيطة بإدراكها — يمكننا أن نلاحظ أنه يوجد فارق بين مظاهر الأشياء وحقيقتها. كيف يمكننا أن نكون واثقين من أن المظهر يمثل بأمانةٍ الحقيقة التي نفترض أنها تتوارى وراءه؟ بل قد يثار سؤال — كما تشير نقاط التشكك المتعلقة بالأحلام والأوهام — بشأن ما إذا كان من الممكن أن نكون واثقين من وجود أشياء حقيقية فعلًا «وراء» خبراتنا الحسية أساسًا.
للرد على هذه الأسئلة يستنبط راسل مصطلح «البيانات الحسية» لتسمية الأشياء التي نعرفها مباشرةً عن طريق الحس؛ وهي أمثلة معينة تتعلق بالمعرفة الإدراكية للألوان والأصوات والنكهات والروائح والملامس، وكل فئة من المعلومات تقابلها إحدى الحواس الخمس. ويجب التمييز بين البيانات الحسية وبين أفعال الإحساس بها؛ أي إنها هي ما ندركه مباشرةً عن طريق أفعال الإحساس. ولكن يجب أيضًا — كما تبيِّن الاعتبارات الواردة في الفقرة السابقة — التمييز بينها وبين الأشياء الموجودة في العالم خارجنا، تلك الأشياء التي نفترض أنها مترابطة؛ ومن ثَمَّ يكون السؤال المهم هو: ما هي علاقة البيانات الحسية بالأشياء المادية؟
ويأتي رد راسل على مَن يشكك في حقنا في ادِّعاء المعرفة بما يقع وراء نقاب البيانات الحسية، أو حتى حقنا في الظن بأن الأشياء المادية موجودة أساسًا، فيقول إنه مع أن الحجج المتشككة لا تُدحض على وجه التحديد، فإنه «لا يوجد أدنى مبرر» لافتراض أنها صحيحة (مشكلات الفلسفة، ص١٧). وتقوم استراتيجيته على جمع الاعتبارات المقنِعة التي تدعم وجهة النظر هذه. في البداية يمكننا أن نسلم بأن خبراتنا القائمة على البيانات الحسية تتسم ﺑ «يقين بدائي»؛ فنحن نُقِرُّ بأننا حين نواجه بيانات حسية نعتبرها بطبيعة الحال مرتبطة بطاولة، مثلًا، فإننا لم نقل كلَّ ما يجب أن يقال عن الطاولة؛ فمثلًا، نحن نظنُّ أن الطاولة تظل موجودة حين نكون موجودين خارج الغرفة، ومن الممكن أن نشتريَ الطاولة ونضع عليها مفرشًا ونحركها من مكانٍ لآخر، ونفترض أن الآخرين يمكنهم إدراك الطاولة «نفسها». كل هذا يوحي بأن الطاولة شيء يسمو على البيانات الحسية التي تظهر لنا. ولكن لو لم يكن هناك وجود لأي طاولة في العالم، لكان لزامًا علينا أن نَصوغ فرضية معقدة تتعلق بوجود عدة طاولات ظاهرية مختلفة بعدد الأشخاص المدركين، وأن نشرح لماذا نتحدث كلنا وكأننا ندرك الشيء نفسه.
ولكن تجدر الإشارة إلى أنه من وجهة النظر المتشككة — كما يشير راسل — لا ينبغي أن نعتقد بوجود أشخاصٍ مدركين آخرين أيضًا؛ فعلى كلٍّ، إذا لم نستطع دحض التشكك في وجود الأشياء، فكيف لنا أن ندحض التشكك في وجود عقولنا؟
ويتغلب راسل على هذه الصعوبة بتقبُّل صيغةٍ مما يُطلق عليه «الحجة التي تقود إلى التفسير الأفضل». ويؤكد أنه قطعًا من الأبسط والأكثر تأثيرًا بكثير أن نُقرَّ بالافتراض القائل بأنه؛ أولًا: توجد أشياء مادية لها وجود منفصل عن خبرتنا الحسية، وثانيًا: أنها تتسبب في قدراتنا على الإدراك؛ ومن ثمَّ «تُطابِق» قدراتنا على الإدراك مطابقةً موثوقة. ويرى راسل أن الإيمان بهذا الافتراض مسألة «فطرية»، وهو يتبع في ذلك الفيلسوف هيوم.
وهو يؤكد أنه يمكننا إضافة نوع آخر من المعرفة إلى ذلك، وهي معرفة بديهية بحقائق المنطق والرياضة البحتة (بل وربما القضايا الأساسية لعلم الأخلاق). هذه المعرفة مستقلة تمامًا عن التجربة، وتعتمد اعتمادًا كليًّا على بديهية الحقائق المعروفة، مثل «١ + ١ = ٢» و«أ = أ». ويساعدنا ضم المعرفة الإدراكية والمعرفة البديهية على الوصول إلى معرفة عامة عن العالم وراء نطاق خبرتنا المباشرة؛ لأن النوع الأول من المعرفة يمنحنا معلومات تجريبية، والنوع الثاني يتيح لنا أن نستخلص استنتاجات منه.
وينقسم هذان النوعان من المعرفة إلى نوعين فرعيين، يصفهما راسل بأنهما المعرفة المباشرة والمعرفة الاشتقاقية على التوالي. وهو يطلق اسم «الاطلاع» على معرفة الأشياء معرفةً مباشرة. وتنقسم الأشياء القائمة على الاطلاع إلى نوعين: النوع الأول هو «الجزئيات»، بمعنى البيانات الحسية الفردية وربما نحن؛ والنوع الثاني هو «الكليات». وللكليات أنواعٌ مختلفة، وهي تشمل الصفات الملموسة مثل الحُمرة والنعومة، والعلاقات المكانية والزمنية مثل «إلى اليسار من» و«قبل»، وبعض الأفكار المجردة المنطقية.
يطلق راسل على المعرفة الاشتقاقية للأشياء مصطلح «المعرفة بالوصف»، وهي معرفة عامة بالوقائع نصل إليها من خلال مزيجٍ من المعرفة التي لدينا والاستنتاج منها. ومعرفة المرء بأن جبل إفرست هو أعلى جبل في العالم مثالٌ على المعرفة الوصفية.
يطلق راسل على المعرفة المباشرة للوقائع مصطلح «المعرفة الحدْسية»، ويصف الحقائق التي تُعرف بهذا الأسلوب بأنها «بديهية». وهذه عبارة عن قضايا «واضحة وضوحًا شديدًا، ولا يمكن استنتاجها من أي شيء أكثر وضوحًا منها.» على سبيل المثال، نحن نلاحظ أن العبارة «١ + ١ = ٢» صحيحة. ومن بين عناصر المعرفة الحدْسية تأتي إفادات من التجربة المباشرة؛ فإذا ذكرتُ فقط البيانات الحسية التي أدركها الآن، لا يمكن (فيما عدا زلات اللسان التافهة) أن أكون مخطئًا.
تتألف المعرفة الاشتقاقية للحقائق من أي شيء يمكن استنتاجه من الحقائق البديهية عن طريق مبادئ الاستدلال البديهية.
يقول راسل إنه على الرغم من المظهر الدقيق الذي يتخذه امتلاكنا لمعرفة بديهية، فعلينا أن نتقبل أن ما لدينا من معرفة عامة إنما هو صحيح فقط في حدود صحة تبرير «التفسير الأفضل» والغرائز التي تجعله قابلًا للتصديق؛ ولذلك تعادل المعرفة العادية — في أفضل الأحوال — «رأيًا مرجحًا بعض الشيء». ولكن حين نلاحظ أن آراءنا المرجحة تُكوِّن نظامًا يتَّسِم بالترابط والدعم المتبادل — كلما كان النظام مترابطًا ومستقرًّا، زادت أرجحية الآراء التي تُكوِّنه — ندرك لماذا يُتاح لنا أن نمنحها ثقتنا.
من السمات المهمة في نظرية راسل سمة تتعلق بالمكان، وبالتحديد الفرق بين المكان العام الشامل الذي تشغله العلوم، والأمكنة الخاصة التي توجد فيها البيانات الحسية التي يحصل عليها الأفراد المدركون. ويتألف المكان العام من الخبرات الكثيرة البصرية واللمسية وغيرها التي ينسقها المدرك في قالب يكون هو في مركزه. ولكن نظرًا لأننا ليس لدينا اطِّلاع على المكان العام للعلوم، فوجوده وطبيعته مسألة تعتمد كليًّا على الاستدلال.
ومن هنا جاءت الصيغة الأولى من نظرية المعرفة والإدراك التي وضعها راسل، وذلك كما وردت في كتاب «مشكلات الفلسفة». وتتسم النظرية من الوهلة الأولى بحسٍّ منطقي بديهي، ولكنها أبعد ما تكون عن البساطة؛ فمثلًا يتحدث راسل عن المعرفة «البدائية» ويصفها بأنها حدْسية، ولكنه لا يقدم وصفًا عن طبيعة مثل هذه المعرفة، فيما عدا القول بأنها لا تتطلب إثبات ما هو أكثر بديهية منها هي نفسها. ولكن هذا التعريف قلَّما يكون مناسبًا، ويصبح أكثر غموضًا حين يضيف أنه يوجد نوعان من البديهية، نوع واحد منهما فقط أساسي. هل هذا الفارق منطقي؟ ما هي «البديهة» على أي حال؟ وهو كذلك لا يدرس احتمال أن تتعارض قضيتان كلٌّ منهما مع الأخرى رغم أنهما تَظهران على أنهما بديهيتان عند النظر إليهما على انفراد. وإذا قُدر أن يحدث هذا، فأيٌّ منهما هي التي يجب اختيارها؟ وما هي المبادئ البديهية الإضافية التي تحكم اختيارها؟
ومن الانتقادات الأخرى التي وُجهت إلى رأي راسل هو أنه يضع افتراضًا مهمًّا، ولكنه موضع شك عن الطبيعة الأساسية للتجربة الحسية. وهذا الافتراض هو أن البيانات الحسية — أي الحدود الدنيا الحسية مثل ألوان أو روائح أو أصوات معينة — نحصل عليها في سياق الخبرة، وأنها أكثر عناصرها بدائية. ولكن الخبرة الحسية في الواقع ليست «هزيلة» ومباشرة على هذا النحو على الإطلاق، بل هي بالأحرى خبرة وافرة ومعقدة تشمل البيوت والأشجار والناس والقطط والسحب؛ أي إنها «غليظة» وفقًا لمذهب الظواهر، والبيانات الحسية لا يمكن الوصول إليها إلا بعملية معقدة تقوم على تفريغ الخبرة الإدراكية العادية من كل ما هو طبيعي من وجهة نظرنا؛ ومن ثَمَّ فإننا لا نشاهد مستطيلًا ونتستنج أنه عبارة عن طاولة، بل نشاهد طاولةً، وحين نبدأ في التركيز على شكلها نرى أنها مستطيلة الشكل.
لا شك أن هذا الانتقاد محقٌّ إلى حدٍّ ما، ولكن توجد طُرق تتيح استيعابه وفي الوقت نفسه تسمح لنا بوصف الجانب الحسي البحت للخبرة بمعزل عن العبء المعتاد من المعتقدات والنظريات الذي تحمله هذه الخبرة. وما دامت الغاية كلها هي أننا نحاول تبرير امتلاك تلك المعتقدات عن طريق البرهنة على أن الخبرة الإدراكية تمكِّننا من تلك المعتقدات، فمن الواضح أننا بحاجة إلى بيان عن خبرتنا الإدراكية باعتبارها هكذا فقط، حتى نتمكَّن من تقييم مدى ملاءمتها للمهمة. والهدف الذي يرجوه راسل من الحديث عن البيانات الحسية يقتصر على تنفيذ ذلك فحسب. فضلًا عن ذلك، أقرَّ راسل بأن البيانات الحسية ليست «المعطيات» المباشرة الإدراكية؛ ففي كتاباته التي ألَّفَها إبَّان العقد الذي أعقب كتاب «مشكلات الفلسفة»، يشير أكثر من مرة إلى أن مواصفات البيانات الحسية تأتي في المرتبة الأخيرة في التحليل، وليس في المرتبة الأولى في الخبرة.
ومن الانتقادات الأخرى أن راسل يفترض أن الخبرة المباشرة يمكن أن نرمز إليها بالقضايا — رغم أنها تقتصر على وصف «المعطيات» الذاتية — التي من الممكن استخدامها كأساسٍ لمعرفة العالم. ولكن كيف يمكن أن يكون ما ينطبق فقط على التجربة الخاصة فيما يبدو — ولا يحمل أي إحالة إلى ما يتعدى تلك التجربة — هو الأساس الذي تقوم عليه نظرية للمعرفة؟ ولا يفيد أن يقال إن راسل يسمح بالمعرفة البديهية للمبادئ المنطقية التي تتيح استخلاص الاستنتاجات من هذه القضايا؛ لأنه لن يوجد حافز لاستنتاجها إلا إذا كان الشخص لديه بعض المعتقدات التجريبية العامة التي تصلح لتكون المقدمات الكبرى في تلك الاستنتاجات، ولديه كذلك بعض الافتراضات التجريبية التي تختبرها الاستنتاجات أو تدعمها في الواقع. ولكن هذه المعتقدات والافتراضات التجريبية لا تتوافر لشخص — حسبما يقدمه راسل — يتعرض لخبرةٍ ما دون أن يكون لديه سوى بيانات حسية وحقائق بديهية منطقية.
أثرت هذه المشكلة في راسل نفسه، وتصدى لها في وقتٍ لاحق (في كتاب «المعرفة البشرية») بقَبول شكلٍ من أشكال شيء كان يستنكره في فلسفة كانط، وهو أنه لا بد من وجود بعض الأشياء (بخلاف حقائق المنطق) المعروفة لنا باعتبارها بديهية، هذا إذا كانت المعرفة ممكنة من الأساس. وسأناقش هذه الجزئية المهمة للغاية في المكان المناسب أدناه.
ومن المشكلات الأخرى التي طرحها منتقدو راسل أن الاعتبارات التي يعتمد عليها راسل للبرهنة على وجود فارقٍ بين المظهر والواقع لا تقنع أحدًا، بالطريقة التي يعرضها بها؛ فحين يبدو شيء بلونٍ ما أو بشكلٍ ما لشخصٍ مدرك، ولكن يبدو بلونٍ أو شكلٍ آخر لمدركٍ آخر، أو يبدو بألوانٍ أو أشكالٍ مختلفة للمدرك نفسه في ظروف مختلفة — على سبيل المثال، يتوقف ذلك على ما إذا كان يشاهده في ضوء النهار أو في الظلام، أو من زاوية نظر معينة أو أخرى — فإن ذلك يُخبرنا أن مسألة كيفية ظهور الأشياء للإدراك من الأمور المعقدة، ولكنه لا يُخبرنا في حد ذاته أن الشيء موضع الإدراك مختلف في كل مرة.
وهذا الانتقاد صحيح في حد ذاته، ولكن يتصادف أنه توجد طرق أخرى ملائمة للغاية لتحديد الفارق بين المظهر والواقع، وذلك كما يتضح في الأعمال الأحدث التي ظهرت في مجال فلسفة الإدراك؛ ومن ثَمَّ من الممكن النظر إلى حجج راسل هنا — كما كان ينظر هو إليها — على أنها تشجع على الاكتشاف، بمعنى أنها توضِّح الجزئية فقط بغرض إطلاق شرارة المناقشة.
ولكن هذا الانتقاد يوحي بانتقادٍ آخر أهم؛ إذ إن راسل — مثل كل سابقيه منذ ديكارت ومثل بعض من جاءوا بعده مثل إتش إتش برايس وإيه جيه آير— تقبَّل افتراضًا مهمًّا للغاية من ديكارت، وهو أن نقطة الانطلاق المناسبة لأي بحث عن المعرفة هي تجربة فردية. فلا بد أن يبدأ الفرد بالمعلومات الخاصة المستمدة من الوعي والبحث عن أسباب ضمنها لدعم استنتاجاته — أو عادةً معتقداته — عن عالم خارج ذهنه. ومن التغيرات الكبرى التي شهدتها الفلسفة في القرن العشرين رفض هذا الافتراض الديكارتي؛ فمن بين الصعوبات البالغة المتعلقة بهذا الافتراض أنه يصبح من المستحيل تجاهل أو دحض الرؤية المتشككة إذا قبلنا به. ومن الصعوبات الأخرى أنه بِناءً على أساسٍ بهذا الضعف لا يحقُّ لنا أن نرى في الشخص الراغب في المعرفة — الذي لا يرى وجودًا إلا لعقله فقط — شخصًا قادرًا على تسمية أحاسيسه وخبراته والتفكير فيها، بل لا يحق لنا أن نفكر فيه على أنه شخص يستطيع استنتاج وجود عالم خارجي من هذه الأحاسيس والخبرات. وتدفعنا الفكرتان كلتاهما بثباتٍ نحو فكرة أن المكان المناسب لبدء نظرية المعرفة هو — على نحوٍ ما — المجال العام.
العالم الخارجي والعقول الأخرى
لم يكن راسل راضيًا عن الطريقة التي عرض بها الأمور في كتاب «مشكلات الفلسفة»، وهو على كلٍّ كتابٌ كان الغرض منه أن يكون كتابًا شعبيًّا غير موجَّه للمتخصصين، ولم يقدم عرضًا دقيقًا لأطروحاته. وعلى مدى العقود الأربعة التالية أخذ يعود إلى مشكلة المعرفة والإدراك بصفة متكررة. وطوال السنوات التي أعقبت نشر كتاب «مشكلات الفلسفة» وسبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، انكبَّ راسل على تلك الأمور بجدية؛ إذ وضع مسودة لمخطوطة كتابه الكبير «نظرية المعرفة»، نشر جزءًا منها وتخلَّى عن جزء آخر، وكتب سلسلة مهمة من المحاضرات ظهرت في عام ١٩١٤ في كتابٍ بعنوان «معرفتنا بالعالم الخارجي». وفي هذا العمل قدَّم راسل مناقشة أكثر تفصيلًا لجوانب النظرية الواردة في كتاب «مشكلات الفلسفة»، وتوصَّل إلى نتائج مهمة.
ومن الاختلافات بين النظريات الواردة في كتابَي «مشكلات الفلسفة» و«معرفتنا بالعالم الخارجي» أن راسل أصبح مقتنعًا بأن أساس المعرفة التي يحصل عليها الشخص الذي يتعرض للخبرة — البيانات الحسية التي تظهر له وحده، ومعرفته الحدْسية القائمة على قوانين المنطق — هو نقطة انطلاق أضعف من اللازم. لم يرفض راسل الافتراض الديكارتي الذي ناقشته للتوِّ، بل أصبح أشد حساسية حيال الصعوبات التي يخلقها؛ ولذلك كان يحاول أن يحد منها؛ ومن ثَمَّ أخذ يولي أهمية أكبر لامتلاك الشخص لحقائق الذاكرة وفهمه للعلاقات المكانية والزمنية السارية من ضمن عناصر أي خبرة راهنة. ويتسنَّى للشخص كذلك مقارنة المعلومات، مثلًا، من حيث الاختلافات المتعلقة باللون والشكل. لكنَّ أمورًا مثل المعتقدات الشائعة والاعتقاد بوجود عقول أخرى لا تزال مستبعدة.
ويَصوغ راسل في ضوء هذ الأساس الغني لما أصبح يطلق عليه الآن «المعلومات الواقعية» سؤالًا يقول: «هل من الممكن استنتاج وجود أي شيء غير معلوماتنا الواقعية؟» ويقوم نهجه أولًا على عرض كيفية إمكاننا — كفرضية — تكوين مفهوم يتعلق بالمكان توضع فيه حقائق التجربة؛ حقائق خبرة الشخص نفسه والحقائق التي يعرف بوجودها من خلال شهادة آخرين. ثم يقدم راسل — في سبيل معرفة ما إذا كان لدينا مبرر للاعتقاد بأن هذا العالم المكاني حقيقي — برهانًا يؤيد وجود عقول أخرى؛ لأنه إذا كان يتسنَّى للمرء حقًّا أن يصدق هذا، فإذن يمكنه أن يعتمد على شهادة الآخرين — إضافةً إلى خبرة المرء نفسه — التي ستقدم دعمًا قويًّا للرأي القائل بوجود عالم مكاني، بمعنًى حقيقي.
هذه الاستراتيجية مبتكرة. وفي البحث المعنون «صلة البيانات الحسية بالفيزياء»، الذي ألَّفَه راسل في أوائل عام ١٩١٤، يُضيف راسل أسلوبًا مبتكرًا أيضًا يتعلَّق بالتفكير في صلة الخبرة الحسية بالأشياء؛ ففي كتاب «مشكلات الفلسفة»، كان قد ذكر أننا نستنتج وجود الأشياء المادية من بياناتنا الحسية؛ والآن يصفها بأنها تابعة للبيانات الحسية، أو على حد وصفه أحيانًا، «أبنية» مكوَّنة من البيانات الحسية. وتستخدم هذه الاستراتيجية الأسلوب المنطقي الذي يمكن فيه إثبات إمكانية تحليل الشيء وتحويله إلى أشياء من نوعٍ آخر. ويصف راسل المبدأ القائل بأنه «لا بد من إحلال الأبنية المنطقية محلَّ الكيانات المستنتَجة بقدر الإمكان» باعتباره «القاعدة العليا للفلسفة العلمية». ووفقًا لهذا المبدأ، يجب تحليل الأشياء المادية بِناءً على ذلك باعتبارها أبنية مكونة من البيانات الحسية؛ ومع ذلك لا تكون مكونة من البيانات الحسية الفعلية أو الحالية فقط، بل من «الأشياء المحسوسة» أيضًا، والمقصود بتلك الأشياء على حد تعبير راسل «المظاهر أو النحو الذي تبدو عليه الأشياء»، بصرف النظر عما إذا كانت تُكوِّن البيانات الحسية التي هي حاليًّا جزء من خبرة أي شخص مدرك. والغرض من ذلك هو تفسير فكرة وجود الشيء رغم عدم وجود أشخاص يدركونه.
أصبح راسل يرى في هذه المرحلة أن من الجوانب المهمة لهذا الرأي أن البيانات الحسية والأشياء المحسوسة ليست كيانات عقلية خاصة، بل هي جزء من المادة الفعلية للفيزياء. إنها فعلًا «المكونات النهائية للعالم المادي»؛ نظرًا لأن التحقق من المنطق السليم والفيزياء يعتمد عليها أساسًا. وهذا مهم لأننا عادةً ما نعتقد أن البيانات الحسية تابعة للأشياء المادية، بمعنى أن وجودها وطبيعتها مرجعهما إلى أن الأشياء المادية هي التي تتسبَّب فيها؛ ولكن لا يتسنَّى التحقق إلا إذا كان الأمر على عكس ذلك؛ أي أن تكون الأشياء المادية تابعة للبيانات الحسية. وهذه النظرية «تبني» الأشياء المادية من الأشياء المحسوسة؛ ومن ثَمَّ يفيد وجود الأشياء المحسوسة في التحقق من وجود الأشياء المادية.
تخلَّى راسل عن هذه النظرية المميزة بدلًا من تطويرها إلى مستوًى أكبر؛ وفي أعماله اللاحقة — وبالتحديد في كتاب «تحليل المادة» في عام ١٩٢٧ وكتاب «المعرفة البشرية» في عام ١٩٤٨ — عاد إلى تناول الأشياء المادية، والمكان الذي تشغله، باعتبارها مستنتَجة من الخبرة الحسية. وقد دفعه إلى ذلك عدة اعتبارات، وكان من بينها قبوله بالرأي السائد الذي تدعمه علوم الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء البشرية الذي يقول بأن الإدراك سببه نشاط البيئة المادية على أعضاء الحس لدينا. ويكتب راسل: «إن كلَّ من يقبل نظرية الإدراك العفوية مضطر لاستنتاج أن المدركات موجودة في أذهاننا؛ لأنها تأتي في نهاية سلسلة عفوية من الأحداث المادية التي تنتقل — مكانيًّا — من الأشياء إلى دماغ المدرك» (تحليل المادة، ص٣٢). وتخلَّى راسل أيضًا — في كتاب «تحليل العقل» الصادر في عام ١٩٢١ — عن الحديث عن «البيانات الحسية»، ولم يعد يفرق بين فعل الإحساس والشيء الذي يُحس به الشخص. والسبب الذي دفعه إلى ذلك يتعلق بنظرية العقل التي وضعها، والمعروضة لاحقًا.
كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل إلى التخلي عن النظرية هو التعقيد الشديد، وعدم قابلية التصديق الذي كانت تتسم به الآراء التي حاول أن يَصوغها عن الأمكنة الخاصة والعامة، والعلاقات بينها، والطريقة التي من المفترض أن تشغل بها الأشياء المحسوسة هذه الأمكنة. وقد ذكر هذه المجموعة من المشكلات عرضيًّا في كتاب «تطوري الفلسفي»، ويقول فيه إن السبب الأساسي الذي دفعه إلى التخلي عن «محاولة بناء «مادة» من المعلومات المتعلقة بالتجربة وحدها» هو أنه «برنامج مستحيل … فلا يمكن تفسير الأشياء المادية باعتبارها أبنية مؤلفة من عناصر يتعرض لها المرء فعليًّا في الخبرة» (تطوري الفلسفي، ص٧٩). هذه المقولة الأخيرة ليست متسقة بدقةٍ مع رأي راسل الذي ذكره في النصوص الأصلية، ومفاده أنه ليس من الضروري إدراك الأشياء المحسوسة فعليًّا؛ ويقدم كتاب «تطوري الفلسفي» تعليقًا على النظرية أكثر التزامًا بمذهب الظواهر مقارنةً بما يقدمه نصها الأصلي. ولكنه تعرَّض لمشكلة جسيمة تتعلق بالنظرية؛ وهي أنه يبدو من باب عدم الترابط أن تتحدث عن «معلومة حسية غير محسوسة» لا تتطلب حتى أي صلة جوهرية بالإدراك، بل إن اسمها نفسه يبدو مناقضًا لهذا المطلب.
بلا شك كان التخلي عن المشروع الذي تحتوي عليه مخطوطة كتاب «نظرية المعرفة» وكتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» لطمة لراسل؛ لأنه حين وجَّه اهتمامه إلى أسئلة المعرفة والإدراك بعد أن انتهى من كتاب «أصول الرياضيات»، رأى أن مهمة حل المشكلات المتعلقة بالعلاقة بين هذه المسائل وبين الفيزياء هي إسهامه المهم التالي. وكان ذلك من الطموحات التي كان يفكر فيها منذ أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر.
توجد أسئلة أخرى مهمة في نظرية المعرفة لم يُعِرْها راسل — في إطار هذه المساعي — إلا اهتمامًا عابرًا. وهي تتعلق بنوع الاستنتاج الذي طالما ظل من المفترض أن يكون عماد العلوم، وهو بالتحديدِ الاستدلالُ غير البرهاني. ولم يرجع راسل إلى التفكير في هذه الأسئلة إلا بعد عدة سنوات، وترد المناقشة الأساسية التي يقدمها راسل في كتاب «المعرفة البشرية: نطاقها وحدودها»، وكتبه بعد الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك وجَّه راسل اهتمامه إلى أسئلة معينة تتعلق بموضوع المنهج والميتافيزيقا، والذي كان يرى أنه من الموضوعات المهمة، وذلك أثناء انشغاله بالعمل في مجال الإدراك. وهذه الأسئلة هي موضوع الفصل التالي.