مقدمة الطبعة الثانية
يحتفِل العالم في هذا العام (١٩٩٨م) بالذكرى المئوية لميلاد برتولت برشت (وُلد في مدينة أوجسبرج من منطقة شفابن بجنوب ألمانيا في العاشر من شهر فبراير سنة ١٨٩٨م، ومات في مدينة برلين — الشرقية سابقًا — إثْرَ أزمةٍ قلبية مُفاجئة في الرابع عشر من شهر أغسطس سنة ١٩٥٦م) وهو الشاعر، وكاتب المسرحية والأوبرا والفيلم السينمائي، والقصَّاص والروائي والمُخرِج والمُنظِّر للمسرح المَلحَمي، والمُناضل الاشتراكي ضدَّ البربريَّة النازِيَّة وتُجَّار الحروب، وفي سبيل العقل والحُريَّة والسلام والأُخوَّة البشرية، وصُنع عالمٍ جديد يتوقَّف فيه الاستغلال والاضطِهاد والفقر والجوع والظُّلم والاغتراب …
ولقد تصادَف أن كان كاتِب هذه السطور — على مَبلغِ عِلمه على الأقل! هو أول من قدَّمَه إلى العربية بترجمةِ إحدى مَسرحيَّاته التعليمية — وهي الاستِثناء والقاعدة — عن الفَرنسيَّة في سنة ١٩٥٦م (نُشرَت آنذاك في مجلَّةِ الهدَف قبل نشرِها مع تَمثيليَّته الإذاعيَّة التي حوَّلها إلى أوبرا، وهي مُحاكمة لوكولُّوس، في أوائل الستينيَّات)، وتقديم عددٍ من قصائده المَشهورة سنة ١٩٥٨م في مجلَّة المجلَّة (وكان يرأس تحريرها في ذلك الحِين السِّندباد البحريُّ والمصريُّ العظيم المرحوم الدكتور حسين فوزي) وأُضيفَ إليها بعد ذلك عددٌ آخرُ من عُيون قصائده التي بلَغتْ ما يقرُب من ثمانين قصيدة صدَرَت في كتابٍ مُستقِل (قصائد من برخت، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧م)، ثم بعض مسرحيَّاته (بَعْل، السيد بونتيلا وتابِعه ماتي، قائل نعم وقائل لا) التي كان آخرُها هي أوبرا صعود وسقوط مدينة مهاجوني في ترجمةٍ شعرية حديثة (تحت الطَّبع في المشروع القومي للتَّرجمة بالمجلِس الأعلى للثقافة) وقد شعر الكاتب أنَّ من واجِبه، بعد هذه الجهود المُتواضِعة وعلى ضوء تلك الواقعة التاريخية التي لا يُعلِّق عليها أيَّةَ أهميَّة؛ لأنها كانت وليدةَ الصُّدفة المَحضة كما ذكَر قبل قليل، ثم على ضوء اهتمامه بمسرح برشت وتأثُّره به بِصُورٍ مُختلفة في عددٍ غير قليلٍ من مسرحيَّاته الطويلة والقصيرة، أقول إنه شَعَر أنَّ من واجبه أن يُشارِك في الاحتفال بذِكرى هذا الرَّجُل الذي كان شِعْره ومسرحُه — كما قال بحقٍّ ناشِرُ أعماله وصديقه بيتر زور كامب — تاريخًا فنيًّا لبلاده وجِراحِها الأليمة منذ عام ١٩١٨م إلى عام وفاته، والذي يَقترِن اسمه باسم أكبر شُعرَاء بلاده (وهو جوته (١٧٤٩–١٨٣٢م)) من ناحِيَةِ شُهْرتِهما، وقوَّة تأثِيرهما وتَوهُّج إشعاعِهما خارجَ حدود بلادِهما أكثرَ من أيِّ شاعرٍ أو كاتب آخر من أبناء وطنهما، والذي تُحتِّم تطوُّرات الأحداث في هذا القرن العشرين الذي أوشَكَت شمسه على الأُفول — لا سيما بعد الانهيار المُدوِّي للتَّطبيق الاشتراكي وبعد تحقيق الوحدة الألمانية التي كان الشاعر نفسه يحلُم بها ويَعمَل لها — ضرورة قراءته من جديد، والتَّعلُّم من واقِعيَّته وعقلانيَّته وحِكمته وكفاحه المُستمرِّ ومُعاناته الطويلة في المَنفى، ودِفاعه الصَّامِد عن الحقيقة والصِّدق في التَّعبير عن الواقع المُتغيِّر، وعن حقوق الرجل العادي أو الرجل الصَّغير الذي طالَما وقَع خلال التاريخِ البشريِّ ضحيَّة الخِداع والكذِب والتَّزييف وتَغييب العقل بالدَّعاوى الضَّخمة والباطلة، بجانب إحساسه المُتزايِد في أواخر عُمره بمرارة الإحباط والعَدَميَّة والخَيبة، دون التَّخلِّي أبدًا حتى آخر نفَسٍ في صدره عن الإيمان بالجديد، والتمسُّك براية الأمل في مُستقبلٍ أفضلَ للإنسان والأرض والعالم «الذي يحتاج للتغيير» حتى يستقرَّ فيه العدل والعقل والمودَّة والسعادة لجميع البشر …
ولقد شعَر كاتب السطور أيضًا بأن مُشاركته في الاحتفال بذكرى الشَّاعر تُعبِّر في نفس الوقت عن الامتِنان والعِرفان الذي يَحمله له، كذلك عدد كبير من إخوانه الشعراء والكُتَّاب العرَب الذين تأثَّروا به بِصُورٍ مُتفاوِتة (ومن أهمِّهم: سعد الله ونوس، ومحمود دياب، ونجيب سرور، وعبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور — رحِمَهم الله — وألفريد فرج، ووليد إخلاصي، وفرحان بلبل، ويوسف العاني — مدَّ الله في عمرهم — بجانِب أسماءٍ كريمة أُخرى لعددٍ كبير من النُّقَّاد والباحِثين والدَّارِسين والمُترجِمين النَّابِهين الذين لا يَتَّسِع هذا المجال المحدود لذِكر أسمائهم وأعمالهم وجهودهم الطيبة، أو الوفاء بواجب الشُّكر والتقدير لهم، مثل الإخوة: نبيل حفَّار، وأحمد الحمو، وفاروق عبد الوهاب، ووجيه سمعان، ومحمد العيتاني، ونسيم مُجلِّي، وكامل يوسف حسين، وأحمد كمال زكي، وجميل نصيف التكريني، وأحمد عتمان، ومنى أبو سنة).
ولمَّا كان الشِّعر والدِّراما مُرتَبِطَين ارتباطًا حَميمًا في إنتاج برشت، وكان كلاهما مغروس الجُذور في حياته وتاريخه الفرديِّ وفي حياة بلاده وتاريخها الاجتماعي، فقد رأيتُ من الضروريِّ أن أعرِضَ عليك مراحِل التطوُّر المُهمَّة التي مرَّت بها «أنا» الشَّاعر التي حرَص دائمًا على مسافة البُعد بينه وبينها، وكانت دائمًا بالنِّسبة إليه هي «نحن» بلاده والعالم والبَشرية بأسْرِها، كما كانت — إذا جاز التَّعبير — أنا مُحايِدة وبارِدة وموضوعية، بل مَلحميَّة، لم تكشِف عن هُويَّتها وهمومها الشخصية والعاطفية إلا في عددٍ جدِّ قليلٍ من قصائد الحُبِّ وأغانيه التي يُمكِن القول أيضًا بأنها تختلِف في كثيرٍ من الأحيان عمَّا ألِفْناه من شِعر الحبِّ الغنائيِّ والذاتي، وأنها تُحاوِل أن تُخفي من عاطفيته الصادقة المُتأملة أكثرَ مِمَّا تُظهِر (راجِع على سبيل المِثال ما يُمكِن أن نُسمِّيه قصائد الاعتراف مثل أشهر قَصيدتَين له وهما برت برشت (ب. ب) المِسكين، وإلى الأجيال القادِمة، وكذلك أغاني الحبِّ القليلة مثل: أُغنِية عن حبيبة، وأبدًا لم أُحبِبْك مثل هذا الحب، وذِكرى ماري).
ونعود إلى الحُبِّ الذي بدأنا به لتصوير إيمانه بضرورة التغيُّر والتَّغيير فنجِده (أي الحب!) يُعبِّر عن هذا الاعتقاد الراسخ — الذي غَذَّاه اقتناعُه الجذريُّ بالاشتراكية، وقراءاته المُستَفيضة في شبابه لماركس، ويَقِينه الدائم بأن المُستغَلِّين والمُضطَهَدين والجَوعى والمظلومين والمخدوعين من العُمَّال والفقراء والعامَّة هم الأداة الحقيقية للتَّغيير — فنحن في رأيه لا نُحبُّ إنسانًا «جاهزًا» ولا نُحبُّ «الصورة» التي نَصنَعُها منه ثم نُصابُ بعد ذلك بخَيبة الأمل لأنه لم يُحقِّقها أو لم يَكَدْ يَقترِب منها (كما هو الحال في مآسي العلاقة التي تُوصَف عادةً بصِفة الحُبِّ بين فئات الطبقة الوسطى!) ذلك لأن الحبَّ «فِعل مُنتِج» أو مُبدِع «يُشكِّل» المحبوب ويُساعِده على إظهار قُدراته وتَنمِيَتها، ويجعل منه إنسانًا آخر غير ما كان عليه قبل أن نرتبِط به بعلاقة الحب. ولعلَّ هذا يُفسِّر كثرةَ علاقات الحبِّ في حياة برشت (على الرَّغم من أن المرأة المُحِبَّة والمحبوبة لا تقوم بدَورٍ كبير في شِعره ومسرحه، على العكس من دور «الأم» المُتميِّز المَشحون بالعاطِفة في أشعاره وفي العديد من مسرحياته، كالأم، وبنادق السيدة كارار، والأم شُجاعة وأبناؤها، ودائرة الطباشير القُوقازية، وقائل نعم وقائل لا، وانظر كذلك قصيدته إلى أُمِّي وأُغنِيَة عن أُمِّي) أو لعلَّه يُفسِّر أيضًا كثرة زِيجاته — وآخرها مع زوجته ومُديرة فرقَتِه المسرحيَّة في مسرح الشفباور دام هيلينة فايجل، التي ارتبط اسمُها بدَورِها الخالد في الأُم شُجاعة، كما أهداها هو نفسه عدَدًا من أرقِّ قصائده التي تَجِد بعضها في هذه المجموعة — ولعلَّه يفسر أخيرًا كيف كانت النساء اللائي صادَفَهنَّ واستَعان بِهنَّ في عمله «أدوات إنتاج» (بالمعنى الفنِّي لا الاقتصادي!) تحثُّه على المزيد من الإبداع، وكيف كان «جَرْيه» وراءهنَّ نوعًا من البحث عن «الأم» التي لا ينفكُّ المُبدِعون يُفتِّشون عنها سُدًى في الحبيبة والزَّوجة على أمل العُثور عليها ثم يكتشفون في النهاية أنهم كانوا واهمين.
سيطرَتْ مقولة «التَّغيُّر» و«التَّغيير» على حياة برشت وتفكيره وأعماله منذ صِباه وشبابه الباكِر بحيث يُمكِن أن نجعل هذه العبارة شِعارًا له: حَذارِ أن تَبقى حَيثُما كنتَ وكيفما كُنت. فأصوله تَنحَدِر من الغابات السوداء (حيثُ عاشت عائلةُ أبيه في بلدة آخرن في المنطقة الجنوبية التي تُعرَف باسم الغابة السوداء) وأمُّه قد حمَلَتْه إلى مُدُن الأسفلت (كما يقول في قصيدته عن برتولت برشت المِسكين) وهناك وُلِد ونشأ في مدينة أوجسبرج التي كان أبوه يَعمل فيها مُوظَّفًا بسيطًا في «شركة هايندل» لصناعة الوَرَق قبل أن يَترقَّى بالتَّدريج إلى مَنصب المدير التِّجاري وينقل أسرته من قاع الطبقة الوُسطى الفقيرة إلى حياة «برجوازية» مُريحة في مَسكنٍ واسعٍ يَسَّرَتْه له الشركة وسط البيئة العُمَّالية المُحيطة. ويبدو أن احتِقاره للبُرجوازية وعداءه الاستِفزازيَّ لها قد بدأ يَتملَّك وَعْيه منذ ذلك الحين، ثم وصل إلى حدِّ مُقاطعة أُسرته تمامًا بعد موت أمِّه في اليوم الأول من شهر مايو سنة ١٩٢٠م. وحاوَل بعد ذلك بوقتٍ طويل أن يجِد في أصوله نفسها مُبرِّرًا تاريخيًّا لانتمائه إلى الطبقة الدُّنيا وانشِقاقه المُبكِّر عن طبقته، وذلك في قصيدته البديعة «العَجوزة المَهينة» عن جدَّته لأبيه التي تَفرَّق أبناؤها وبناتها بعد موت الأب ورَفَضتْ أن يعيش أحدهم معها في بيت العائلة الكبير، مُصمِّمةً على أن تعيش السَّنتَين الأخيرتَين من عُمرها حرَّةً طليقةً بين أصدقائها الفُقَراء، مُستمتِعةً بمالِها القليل لتعويض شقاء العُمر الذي قَضتْه في عُبوديَّةِ الخِدمة المُضنِية لأفراد أُسرتها وأبنائها الذين قاطَعَتْهم وضاقت حتى بِسؤالهم عن أحوالها أو الإشفاق عليها والوقوف بجانبها.
ومع ذلك فقد عاش حياة صَبيٍّ بُرجوازيٍّ عادي، وتَزعَّم «شلة» الأصدقاء الفَوضَويِّين الذين دأبوا على إزعاج المُواطنين في الشوارع بصَخَبِهم وغِنائهم وعَزفِهم على القِيثارة، وعلى التجمُّع في أحضان الطبيعة الأمِّ على ضِفاف «نهر الليش» أو في أعماق الغابة السَّوداء. وخَلَّد برشت هذه المرحلة الفَوضويَّة المُعبِّرة عن عدائه للبرجوازية في شخصية الشاعر التَّعبيري المُتهتِّك والمُستهتِر بكلِّ القِيَم والمُواضَعات الاجتماعية إلى حدِّ العَدَمِية في أولى مسرحياته الكُبرى في شخصية «بَعْل» الذي يَحيا حياة وَحشٍ طبيعيٍّ فاجِرٍ على حساب الآخرين. ويصعُب في الحقيقة أن نقول إنه نموذج مُطابِق تمامًا لشخصية برشت في ذلك الحِين مهما اتَّفقَ معه في نزعته العدَمِيَّة المُتمرِّدة. والدَّليل على هذا أنه يَسخَر طول الوقت في هذه المسرحية — وفي المَسرحيَّتَين التَّعبيريَّتَين التالِيَتَين لها وهما: طبولٌ في اللَّيل، وفي أدْغال المُدُن — سُخريةً فظيعة من التَّعبيرية التي عاصَرَها وتأثَّر بأساليبها الفنية، ولكنه رَفَضها من أعماقِه وطَفِقَ يبحث عن بَدِيلٍ إيجابيٍّ يستطيع أن يُغيِّر الواقع الفاسِد ولا يكتفي بالصُّراخ المُطلَق الأجوفِ احتجاجًا عليه (راجِع كورال بعْل العظيم، وأُغنية بعْل والموت في الغابة، وغيرها من قصائد هذه المرحلة التي امتدَّت حتى أواسط العشرينيَّات). والغريب أن كراهِيَّته الشديدة للحَرب قد ظهرَت بالفِعل في القصيدة المشهورة التي كتَبَها سنة ١٩١٨ وهي «خُرافة الجُنديِّ المَيِّت» التي ضَمِنتْ له في العشرينيَّات مكانًا مَرموقًا في القائمة السوداء التي أعدَّها النَّازِيُّون للكُتَّاب والشُّعراء الذين اتَّهموهم بعد ذلك بالخِيانة والانحِلال وأحرَقوا كُتُبَهم في ذلك الحريق الأسود المعروف (راجِع نصَّ القصيدة ضِمن القصائد المُختارة من إنتاجه الشِّعريِّ بين سنَتَي ١٩١٦ و١٩٢٦م). ويُقال إنها كانت وراء تجريد النازِيِّين له من الجِنسيَّة بسبب سُخرِيته الفظيعة فيها من العسكريَّة الألمانية.
وتعثَّرت دِراسة برشت — التي قَطَعَها عمله كمُمرِّض في المُستشفَيات المُتنقِّلة خلال الحرب العالمية الأولى — بين مَدينتَي أوجسبورج وميونيخ، وبين الفلسفة والعلوم الطبيعية وعلوم الأدب والمسرح، فلم يَنتظِم فيها ولم يُتِمَّها أبدًا. ولكنَّه عوَّض عن ذلك الفَشَل بِكتابة مسرحية «طبول في الليل» (١٩١٩م) التي حقَّقت له أوَّل نجاحٍ باهِرٍ في حياته المسرحية عندما جلبَتْ له جائزة كلايست الأدبية المَرموقة في سنة ١٩٢٢م (نسبةً إلى الأديب والكاتب المسرحي العظيم هينريش فون كلايست (١٧٧٧–١٨١١م)). والجدير بالذِّكر أن الناقد هربرت إيهيزنج — الذي يُعدُّ بِحقٍّ مُكتشِف برشت — قد كتب يقول في ذلك الحِين بلهجةٍ شديدة التحمُّس للكاتِب المسرحي الناشئ: «إن برتولت برشت قد غيَّر الوجه الأدبيَّ لألمانيا.» وهذه المسرحية — التي تشرَّفتُ بمُراجعة ترجمتها العربية في الستينيَّات — تُوجِّه النقد القاسي للطبقة البُرجوازية التي تكوَّنت في ظلِّ جمهورية فيمار الضعيفة المُتهالِكة وحقَّقت «إنجازاتها» على جُثَث الضحايا من الفقراء والعُمَّال العاطلين والمهزومين العائدين من الحرب. هنا نجِد نموذج الإنسان «المُتكيِّف» في العِشرينيَّات، كما نجِد في مسرحية «رَجُلٌ بِرَجُل» (التي كُتِبتْ بين سنَتَي ١٩٢٤ و١٩٢٦م) نموذج الإنسان «المُتفاهِم» مع الواقع الاجتماعي المُتغيِّر إلى حدِّ المُوافقة على أن يستبدل بشخصِه شخصًا آخر يُمكِنه أن يُعايِش الواقِع الجديد. لقد تغيَّر هذا الواقع وغيَّر معه الإنسان تَغييرًا عميقًا بإخضاعه لسَطْوَة التِّقنِيَة وإغراق فردِيَّته في مُجتمَع «الجماهير» وتكريس عُزلَتِه واغترابه وفُقدان «وجهه» وشخصيته. ولا يعني «التَّفاهُم» الذي تُدافِع عنه المَسرحِيَّتان قَبول المُعطَيات الجديدة قَبولًا أعمى، بل يعني ضرورة وضعِها في الاعتبار كحقائق اجتماعية لا بُدَّ من الاعتراف بها إذا أردْنا ألَّا يقِفَ التَّغيير عند حدود الرَّغبة والتَّمَنِّي، وإذا حاوَلْنا كذلك أن يَستعيد الإنسان فردِيَّته أو تفرُّدَه كجُزءٍ لا يتجزَّأ من الجماعة و«أنا» لا قوام لها إلا ﺑ «النَّحْنُ» ولا عملَ حقيقيًّا إلا من خلاله. ولا تعني هذه المرحلة من حياة برشت وإنتاجه (من حوالي ١٩٢٤م إلى ١٩٣١م) التي وُصِفت أحيانًا بالمرحلة السُّلوكية (نسبةً إلى المدرسة السلوكية الأمريكية المعروفة في علم النفس — أو بالأحرى علم السلوك!) أنه أذْعَنَ لأيديولوجية التكيُّف الرأسمالية أو أغمَض عينَه عن اغتراب الفرد وبُؤسِه في ظلِّ العلاقات الاجتماعية البرجوازية أو تَوقَّف عن التمرُّد عليها، بل معناه أن هذه الحقائق والضرورات الجديدة قد أصبحت وقائع ينبغي أن يُحسَب حسابها؛ لأن الإنسان المُغترِب في هذا المُجتمَع لن يتخلَّص من اغتِرابه إلا بتغيير المُجتمع، ولأن الفرد ليس مُعطًى في فراغ وإنما هو نتاج العملية الاجتماعية نفسها. وتَفهُّم هذه العملية — ولا أقول الموافقة عليها! هو الشرط الضروري لتغييرها وتغيير الإنسان «الاجتماعي» معها — وطبيعيٌّ أن نلمَح هنا البِدايات الاشتراكية التي ظهَر معها إيمان برشت بدَور «الجماهير» في المُجتمع الطَّبَقي، أي بدور الطبقة العاملة كقوَّةٍ تاريخية قادِرة على التغيير.
وتأتي سنة ١٩٢٦م بأهمِّ «تحوُّل» مُثير في حياة برشت، وإن كان هذا التحوُّل قد جاء نتيجةً طبيعية لتصوُّره للواقع وتَغلغُله في حياة «الطبقة الدنيا» ومتاعِبها ومآسيها اليومية، بحيث أصبح إنتاجه في هذه المرحلة بالذَّات (حتى سنة ١٩٣١م) وفيما بعدَها مرآةً لعصره، وتعبيرًا عن تفاعُله مع القضايا الواقِعيَّة والمُشكِلات المُلِحَّة، بعدَ أن بَقِيَ بصورةٍ أو أخرى مُرتبِطًا بحياته الشخصيَّة (ولا أقول الذاتية!) قِيل عنه إنه لم يكُن يكفُّ في هذه الفترة عن الاختِلاط بالعُمَّال، وأنه كان يتعمَّد أن يظهَر بينهم بملابِسَ عُمَّالية فقيرة مُبقَّعة ومُلطَّخة بالشَّحم والزَّيت، بل يزعُم صديقه الحميم، فيلسوف الأمل والمُستقبل «اليوتوبي» إرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧م) أنه ابتكر آلةً فِضيَّةً مُعقَّدة لتلويث أظافِره حتى يُثبِت انتماءه للعُمَّال وانشقاقه عن طبقته البرجوازية. والمعروف أنه لم يَنضَمَّ أبدًا لأيِّ حزبٍ من الأحزاب «التقدُّمية» الكثيرة في العشرينيَّات، ولم يثبت أنه شارك بأي نشاطٍ عمَليٍّ في التنظيمات العُمَّالية أو في الحياة السياسية والاقتصادية المُضطربة قبل انهيار حكومة فيمار بعد سنة ١٩٣٠م وزَحْف جَحافل القُطعان النَّازيَّة السوداء على السلطة، وكلُّ ما يُمكِن قوله هو أنه حرص على البقاء بالقُرب من «العاديِّين» الذين نَظلِمهم عندما نَصِفُهم بأنهم الدَّهْماء والعامَّة والرِّعاع. ومن أهم مَعالِم هذا التَّحوُّل البارِز أنه أقبَلَ في هذه المرحلة على قراءة ماركس (وهيجل بطبيعة الحال!) وتعلَّم الكثير من الماركسية ومن كِتاب رأس المال، لا سيما نظرية ماركس عن فائض القِيمة والأزمات الدورية للرأسماليَّة والصِّراع الطبَقِي والحتميَّة التاريخية لانتصار الاشتراكية إلى آخر ما يعرفه القارئ، وكان وراء توجُّهه لكُتُب ماركس الأزمة الطاحنة التي عرَّضت بورصة الغِلال للانهيار ولم يجِد لها أيَّ تفسيرٍ معقول (حاول أن يُعالِجها في صِيغة مسرحية بعنوان جو فارم اللحم ولكنه لم يُتِمَّها أبدًا ولم يبقَ من مشروعها سوى بعض الأغنيات).
ولا بُدَّ في هذه العُجالة من القول باختصارٍ شديد بأن اعتناقَه للماركسية لم يرتبط بأيِّ «أدْلَجَة» للأدب والفن، وأن اقتناعه بها لم يبلُغ أبدًا حدَّ التزمُّت الضيِّق أو التحجُّر المذهبيِّ المُغلَق في إطارٍ نظريٍّ فوقيٍّ يُمكِن أن يفرِض على الواقع الذي علمته الماركسية نفسها أنه جدلي مُتغير، كما هدَتْه بَصيرته الشِّعرية وحاسَّتُه الفنيَّة والدِّرامية إلى أن هذا الواقع هو الذي يفرِض الشكلَ الأدبيَّ أو الفنيَّ المُلائم له ولا يصحُّ أبدًا أن يُفرَض عليه الشَّكل أو تُفرَض النظرية، حتى ولو كانت هي الواقعيَّة الاشتراكية التي تَحمَّسَ لها على طريقته.
ومُجمَل القول إننا نَظلِم برشت إذا تصوَّرنا أنه كان مُجرَّد داعِيةٍ للماركسية أو الشُّيوعيَّة أو مُحرِّض على تبَنِّيها، لا لأنه يؤمنُ أعْمَقَ إيمانٍ بحريَّة القارئ والمُشاهد تِجاه ما يُقدِّمه له في الشعر والمسرح من نماذجَ واقتراحاتٍ كما سبَق القول، ولا لأنه — بِمكرِه الفَنيِّ الشديد! قد استطاع أن «يوظِّف» الماركسية في تفكيره الواقعي والعملي والعقلاني، وفي رؤيته للأحداث والظواهر الاجتماعية والتاريخية والأدبية رؤيةً جمالية وجدلية كما سبقت الإشارة لذلك أيضًا، بل لأن أعماله نفسها — حتى في المرحلة التي تُوصَف بالمرحلة التعليمية في حياته وإنتاجه والتي استمرَّت من حوالي سنة ١٩٢٧م إلى حوالي سنة ١٩٣١م — لم تكن أعمالًا تُدافِع عن قضايا مُعيَّنة أو تدعو إليها، وإنما كانت في حقيقتها «تدريبات» فنيَّة وجمالية في مُواجهة الفنِّ «البرجوازي» المُتهالِك والمُبرِّر لمُجتمع الظلم والاستغلال وتجارة الحروب، وفي مواجهة الإعلام والأدب المُزيَّف والمُغيِّب لعقل المتلقِّي وحريته واستقلاله كما سبق القول، وحتى مسرحياته التعليمية التي تتردَّد فيها لهجة المُهيِّج أو المُحرِّض على الثورة الجماعية للعمال والفقراء والمُستغلِّين والمظلومين والمحرومين وتحثُّهم على التَّضامُن لدَرءِ الخَطَر النازي البادي في الأُفُق كما نرى في الاستثناء والقاعدة ومسرحية الأم — عن رواية مكسيم جوركي الشهيرة — ومسرحية القرار أو «الإجراء» التي سبَق ذِكرها وبقيَ أن أقول إنه في أواخر حياته كان يرفُض عرضَها على المسرح رفضًا باتًّا، إلى جانب فيلمه الكروش الرَّطبة ١٩٣٠م. أقول إن كلَّ هذه المسرحيات التعليمية أو التَّحريضيَّة التي لم يُكتَب لها النجاح لم تكن سوى تَشخيصٍ فنيٍّ على خشبة المسرح لفلسفته الواقعية والعقلانية والعملية — إلى حدِّ النَّفعية البرجماتية! ولم تكن بأي حالٍ من الأحوال مسرحياتٍ دعائيةً تروِّج لنظريةٍ فلسفية مُحدَّدة يعلَم هو نفسه أكثرَ من غيره أنها كسائر النظريات — حتى الجمالية والفنية كما قلت — قابلة للتَّغيُّر على ضَوء الواقع الذي لا يجوز أبدًا أن يُحشَر في قوالبها، وأنها قدَّمت له من مناهِج التفكير والرؤية والفِعل ما كان مُلائمًا لطبيعته وحاجته، وأنه في النهاية قد استطاع أن يحوِّل تلك الفلسفة التي انهار تطبيقُها بعد رحيله إلى تجاربَ فنية وتدريبات مسرحية جماعية، وكان هذا الانهيار نتيجةً طبيعية للتَّزمُّت المذهبي والغباء البيروقراطي والتَّجنِّي الرَّهيب على حقوق الإنسان في حرية التفكير والاعتقاد والعمل، بالإضافة للتَّصفِيات المُستمرَّة وأعمال القَهْر التي ضاق بها وأعلن احتجاجه عليها في أواخر حياته كما يَشهَد على ذلك خِطابه الشهير لأولبرشت حاكِم ألمانيا الشرقية السابقة بعد تمرُّد العُمَّال المشهور في شهر يونيو ١٩٥٣م وقصيدته الشهيرة «الحل» التي تجِدها في هذا الكتاب). ومع اعتقادي بأنه بَقِيَ على اقتناعه وإيمانه بالاشتراكيَّة وبقُدْرتها على التَّجدُّد في المُستقبل طبقًا للإمكانات الإنسانية والمعرفية الكامنة فيها ولإمكانات الواقع المُتجدِّد، فالمُهِمُّ في هذا السياق أنه حوَّل «النظرية» أو المذهب إلى فلسفةٍ حيَّةٍ على المسرح وفي الشِّعر، وأنه وظفها فيما يُمكِن وَصْفه بفلسفة رَجُل الشارع — الفقير والجائع والضَّحيَّة الدائمة لكلِّ الجلادين — وأنه — ككلِّ إنسانٍ وفنانٍ حقيقي — مُطلَق الحرية في أن يَتبنَّى النظرية أو الفلسفة التي يشاؤها، بشرط أن يُجسِّدها في فنٍّ صادِقٍ حيٍّ لا يموت بِمَوت النظرية أو الفلسفة — كما تشهَد على ذلك أعمال الشعراء والأدباء والفنانين الكبار التي لا تزال خالِدةً رغم التَّغيُّر الحَتْمي للنظريات والآراء والفلسفات التي جَرَفَتْها أنهار التَّغيُّر والتحوُّل عبر العصور والحضارات.
وصدَق حدْسُه وبُعد نَظَرِه عندما تنبَّأ بالكارِثة قبلَ وقوعِها؛ فقد أحسَّ مع غيره من المُثقَّفين في العِشرينيَّات بأن جمهورية فيمار (١٨١٨–١٩٣٣م) الهَشَّة آيِلَة للسُّقوط، وأن العصابات النازية التي افتضحت نواياها وجرائمها تُواصِل زَحْفَ الوحوش للاستيلاء على الحُكم تمهيدًا لإشعال نِيران الحرب. ولم يكن «التحوُّل» الماركسي ولا المسرحيات التعليمية والثورية التي سبَقت الإشارة إليها سوى مُحاولات يائِسة لفتح الأعيُن على الخَطَر القادِم لا مَحالة، ودعوة للعُمَّال والفقراء والغافِلين المَخدوعين من أبناء الطبقة الدُّنيا للتَّضامُن والمُواجَهة، ولكن هذه الأعمال لم يكن لها صدًى يُذكَر، ولم تُحدِث التأثير الذي تَوقَّعَه منها. كانت الساحة السياسية والاقتصادية كالبحر العاصِف المُضطرِب الذي لا تَستطيع حتى ربَّات الفنون أن تُعيد إليه السَّكِينة أو تُقِيم في ظُلُماته مَنارة العقل. وبَقِيَ «البرجوازي» العادي غبيًّا لا يَتعلَّم ولا يُحاوِل تَجاوُز الماضي والحَيلُولة دون أن تتكرَّر مآسيه.
استولى النَّازيُّون على السُّلطة، ولم يُخالِج برشت أيُّ شكٍّ في أن «هتلر» هو الحرب، وقَوِيَ يَقِينه باستِحالةِ الحياة والعمَل تحتَ سقفِ القمْعِ والإرهاب المُظلِم بعد الحريق المشهور للبرلَمان الألماني (الرايشستاج) في السابع والعشرين من فبراير سنة ١٩٣٣م، فصمَّمَ على الهرَب من بلاده بأقصى سُرعةٍ مُمكِنة. واتَّجه إلى الدانمرك عن طريق براغ وفِينَّا وباريس حيث استقرَّ مع عائلته ومُساعِدَته الوَفيَّة مَرجريت شتيفين في مَنفاه بالقُرب من ميناء سفندبورج الصغير ما يقرُب من سَبعِ سنواتٍ كانت من أطيَبِ وأخصَبِ سنواتِ حياته وحُبِّه وإبداعه (يكفي القول بأنه استطاع أن يُنجِز ثلاثةً من أهمِّ مسرحيَّاته تُعدُّ من أهمِّ المَعالِم البارِزة في الإنتاج المسرحيِّ في القرن العشرين، وهي الأم شجاعة وأبناؤها، والإنسان الطيِّب من ستشوان، وحياة جاليليو جاليلي في صِيغتِها الأولى، بالإضافة إلى عدَدٍ كبير من القصائد التي تُعرَف بقصائد سفندبورج، وتجِد مُختاراتٍ منها في هذه المجموعة المُنتَخبة وتدُلُّ على اتِّجاه شِعره إلى المَلحمِيَّة واستفادته من التُّراث الشرقي في تَعبئة كلِّ أسلحته الفنية ضد الحرب). تحوَّل إنتاج برشت في غُربة المَنفى التي استمرَّت قُرابة الخمسة عشر عامًا تحوُّلًا تامًّا إلى مكافحة الفاشية، وجنَّد لذلك كلَّ موضوعاته وإمكاناته اللُّغويَّة والشِّعرية على أمل تقوية العناصر المُناهِضة للرُّعب النازيِّ داخِلَ بلاده وخارِجها، ومن الاتِّجاهات اليمينية واليسارية على حدٍّ سواء، لعلَّ الجميع يتعاوَنون — بعد القضاء على النازية التي لم يَشكَّ لحظةً في هزيمتها الحَتميَّة — لخلْق ألمانيا أخرى مُوحَّدة وحُرَّة وأكثر إنسانية. وكان أشدُّ ما غاظَه في تلك الفترة العَصيبة هي تلك التيَّارات السياسية التي لم يرَ أصحابها في النازيَّة سوى البَربريَّة المُعادِية للثقافة أو الحضارة التي ينبغي توجيه النِّضال لإنقاذها من براثِنها، وكأن الانتصار على الوَحْش البربريِّ الأشْقَر كفيلٌ باستقرار قِيَم الحقِّ والعَدْل والعقل والسعادة والسلام! ولكن الأمر في نَظرِه كان أكثرَ تعقيدًا وأعمقَ جذورًا؛ إذ لا مَفرَّ لتحقيق ذلك «الحلم المُمكِن» من تغيير العلاقات الاجتماعية وعلى رأسها علاقات المِلْكيَّة تغييرًا يُلغي أي فُرصةٍ لعودة الظُّلم والاغتراب واستغلال الإنسان للإنسان وتنشيط التجارة القَذِرة المُدمِّرة بإشعال فَتيل الحروب الكبيرة والصغيرة كلما خَبَتْ نِيرانها. يدُلُّ على هذا أنه دُعِيَ سنة ١٩٣٥م لحضور المؤتمر الدولي للكتاب الذي عُقِد في باريس للدِّفاع عن الثقافة — أو الحضارة — وإنقاذها من مَخالِب الفاشيين. كانت الجبهة المُوحَّدة من الرأسماليين الليبراليين والبرجوازيين المَسيحيِّين والاشتراكيين الديمُقراطيين والشيوعيين وراء الدعوة لهذا المؤتمر وتنظيمه، وكان من بين المُشاركين والمُتحدِّثين فيه شخصيات أدبيَّة وفكريَّة مرموقة: مالرو وباربوس وجيد وهينريش مان وﻫ. ج ولز وإرنست بلوخ وروبرت موزيل وبرتولت برشت الذي سارع بالحضور من منفاه الدنمركي «تحت سطحٍ من القش». كان هو الوحيد الذي لم يتكلَّم عن الكلمة (التي نامَت عِندما صحا ذلك العالم الفاشي على حدِّ تعبير صديقه النمسوي كارل كراوس)، ولا عن ضرورة إنقاذ القِيَم الثقافية الرفيعة من الغرَق في الدم والتلوُّث برماد الخراب؛ لأن الذي يُخنَق تَحتبِس الكلمة في رقبته على حدِّ قوله في إحدى قصائده. لذلك كان هو الوحيد الذي أثار سُخط الجميع واستِهجانِهم عندما خاطَبَ المؤتَمِرين قائلًا: «أيها الزُّملاء والرِّفاق، فلنتكلَّم عن تغيير علاقات الملكية.»
عرَف برشت — كما سبق القول — أن وُصول هتلر إلى الحُكم معناه الحرب. ولم تترُكْه الحرب لِيُواصِل حياته السعيدة المُنتِجة تحت سطح القشِّ الدنمركي (الذي كان في الحقيقة فيلَّا جميلة ذات حديقةٍ واسِعة هيَّأت له ولأُسرته سنواتٍ عامرةً بالهدوء والحبِّ والإنتاج الخِصب بفضل صديقاته وأصدقائه الدنمركيين!) واضطُرَّ أمام الزَّحف النازيِّ على الدنمرك والنرويج أن يهرُب مرةً أخرى إلى السويد ثم إلى فنلندا (١٩٤٠م) حيث أقام فترةً قصيرة واستخرج جواز سفر إلى الولايات الأمريكية المُتَّحدة التي سافر إليها عن طريق الاتحاد السوفيتي (لم يخطُر على بالِه أن يلجأ إليه كما فعل غيره بِسبب اعتبارِه ماركِسيًّا مُنشقًّا في نظر الستالِّيين المُتشدِّدين كما سبق القول).
حمَل معه مَخطوطات قَصائدِه ومسرحياته التي كان قد بدأها وأنجَزَ مُعظمها في المَنفى الدنمركي. وكان من أهمِّها مسرحيته التي دَعَمت شُهرته العالمية وهي «الأم شجاعة وأبناؤها» التي تؤكِّد أنَّ الحرب تِجارة، وأنَّ الإنسان العاديَّ لا يتعلَّم منها إلا بقدْرِ ما تتعلَّمه النَّملة من عِلم الحشرات! لم تكُن هذه الأمُّ شخصيةً تراجِيديَّةً يُمكِن أن تؤثِّرَ علينا بسقْطتِها النبيلة أو بالخطأ أو الذَّنب الذي تقَع فيه دُون ذنبٍ كما تَشهَد التراجيدية القديمة والحديثة وكما عرفها أرسطو بالاستِناد إلى شخصية أوديب. لقد جاء تأثيرُها الجارِف على النَّظارة والقُرَّاء من كونها امرأةً عادية غبيَّةً لم تتعلَّم أيَّ شيءٍ من سُقوط أبنائها الثلاثة ضحايا للحرب التي يُدِيرها ويموِّلها عِليَةُ القوم. والدَّليل على هذا أنها تَجرُّ عربتَها في النهاية لتقديم المَزيد من الضَّحايا الذين ستدُوسُهم عَجَلة الحرب! (أُتِيح لي أن أُشاهِد عرضها الرائع وتمثيل هيلينة فيجل (١٩٠٠–١٩٧١م) لِدَور الأمِّ على مسرح فرقة برشت في سنة ١٩٦٠ فأثَّرت عليَّ أنا أيضًا وجَعلتْني أتشكَّكُ منذ ذلك الحِين في إمكان التطبيق العمَلي لنظرية برشت الشهيرة عن أثر الإغراب).
ويُؤكِّد بعض النُّقاد أنه استفاد في هذه المسرحية من قراءاته السابقة لديدرو ومن أفكاره التي طرَحَها على لِسان الخادِم جاك «القدري» — في روايته المعروفة بهذا الاسم — عن سيِّدِه الأرستقراطي، كما انتفَع بالفقرة الشَّهيرة في «ظاهريات الرُّوح» لهيجل عن جَدَل السيِّد والعبد، لا سيما بالعِبارة التي تقول إن العبْدَ هو حقيقة السيِّد. ولعلَّه قد ردَّدَ في نفسه أثناء العمَل في هذه المسرحية ذلك السؤال الحاسم: «من … من؟» أي من يَضطَهِد من، ومن المُنتصِر ومن المَهزوم؟
وقد كثَّف هذا كلَّه تكثيفًا شِعريًّا في أُغنيَته عن نهر المولداو، وهي إحدى أُغنيات مسرحيَّتِه «شقايك في الحرب العالمية الثانية» (١٩٤٣م): في قاع المولداو تجري الحصى الحَجرية، وفي براغ دُفِنَ ثلاثة قياصرة، لا الكبير يبقى كبيرًا ولا الصغير صغيرًا، الليل يدوم اثنَتَي عشرةَ ساعة ثم يَطلع النهار. الأوقات تتغيَّر وتتحوَّل. المشروعات الضَّخمة للحُكَّام الأقوياء تتوقَّف في النهاية حتى لو تَبختَروا في مِشيَتهم كالدُّيوك الدَّموية، فالأوقات تَتحوَّل وتتَغيَّر، والقوة لا تُجدي شيئًا. في قاع المولداو تَتجوَّل الحصى الحَجرية، وهناك ثلاثة قَياصِرة مدفونون في براغ. لا الكبير يبقى كبيرًا ولا الصغير صغيرًا. والليل يدوم اثنتي عشرة ساعة ثم يطلع النهار …
ووصل مع عائلته إلى كاليفورنيا حيث تنقَّل بين لوس أنجيلوس وسانتا مونيكا وهوليوود بالولايات المُتَّحدة الأمريكية بعد رحلة بريَّة وبحرية شاقَّة. وفي السُّوق الذي تُشتَرى فيه الأكاذيب وتُباع، تَحتَّم عليه أيضًا أن يقِفَ في الصفِّ ليعرِض أكاذِيبَه على صرَّافي الوَهْم وغَسْل المُخِّ في هوليوود (بعضُ الحوارات وسيناريوهات أفلام صُوِّر منها بإخراج فريتز لانج فيلم الجلَّادون أيضًا يموتون عن مَقتَل الجلَّاد النازي هيدريش في براغ). هنا كتَب مَرثيَّات هوليوود التي تدلُّ على إحساسه بأنه وَجَد نفسه يَعيش في جَحيمٍ أرضي، كما كتَب حكايةً شِعرية عن المُذنِبين في الجحيم — وهي حكاية يؤكِّد فيها بسُخريَّتِه اللاذِعة أن الجحيم لا يُوجَد على الأرض فحسب، ولا في لندن كما قال شيللي شاعِر الرومانسية الإنجليزية، وكما قال هو نفسه قبل ذلك بكثير في أوبرا مهاجوني، وإنما هوليوود هي الجحيم نفسه. صحيح أنه اختلَط بكثيرٍ من المُهاجِرين الألمان الذين سبَقوه إلى العَيش في ضاحية سانتا مونيكا، وكان من بينهم بعض أعلام الأدب والمُوسيقى والفنِّ التَّشكيلي بجانب اثنين من أَقدَمِ أصدقائه وأقرَبِهم إليه (الكاتب ليون فويشتفنجر والمُلَحِّن هانز آيزلر) ولكنه وَجَد كذلك بعضَ المُهاجرين الذين لم يَرتَحْ إليهم أبدًا، مثل تيودور أدورنو وهور كهيمر وبولُّوك من الأعضاء البارزين لمدرسة فرانكفورت النقدية الاجتماعية الذين لاذوا بمعهدِهم الشهير للبحوث الاجتماعية إلى أمريكا، واستطاعوا بكِتاباتِهم أن يُضخِّموا عُقدةَ الذَّنبِ الألماني عن مَحارِق النَّازي لأبناء مِلَّتِهم من اليهود، وهو ما استغلَّته إسرائيل بعد ذلك أبشَعَ استغلالٍ في صورة تعويضات بالمليارات! كما ضاق بوجود تُوماس مان الذي لا أشكُّ في أنه ظَلَمَه عندما تصوَّر أنه أحد «المُتعهِّدين» بتقديم الأدب المُعبِّر عن الرأسمالية للرأسماليين، وأنه هو الذي أوحى إلى الحُلَفاء بِمُعاقَبة الشعب الألماني لمُدَّة عشر سنوات — وهكذا وجَدَ نفسه مُحاصَرًا في الجحيم: مسرحياته شِبْه ممنوعة أو مشبوهة (باستثناء جاليليو) — وسيناريوهاته للسِّينما شِبه مرفوضة، وجِيرانه الذين يَختلِط بهم لا يُشارِكونه آراءه وأحلامَه عن ألمانيا أخرى مُوحَّدة وحُرَّة ومُسالِمة يعيش فيها شعب يضَع يدَه في أيدي جميع الشعوب، بدلًا من مُعاقَبته وتَضخيم عُقدَة ذَنبه التي أُسيء استِغلالُها أسوأ استغلالٍ ومن كلِّ النواحي كما سبق القول.
كانت الحرب قد انتهت وبدأت شُقَّة الخلافات والشكوك في الاتِّساع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي الذي لم يُخفِ أطماعه التَّوسُّعيَّة تحت قبضة ستالِّين، مما حَمَل الأمريكيين على الخَوف من كلِّ ما هو «أحمر»، ومُلاحَقة كلِّ نشاطٍ يتوهَّمون أنه مُعادٍ لهم. واستُدعِيَ برشت إلى الإدلاء بِشَهادته أو لتَبرِئة نفسه أمام لجْنة التفتيش الشهيرة (التي سمَّت نفسها لجنة النشاط المُعادي لأمريكا ولم تَستثْنِ بعض الكتاب الأمريكيِّين والفنانيين اللامِعين مثل تشارلي شابلن وآرثر ميللر وليليان هيلمان). وأعدَّ برشت مُرافعةً دقيقة وأمينة لم يُعطَ الفُرصةَ لإلقائها أمام اللجنة في الثَّلاثين من أكتوبر ١٩٤٧م، ولكنه أكَّدَ فيها أنه لم يُشارِك أبدًا في أيِّ نشاطٍ حزبي، وأنه كتَبَ ما كتَبَه من شِعرٍ ومسرحٍ ضدَّ هِتلَر وعِصابة القَتَلَة مِن حَوْله بِدافِعٍ أدَبيٍّ خالِص وانطلاقًا من ضَميره الحرِّ كشاعِرٍ وكاتب حُر. ولم تجِد اللجنة فيما تحت يدِها من تَرجماتٍ إنجليزية لأشعاره ومَسرحيَّاته أيَّ تُهمةٍ مُحدَّدة يُمكِن أن تُدِين قَلمًا نذَرَه صاحِبُه للدِّفاع عن الحُريَّة والعَدْل والسَّلام فأطلَقَتْ سَراحه.
وبدأ برشت في اليوم التالي مُباشرةً في الاستِعداد للرُّجوع إلى بلاده هرَبًا من المَنفى ومن الجحيم.
ولا بُدَّ قبل أن نَختِم هذا التَّقديم من وقفةٍ قصيرة أمام «أزمة» الوجود المُغترِب التي مرَّ بها ذلك اليوم المُرعِب العَصيب الذي اشتعلَتْ فيه ثَورة العُمَّال في برلين الشرقية في السابع عشر من شهر يونيو سنة ١٩٥٣م وسحَقَتْها القوات الرُّوسية المُحتلَّة بالدَّبَّابات. والمشكلة شائِكَة والآراء حولَها لا تزال مُختلِفة ومُتضارِبة حتى يومِنا الحاضر، وما فَتِئتْ بعضُ الأصوات تُردِّد الاتِّهامات السابقة بالسلبيَّة والضَّعف والخَوف من اتِّخاذ المَوقِف المُنتظَر من كاتبٍ وشاعِرٍ مثله حِيال تلك المِحنة التي كشفتْ عن فشل حكومة «دولة العُمَّال والفلاحين» والأخطاء والإجراءات القَمعِيَّة التي ارتَكبتْها وهدَّدتْ بإلقاء التَّجربة الاشتراكية بِرُمَّتها والعُمَّال والفلاحين أنفسهم في نيران السُّخط العاصِف والغضَب الجَارِف. والثابِت اليومَ أنَّ برشت لم يقِف مَوقف المُتفرِّج ولم يُقصِّر في توجيه اللَّوم إلى الحكومة والحِزب؛ فقد سارَع في اليوم نفسه بإرسال خِطابَين إلى رأس النِّظام الحاكِم (وهو فالتر ألبرشت) ورئيس وزرائه أوتوجرو تيفول لم يُنشَر منهما في الصُّحف الرسمية غير العبارات التي يؤكِّد فيها الشاعر تَضامُنه مع الحِزب الاشتراكي المُوحَّد، مع إسقاط الفقرات التي اتَّهم فيها الحكومة والحِزب بإملاء الاشتراكية من أعلى وإرهاق العُمَّال بِحِصَص الإنتاج المُضاعَفة والتَّضييق عليهم بدَلًا من إشراكهم بالاقتناع الحرِّ في الإصلاح والبناء، ومع السُّكوت التامِّ عن مُطالَبَته الصَّريحة بإجراء حوارٍ عامٍّ حوْلَ الأوضاع المُتردِّية والوسائل الكفيلة بإنقاذ المُنجَزات التي تحقَّقتْ من أيدي العناصر الفاشِيَّة المُخرِّبة التي تَسلَّلتْ إلى صفوف العُمَّال بتحريضٍ مِن الرأسماليِّين والنازيين الذين أعادوا تَنظيم أنفسهم والإعداد لحربٍ ثالثة. وكان هذا أيضًا هو مَضمون الخِطاب الذي أرسلَه إلى ناشر أعماله «زور كامب» ردًّا على الاتهامات التي راحَتْ مُختلِف الدوائر الغربية تُلقيها على رأسه.
وبِغَضِّ النَّظر عن التفصيلات الكثيرة المُعقدَّة عن هذا الموضوع الذي لا يزال الغُموض يُحيط به، ومع التَّسليم بأن جُذوره العَميقة تتوغَّل في أسئلةٍ ومُشكلاتٍ أعمَّ وأشمَل (كعَلاقة الأديب والفنَّان بالسُّلطة، والعلاقة بين الفنِّ والسياسة وطبيعتها وحدودها، ومَوقف الكاتِب من الحقيقة نفسها وطُرُق تصوُّرها والبحث عنها … إلخ) فيبقى علينا أن نُوجِّه سؤاليْن أَخِيرَين ونُحاوِل الإجابة عليهما: هل صحيح أن برشت لم ينظُر إلى أحداث ذلك اليوم المُرعِب المُضطرِب — شأنها في ذلك شأن سائر الأحداث السياسية والوقائع اليوميَّة — إلَّا من حيث هي في صَمِيمها — أو على الأقلِّ بالنِّسبة إليه — مُجرَّد تَجارب فنيَّة وجماليَّة؟ وهل أثَّرَتْ فظائع ذلك اليوم على شخصيَّته وإنتاجه واعتقاده الأساسي بضرورة التَّغيير؟
أما السُّؤال الأول فيأتي الردُّ عليه من جانب الرُّوائي الأشْهَر جنتر جراس. وربما لا يَخلو هذا الردُّ — في تقديري على الأقلِّ — من الإجْحاف أو الاختِلاق الذي لا يَقوم على أساسٍ ثابِتٍ من الواقع الفعلي، أو يقوم على أحسنِ الفُروض على الخَيَال الفنيِّ غَيرِ المُنَزَّه عن الغرَض.
فقد نشَر جراس في أوائل السَّبعينيَّات مسرحيةً بعنوان «العامة يُجرِّبون التمرُّد» (والتجريب هنا بمعنى تَقديم بُروفاتها على خَشبة المَسرح) وعُرضَت المسرحية وأثارَتْ مَوجاتٍ عارِمةٍ من الضَّجيج والأخذ والرَّد، فهي تُصوِّر برشت مع مُعاوِنيه وأعضاء فِرقته أثناء العَمَل المُشترَك في إعداد النصِّ الذي اقتَبَسه عن مسرحية كريولان لشكسبير، ويندَفِع إلى المسرح عددٌ من العُمَّال من مُختلِف الحِرَف كأنهم جُنود مَهزومون يائسون قد لَجئوا إليه وعلى وجوههم ومَلابِسهم وفي أصواتهم الغاضبة آثارُ المعركة الدَّامية التي ما تزال مُشتعلة اللَّهب. لقد جاءوا يَستنجِدون بالكاتِب والشاعر المَرموق في عُيون الدولة والشَّعب للتَّوقيع على بَيانٍ يَستنكرون فيه الأحداث البَشِعة ويُطالبون بإيقاف المَذبحة والبَدء الفَوريِّ في التهدئة والإصلاح. ويُدرِك برشت بحساسيَّته المَسرحيَّة أو بِمَكرِه الفنيِّ أنه أمام حريقٍ يَتطلَّب العمل على إطفائه ولا تُجدِي معه البُطولات الفرديَّة الصارخة. ويَستدرِجُهم شيئًا فشيئًا لعَرض الأحداث والتجارب التي مرُّوا بها وعاناها كلُّ واحدٍ منهم على حِدَةٍ وكيف وصل الأمر إلى ما وصل إليه. ويكتَشِف قادَة العُمَّال بعد كلِّ هذه «البروفات» أنهم قد خُدِعوا ووَقَعوا في فَخِّه فيَخرُجون وهُم يَلعَنُونه بأفظَعِ الشَّتائم ويَتَّهِمونه بالجُبن والانتِهازيَّة وإخفاء رأسه في الرِّمال المسرحية.
وتتواصَل الأحداث وتَمتدُّ ألْسِنة اللَّهب، ويُهدِّدُ الحريق الشَّامل المدينة وأهلَها وإنجازاتها التي تحقَّقت بالكِفاح والعرَق والدُّموع، وتدور العجَلة الجُهنمية دورتها التاريخية المعروفة فتتدخَّل دبَّابات السُّلطة المُحتلة وتُسدَل الأستار على النِّيران المُطفأة والجِراح النازِفة. ويرجِع العُمَّال مرةً أخرى — إذا لم تَخُنِّي الذَّاكِرة — فيتواصَل الحوار ويُوقِّع الشاعر على البيان وينصرفون. هل كان في وِسع برشت أن يفعل أكثر ممَّا فَعَل؟ أيُمكِن أن نُحمِّله أوزار السُّلطة الغَبيَّة الطاغية وهو الذي لا يملِك إلا سُلطة ضَميره الفنيِّ والإنساني؟ وهل نَلومُه أخيرًا على عُكوفِه — حتى في ذلك اليوم الفظيع — على عمَلِه الجادِّ على أمَل تحقيق شيءٍ مِن التَّغيير في الميدان الذي وهبَهُ حياته وكِفاحه وعَذابه في المنفى وفي الوطن؟
أسئلة تَتَّصِل كما ترى بالأسئلة التي طرحناها قبل قليل.
وأما عن السؤال الثاني فقد عرفنا كيف انكَبَّ على عمله المسرحي منذ عَودته إلى برلين وتأسيس فرقته وتخصيص مسرحٍ خاصٍّ به وتَعاوُنه مع أصدقائه وزُملائه وأبنائه من الأجيال الشابَّة على إتقان العُروض المسرحية من تأليفه أو إعداده. لقد دَأبَ هنا أيضًا على إحداث التَّغيُّرات الهامَّة في فنِّ التأليف الدِّرامي المَلحَمي وفنِّ التمثيل والإلقاء بما يُطابِق نظرياته، وتجديد فنِّ الفُرجَة أيضًا لإحداث التَّغيُّر المنشود لدى المُتلقِّي أو المُشاهد. ثُمَّ داهمَتْه أحداث السابع عشر من يونيو فكادت أن تَقتلِعَه من جذوره وتَشُدَّه إلى هاوية العدَميَّة واليأس واللَّامعنى، لولا إصراره على مُواصلة كفاحه في سبيل التَّغيير في كلِّ مجال يُمكِن أن يَتناوَله قَلَمُه ويؤثر به على القُرَّاء والمُستمِعين والمُشاهدين.
وعلى الرغم من كلِّ الشكوك والتناقُضات التي تُثِيرها حياة برشت وأعماله ولم تزَل تُثيرها إلى اليوم، فلا بُدَّ من القول أيضًا بأن حِكمته العدَمِيَّة التي عاوَدَته في تلك السنوات الأخيرة لم تُفقِده الثِّقة أبدًا في إمكان التَّغيير والتجديد حتى مع آخِرِ نَفَسٍ يخرُج من صدْر الإنسان. والواقِع أنَّ الغرور لم يُخالِجه أبدًا إلى الحدِّ الذي يتصوَّر معه أن أعماله خالدة أو صالحة لكلِّ العصور؛ فقد عبَّر عن شَكِّه في قصيدةٍ أعاد فيها صياغةَ عبارةٍ لشاعِر الرومان الأثير لديه «هوراس» وقال فيها: حتى الطُّوفان لم يدُم إلى الأبد، فذاتَ يومٍ تَسرَّبتِ المياه السوداء. حقًّا، ما أقلَّ المياه التي استمرَّت وقتًا أطول من ذلك.
وقد علَّقَ برشت نفسه على هذه الأبيات القليلة بقوله: «من أراد أن يقفِز قفزةً كبيرة فلا بُدَّ له من أن يَتراجَع عدَّة خطوات. إن اليوم يتغذَّى من الأمس ويُواصِل مَسيرته نحو الغد. ربما يُنظِّف التاريخ المائدة من كلِّ ما عليها، ولكنَّه يتخوَّف دائمًا من المائدة الخالية.»
أحمده سُبحانه إن كنتُ قد وُفِّقت، وأسأله العَفو والصَّفحَ إن كنتُ قد أسرَفتُ وتعثَّرت، فإليه ألجأ، وإليه المصير.
القاهرة في شهر يوليو ١٩٩٨م