مقدمة الطبعة الأولى
حياة برتولت برشت وأعماله
وُلِد برتولت برشت (أويجن برتولت فريدريش برشت كما يدلُّ اسمه الكامل) في اليوم الثاني من شهر فبراير عام ١٨٩٨م في مدينة أوجسبرج الألمانية، كان أبوه برتولد برشت (الذي وُلِد في آخرن في الغابة السوداء في عام ١٨٦٩م) قد حضر في عام ١٨٩٣م إلى مدينة أوجسبرج ليعمَل في مصانع الوَرق هناك، وظلَّ يتدرَّج بجِدِّه ونشاطه في سُلَّم الوظيفة حتى أصبح مُديرًا تجاريًّا لها في عام ١٩١٤م. نشأ برشت في ظروفٍ اجتماعية مُيسَّرة، كفلتْ له الرَّخاء والأمان، وكان كلُّ شيءٍ يوحي بأن حياته ستسير في مَجراها العادي، على نحو ما سارت عليه حياة شقيقه الأوحد فالتر الذي عمِل أستاذًا لصناعة الوَرق في كليَّة الهندسة وفي مدينة دارمشتات — فقد عُمِّد على المَذهب الإنجيلي، ودخل المدرسة الابتدائية والثانوية في مَسقط رأسه، وغادَرَها في عام ١٩١٧م إلى جامعة ميونيخ ليدرُس الفلسفة والطب. ولكن يبدو أن برشت — الذي ظهرت طبيعته الغربية المُتمرِّدة والمُتفتِّحة منذ صِباه — كان قد صمَّمَ على أن يَستبدِل بالحياة البرجوازية المُتطلِّعة إلى المظهر والغِنى حياةَ الأديب المُتحرِّرة من كلِّ قَيد.
فها هو ذا في طفولته يهتَمُّ بمسرح العرائس اهتمامًا غير عادي، ويُمثِّل ويُخرِج مع رفاق صِباه مسرحيات كاملة، ويَجِد لذَّته الكُبرى في الاستماع إلى المُغنِّين المُتجوِّلين في الشوارع والأسواق. ويظهر لأول مرَّةٍ في العالَم الأدبي وهو لم يَتَعدَّ السادسة عشرة من عمره؛ إذ ظهرت أولى قصائده في اليوم السابع عشر من شهر أغسطس عام ١٩١٤م في جريدة «أحدث أخبار أوجسبرج».
وكان لتجربة الحرب العالمية الأولى أكبر الأثر على تطوُّره الفني، فقد دأب في السنوات الأولى من هذه الحرب على كِتابة أشعارٍ وطنية صِرفة، ما لبِثتْ نَغْمتها ابتداءً من عام ١٩١٦م أن تغيَّرت تغيُّرًا ملحوظًا (كتَب وهو في المدرسة الثانوية مَقالًا «انهزاميًّا» باللُّغة اللاتينية موضوعه «ما أحلى وما أجملَ الموت في سبيل الوَطَن!» كاد أن يَتسبَّب في طردِه من المدرسة).
ماتت أُمُّ برشت في شهر مايو عام ١٩٢٠م وكانت أقربَ الناس إليه وأبعدَهم أثَرًا على حياته (راجِع قصيدة أُمِّي في هذه المجموعة). وبمَوتِها بدأت صِلاته بأُسرتِه تضعُف شيئًا فشيئًا. وانتقَل إلى ميونيخ، وظلَّ يكتُب في صحيفة «إرادة الشَّعب» التي كانت تَظهَر في أوجسبرج حتى قطَع صِلَته بها في أوائل عام ١٩٢١م. وبذلك انتهت أعوام أوجسبرج (التي كان من ثمارها أيضًا ولَد غير شرعي لم يلبَث أن تُوفِّي في صِغَره). وانقطَعَت صِلَته بأبيه وأسرته، وبدأت سنوات الاضطراب التي مهَّدت لاستيلاء النازِيِّين على الحُكم في عام ١٩٣٣م.
لم يَكَد برشت يستقرُّ في ميونيخ حتى راح يتردَّد على برلين مُحاولًا أن يَضعَ قدَمه فيها، فهو يتفاوَض مع الناشرين، ويتعرَّف على الحياة الفنية، ويرتبِط بروابط الصَّداقة بالمُمثِّلين والكُتَّاب، ويزداد عدَدُ فضائحه ونَوادِره، ويَقِف على مسرح الحياة الأدبية وكأنه الطِّفل المُفزِع الرَّهيب في الأدب الألماني الجديد!
ومُثِّلت «طبول في الليل» في سبتمبر عام ١٩٢٢م لأول مرَّةٍ في ميونيخ، ونجَحَت نجاحًا كبيرًا كان بِداية شُهرتِه في عالم المسرح، وفوزه بالجائزة المعروفة باسم الشاعر المسرحي الكبير كلايست، حتى لقد كتَبَ ناقِد يقول: «لقد استطاع برشت البالِغ من العُمُر أربعةً وعشرين عامًا أن يُغيِّر وجهَ الأدب الألماني في يوم وليلة.»
وفي عام ١٩٢١م بدأ مسرحيته التَّعبيرية الثالثة «في أحراش المُدُن» كما كتَب أربعَ مسرحياتٍ من فصلٍ واحد، تأثر فيها بالأدَب الشَّعبي تأثُّرًا قوِيًّا، وحذا فيها حَذْوَ المُمَثِّل الهَزْلي الشعبي الشهير كارل فالنتين. وهذه المسرحيات «التي نُشرَت بعد وفاته ضِمن أعماله المسرحية الكاملة» هي الشَّحَّاذ أو الكلب الميِّت، يَطرُد الشيطان، نور في الظُّلُمات، والزفاف.
وفي شهر نوفمبر عام ١٩٢٢م تزوَّج برشت المُمثِّلة ماريانه جوزفينه توف التي أنجَب منها ابنته هانا ماريانه التي اشتُهرت بعدَ ذلك بدَور جان دارك في مسرحيته «جان دارك السلخانات» عندما مُثِّلَتْ لأول مرَّةٍ في هامبورج عام ١٩٥٩م.
وفي عام ١٩٢٣م مُثِّلت مسرحية «في أحراش المُدن» في ميونيخ، وهي تُعبِّر عن عُزلة الإنسان المُطلقة، وغُربة الناس عن بعضهم في مُدن الأسفلت غُربةً لا تَسمح لهم حتى بأن يُعادوا بعضهم بعضًا.
وكُلِّف برشت لأول مرة في عام ١٩٢٤م بإخراج ماكبث، ولكنه تردَّد عن القيام بالمُحاولة؛ إذ بدا له الإقدام على عمَلٍ من أعمال شكسبير مُخاطَرة غير مأمونة، واستعاض عنه بكرستوفر مارلو، فاقتَبَس بِمُعاوَنة ليون فويشتفنجر مسرحيته «إدوارد الثاني» التي مُثِّلت لأول مرةٍ في ميونيخ في شهر مارس عام ١٩٢٤م وبدَأَت تَظهَر فيها بذور نظريته المسرحية التي ستَتَطوَّر فيما بعدُ إلى الشكلِ الذي نعرِفه اليوم باسم «المسرح المَلحَمي».
وفي عام ١٩٢٤م انتقَل برشت نهائيًّا إلى برلين، وعمِل حتى عام ١٩٢٦م في «المسرح الألماني» مع المُخرِج العظيم ماكس رينهارت إلى جانب الكاتِب المسرحي كارل تسوكماير. وسُرعان ما ألِفَ الحياة في برلين، وجمَع حولَه كعادَته عَددًا من الأصدقاء والأتْباع المُتحمِّسين، من شُعراء ورسَّامين ومُمثِّلين ومُلاكمين.
وقضى برشت عام ١٩٢٥م في كِتابة مسرحيته «رجُلٌ بِرَجُل» التي مُثِّلت لأول مرةٍ في دارمشتات في عام ١٩٢٦م. وهذه المسرحية تَستهلُّ مرحلة جديدة في حياته الفنية والفكرية، فعندها تبدأ سِلسلة مسرحياته (التي ستدْعَمُها فيما بعد عقيدته الاشتراكية) التي يؤكد فيها أن الإنسان يتحدَّد بالظروف الاجتماعية المُحيطة به. وبَطلُ هذه المسرحية إنسان عاديٌّ يتحوَّل إلى أداةٍ جُهنَّمية من أدوات الحرب، ويُقيم الدَّليل على أن الإنسان في المُجتمَع الحديث يُمكِن أن يُستبدَل بغيره وأن يُشكَّل على الصورة التي تُراد له. وكان برشت قد بدأ يَهتمُّ بالنَّزعة الأمريكية وما تَمتاز به من موضوعيةٍ ونَفْعية وعُنف وجنون بالرياضة والضَّجَّة والتَّنافُس، ويُبدِي إعجابه بالسلوكية (مذهَب واطسون في عِلم النفس الذي يقتصر على بحث مظاهر السلوك فحَسْب ويُنكِر ما يُسمَّى بالنفس أو الشعور) كما كان قد بدأ في دِراسة الماركسيَّة دراسةً مُنظَّمة، وحضور الفصول المسائية التي كانت تُنظِّمها مدرسة العُمَّال في برلين، والاهتمام بمسائل المال ومُناورات البورصة. وظلَّ حتى عام ١٩٣٠م يُتابِع دراساته الاشتراكية، ويتعمَّق في قراءة هيجل وماركس لتعزيز إيمانه بضرورة الثَّورة التي تَصوَّر أنها ستُغيِّر العالم (راجع قصيدته غَيِّر العالَم فهو يحتاج للتغيير).
تعرَّفَ برشت في ذلك الحِين على المُخرِج المَسرحي الكبير إرفين بسكاتور وتوثَّقَت صِلتُه بمسرحه السياسي الذي توسَّع في إدخال الوسائل التِّقنية عليه وفي تفسير الأحداث من جانبها الاجتماعي والتاريخي. وقد كان لتَعاوُن برشت معه أكبر الأثَر على تَطوُّره الفني، حتى ليُقال إن تَعبير المسرح المَلحَمي أو الدراما المَلْحَمية يرجع إلى بسكاتور أو هو الذي ساعد على الأقلِّ على نشره والترويج له.
وكان عام ١٩٢٧م هو عام المجموعة الشِّعرية الأولى لبرشت التي تُعرَف باسم «تَبتُّلات البيت» والتي دلَّت على أنه شاعر أصيل بقدْر ما هو كاتِب مسرحي موهوب. والحقُّ أن قصائده الغنائية كانت تسير دائمًا جنبًا إلى جَنبٍ مع مسرحياته، إن لم تكن أقدَرَ منها على الكَشفِ عن طبيعته الشَّاعِرية الحقَّة. وقد تأثَّر في هذه المجموعة بأشعار فرانسوا فيون (الذي طالَما اتَّهَم برشت بالسَّرِقة عنه!) ورديارد كبلنج ورامبو، وعبَّر فيها بلُغةٍ قوية نفَّاذة الطَّعم والرائحة عن الإحساس بالتَّشرُّد والضَّياع، والشُّعور الغَريزيِّ الحَيَواني الغَارِق في بَهجةِ الوجود وعَذابه، والآلام التي تُعانِيها الخليقة المُمَزَّقة «على هذا الكوكب غير المأمون».
وانفصَل برشت في ذلك العام عن زوجته الأولى، وتعرَّف على زوجته الثانية هيلينيه فيجل، وهي المُمثِّلة التي ارتبَطَ اسمها باسمه، وقامت بأداء مُعظَم أدوار النساء في مسرحياته، حتى إن أغلبَ هذه الأدْوار كُتِبَ تحت تأثيرها أو فُصِّلَ على قَدِّها (وأشهر أدوارها هو دَور الأم شُجاعة في المسرحية المعروفة بهذا الاسم). وسجَّل هذا العام نفسه (١٩٢٧م) أول عملٍ مُشترك لبرشت مع الموسيقي كورث فيل — الذي ارتبَط اسمه به فيما بعد، وأصبح مُلحِّنه الأول غير مُنازَع — إذ قام بِتَلحين بعض الأغاني المُختارة من «تَبتُّلات البيت» وعُرِضت باسم «مهاجوني» في الاحتفالات المُوسيقية السنوية في بادن — بادن، ثمَّ تَطوَّرت فيما بعدُ إلى أوبرا «سقوط وازدهار مدينة مهاجوني» التي يجِد القارئ بعضَ أغانيها في هذه المجموعة. على أن الانتِصار الحقيقي الذي أحرَزاه معًا كان بِعَرْض أوبرا القروش الثلاثة في ٣١ أغسطس من العام التالي (١٩٢٨م) على مسرح الشفباوردام الذي أصبَحَ بعد ذلك بأكثرَ من عِشرين سنةً هو المَقرُّ الدائم لفِرقة برشت المعروفة باسم فِرقة برلين. وقد اقتَبَس برشت هذه الأوبرا عن «أوبرا الشَّحَّاذ» التي ألَّفَها الإنجليزي جون جاي في عام ١٧٢٨م وترجَمَتْها إلى الألمانية مُساعِدَته إليزابيث هاوبمتان وحشَدَها بأُغنِياتٍ من تأليفه ومن تأليف الشَّاعِر الفرنسي الشَّريد فرانسوا فيون.
حاوَل برشت في هذه الأوبرا أن يَسخَر سُخريةً مُرَّةً من العادات الشائعة في المُجتمع الرأسمالي، وأن يُصوِّره عَالمًا من اللُّصوص والآفَّاقين والشَّحَّاذين، كما حاوَل أن يُهاجِم الأوبرا التقليدية. وهكذا بدأ النقد الاجتماعي يَسير جنبًا إلى جنْبٍ مع النَّقد الفنِّي، كما بدأت تظهر ملامح الشكل المسرحي الجديد الذي دَعمَته الكِتابات النظريَّة فيما بعد.
وبدأ برشت في عام ١٩٣٠م نشْرَ مسرحياته في كرَّاسات مُتتابِعة تحت عنوان «محاولات» زوَّدَها بمُلاحظات وتعليقات يغلِبُ عليها الطابع التَّعليمي والتَّجريبي الذي أراد به أن يَستَبدِل الدَّرس والتعليم بالمُتعة الفنية. على أنه ما لَبِث في المرحلة الأخيرة من حياته الفنية أن تَراجَع عن هذا المَوقِف المُتطرِّف، وربَط ربطًا جدليًّا حيًّا بين الاستمتاع والتعليم. وقد ظهَرت أولى هذه المسرحيَّات التعليمية في الاحتفالات المُوسيقية السنوية في بادن — بادن، عام ١٩٢٩م، وهي طَيَران لندبرج، وتكاد أن تكون تَمجيدًا للإنسان في العصر الصناعي، وتأكيدًا لانتِصاره على الطبيعة. وكانت ثانِيَتها هي مسرحية بادن التعليمية عن التَّفاهُم، وهي تؤكِّد دَور المُجتمَع كما تُحبِّذ زَوال الفرد في مُجتمعٍ لا اسم له. كما بدأ العمل في ذلك العام نفسه في مسرحية من أهمِّ مسرحياته وهي «جان دارك قِدِّيسة المَذابِح» (أو السَّلَخانات)، وتدور حول صِراع فتاةٍ من مُتطوِّعات جَيش الخَلاص مع رِجال الأعمال في بُورصة شيكاغو لإنقاذ مصير عُمَّال السلخانات، وبدلًا من أن تَرتَفِع إلى السماء كالقِدِّيسين والشُّهداء تَهبِط إلى الأرض لتدعو الإنسان إلى الخَلاص من مُضطهِدِيه ومُستَغِلِّيه.
وتَصِل المسرحيَّات التعليمية إلى غايَتِها كما تبلُغ التضحية بالفرد في سبيل المجموع ذُروتَها القاسِية الرَّهيبة في مسرحيته المعروفة باسم «الإجراء» التي وَضَع ألحانها هانز أيزلر، وهي تروي حكاية جماعةٍ من الدُّعاة الثوريِّين في إحدى مناطق الصِّين يَقتلون زميلًا لهم فشَل في أداء المُهمَّة التي كلَّفَه بها الحِزب نتيجةً لتغلُّب النَّزْعَة العاطِفية عليه، فقتلوه بعد أن اعترف بأخطائه ورَضِيَ هو نفسه بأن يُضحَّي به في سبيل المجموع. وقد تَراجَع برشت بعد ذلك عن تزَمُّته المَذهبي في هذه المسرحية التي ضاق بها ورفض عرضَها رفضًا مُطلَقًا في سنواته الأخيرة.
وفي عام ١٩٣٠م كتَب برشت مسرحية تعليمية أُخرى هي الاستثناء والقاعدة، أثناء إقامته في المَصيَف الفرنسي لا لافاندو على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وتُبيِّن المسرحية (التي مَثَّلها مسرح الجيب بالقاهرة في فبراير عام ١٩٦٤م) كيف أنَّ الفِعل الخيِّر يُصبِح هو الاستثناء من القاعدة في مُجتمَعٍ يسودُه الشرُّ ويَحتَدِم فيه صِراع المصالح والطبقات. حتى إذا قدَّم الضُّعفاء والفُقراء الخيرَ أُسيءَ فَهمُه من جانب المُستغِلِّين والأقوياء، وراح القانون أيضًا يُبرِّر سلوك هؤلاء. وقد نُشِرَت المسرحية لأول مرَّةٍ في عام ١٩٣٧م، كما مُثِّلت لأول مرةٍ كذلك في فلسطين في أغسطس عام ١٩٣٨م على مسرح جيفات حاييم.
وفي عام ١٩٣١م أعدَّ برشت مسرحية هاملت للإذاعة واشترك مع كاسبارنيهر في إخراج أوبرا «ازدهار وسقوط مدينة مهاجوني» التي سبَقَت الإشارة إليها على مسرح «كورفور ستتدام» في برلين، كما راح يعمَل في «مسرحة» رواية الأمِّ المشهورة لماكسيم جُوركي وحوَّلها إلى مسرحية تعليمية (يتعلَّم منها مُمثِّلوها قبلَ كلِّ شيء!) تُصوِّرُ تَطوُّر الأمِّ العاملة التي تَقتنِع بالمبادئ الماركسية.
ونشر برشت كذلك — إلى جانب مُلاحظاته النظرية العديدة عن المَسرح المَلحَمِيِّ التي علَّق بها على أوبرا القروش الثلاثة وأوبرا مهاجوني — مجموعةً صغيرة من قصائده تحتَ عنوان «من كِتاب سُكَّان المُدُن» التي يجِد القارئ مُختاراتٍ منها في هذا الكتاب. وقد استَغنى الشاعر في هذه المجموعة عن القافِية والإيقاع المُنتظِم، وغلَبت عليه الدِّقَّة في الأداء، والموضوعية في التعبير. كما نَشَر كذلك في سلسلة «المُحاولات» قِصَصَه المعروفة «بحِكايات السيِّد كوينر» وكِتابًا للأطفال تحت عنوان «الجُنود الثلاثة» قال برشت عنه إن الغَرَض منه هو أن يُحفِّزَ الأطفال على طرْحِ الأسئلة، وهي عبارة تنطبِق على كلِّ أعماله التي تَستهدِف إثارة الدَّهشَة والسُّخط لدى القارئ والمُتفَرِّج، ودَفْعهما إلى تَغيير الواقع الاجتماعي المُحيط بهما بالثورة والعُنف إذا اقتضى الأمر؛ ولذلك وجَّهَها لجميع الأطفال من سنِّ الثامنة إلى الثمانين.
أقبَل عام ١٩٣٣م وراح هِتلر يُعدُّ العُدَّة للاستيلاء على السُّلطة. وبدأت نُذُر الإرهاب تَتلَبَّد في سماء ألمانيا وتُنذِر بالوقوع على رأس برشت؛ فقد مُنِع تَمثيل مسرحية جان دارك في دارمشتات، كما أُوقِف عرض مسرحية الإجراء في مدينة إيرفورت. وفَهِم برشت ما تعنيه هذه النُّذُر، فغادَر ألمانيا مع زوجته في اليوم السابع والعشرين من شهر فبراير عام ١٩٣٣م، وكان على طِفلَيه أن يَلحَقا بهما إلى المَنفى.
وتحقَّقَت مَخاوِف برشت من الإرهاب النازي، فقد أُحرِقَت كتُبه في الحريق المشهور الذي ألقى فيه النازيون بِمُؤلَّفات أكثر من مائتي كاتبٍ وشاعِر ألماني اتُّهِموا بالانحلال والْتَهَمَتْها النِّيران مع صَيحات الجماهير المُتحمِّسة الهاتفة أمام مبنى دار الأوبرا في برلين. وفي اليوم الثامن من شهر يونيو عام ١٩٣٥م حُرِم برشت من الجنسية الألمانية وكانت قصيدة «حِكاية الجُندي الميِّت» التي كتَبَها في العشرين من عُمره — والمَنشورة في هذه المجموعة — هي التي أثارت عليه النازيِّين، وملأت قلوبَهم حِقدًا عليه.
غادَر الشاعر برلين إلى براغ، ومنها إلى زيورخ عن طريق فيينَّا. وكانت الرِّحلة الثانية لبرشت (الذي راح يُغيِّر بلدًا ببلدٍ أكثر مما يُغيِّر حِذاءً بِحِذاء، كما سيقول فيما بعدُ في قصيدته عن برشت المسكين) هي جزيرة تيرو في الدانيمارك حيث قضى هناك أوائل الصَّيف. وفي هذا الصَّيف نفسه أقام فترةً من الوَقت في باريس، حيث عرَض آخر أعمالِه التي ظهرَت بالتَّعاوُن مع المُلَحِّن كورت فيل، وهو باليه أنا-أنا، أو الخطايا السبع المميتة، الذي يُصوِّر فساد القِيَم الأخلاقية في مُجتمَعٍ يَسوده الربح والتِّجارة، وهو الباليه الوحيد الذي كَتَبه برشت ولم يُقدَّر له النجاح لا في باريس ولا في لندن.
وفي عام ١٩٣٤م ظهرَت في باريس الطبعة الألمانية من مجموعته الشِّعرية الثانية «أغاني، قصائد، وأناشيد جماعية (كورات)» كما ظهرَت رواية القُروش الثلاثة في إحدى مَطابع اللاجئين في أمستردام، وازدادت نَغْمة النَّقد الاجتماعي حدَّةً عمَّا كانت عليه في المسرحية المُماثِلة وبلغَت من السُّخرية الدَّامية القاسِية دَرجةً تُذَكِّرنا بسُخريَّات سويفت. وتَصِل هذه السُّخرية القاتِلة إلى ذُروَتِها المُخيفة في حُلم الجُندي فيو كومبي الذي يَتَّهم فيه المَسيح ويُدِينه لأنَّه ضلَّلَ الفُقَراء وأغراهم بالآمال الكاذِبة.
وأقام برشت مع أُسرته في بيتٍ ريفيٍّ في سكوفزيو ستراند (منطقة سفند برج) مُطلٍّ على شاطئ جزيرة لانجيلاند، يُحيط به الأصدقاء الدنمركيون ويُعاوِنونه على الحياة. واتَّخذ من إسطبلٍ قديم للخُيول مُزوَّدٍ بمائدة كبيرة مكانًا يَعمَل فيه. وعاش الشاعِر في عُزلةٍ كامِلَةٍ عن العالَم الخارجي مُنصرِفًا بِكُلِّيَّته إلى الكِتابة والتأليف. وكان من الطبيعي أن يُوجِّه كتاباته ضدَّ النازية، وأن يكشِف عن الرُّعب والإرهاب اللذين عاش الألمان في ظِلِّهِما في ذلك العهد القاتم، ويفضَح المِحنَةَ والتَّعاسة الرُّوحية المُستَتِرة وراء الصَّخَب الذي يُثيره هِتلر وأعوانه. وكان أن خَرَجت مَسرحيَّتاه «الرءوس المُستديرة والرءوس المُدَبَّبة» و«رُعب الرايخ الثالث وتَعاسَته»، كما راح يُساهِم في مُكافحة النازية، ويشترِك في مُظاهرات الاحتِجاج عليها، ويُسافر إلى باريس ولندن ونيويورك وموسكو، ويلتقي بالمُهاجرين من زملائه، ويخطُب في المؤتمرات (كما فعل في المؤتمر الدولي للكتاب المُنعقِد في باريس في يونيه ١٩٣٥م) ويُشرِف على إخراج مَسرحيَّاته، ويُلقي أشعاره الساخِرة من إذاعة ألمانيا الحُرَّة، ويُساهم في تحرير الكثير من المجَلَّات التي أسَّسَها المُهاجِرون في عواصِم العالَم التي ظلَّت بعيدةً عن قَبضةِ النَّازِيِّين (وبالأخصِّ مجلَّة «الكلِمة» التي كان يُصدِرها مع ليون فويشتفانجر) وينشر مُؤلَّفه الهامَّ «خمس صعوبات عند كِتابة الحقيقة». وفي هذه الفترة توقَّف برشت عن كِتابة مسرحياته التعليمية؛ ربما لأنه تَبيَّن قُصورها عن تحقيق أهدافه من المَسرح المَلحَمي الذي كان دائم التفكير فيه، وراح تحتَ وطْأةِ الظروف التي يَعيشها يُؤلِّف مسرحياتٍ كفاحيَّةً تقترِب كثيرًا من النَّزعَة الطبيعية التقليدية (من ذلك مسرحية «رُعب الرايخ الثالث وتعاسته»، ومسرحيَّة «بنادِق الأم كارار» التي تكاد تَسير على التقاليد الأرسطية الخالِصة). ويضَع مقاله الهام «مسرح التسلية أم مسرح التعليم» (١٩٣٦م) الذي يُقِيم فيه مسرَحَه الجدَليَّ أو «غير الأرسطي» على ما يُسمِّيه بالإغراب الذي يَجعَل المُمثِّل «يعرِض» دورَه على المُتفرِّجين بدَلًا من الاندِماج فيه، ويُحفِّزهم على الاندِهاش من الواقع الذي يُصوِّره لهم ويدفعهم إلى نقدِه والثورة عليه. أضِف إلى ذلك أن زيارته لموسكو في عام ١٩٣٥م كان لها أكبر الأثر على تطوُّره المسرحي، وزادت اقتناعه بآرائه في المسرح المَلْحَمي، وعَمِلتْ على تأكيدها وتَعميقها؛ إذ أُتيح له أن يتعرَّف على المسرح الصيني، ويلتقي بالمُمثِّل ماي لان فانج الذي كان يُمثِّل في موسكو في ذلك الحين، ويرى فيه المَثَلَ الأعلى للتَّمثيل المَلْحَمي الذي يَبتعِد فيه المُمثِّل عن دَوره وينفَصِل عنه.
وهكذا كتَب مقاله «آثار الإغراب في فنِّ التَّمثيل الصيني» (١٩٣٧م) الذي كان مُقدِّمةً لسِلسلة من الكِتابات النَّظريَّة التي راح فيها يدعَم نظرياته عن المسرح المَلحَمي ويُطبِّقها على مَشاهد من مسرحياته، ونذكر من تلك الكِتابات «المسرح التجريبي» (١٩٣٩م)، و«مشهد في الشارع»، و«وصْف مُوجَز لتكنيك جديدٍ في فنِّ التَّمثيل، يُحدِث أثر الإبعاد أو الإغراب» ويُتوِّجُها جميعًا مُؤلَّفُه الهام «الأورجانون الصغير للمسرح» (١٩٤٨م).
تأثَّر برشت في هذه السنوات كلها بعالم الشَّرق الأقصى ونَهَل من نَبْع الحِكمة الصينية، وعاش مع أفكار بوذا ولاوتزو وكونفوشيوس، وترك ذلك كلُّه أثَرَه على قَصائده ومَسرحيَّاته من ناحيِتَي الموضوع والشكل معًا. فها هي ذي الحِكمة الشرقية بكلِّ ما فيها من محبَّةٍ وطِيبةٍ وتواضُعٍ وإحسانٍ ومُقاوَمة للشرِّ والبَطْش تظهَر في كثيرٍ من أعماله، وها هو ذا يُترجِم قصائد صينية ينشُرها في عام ١٩٣٨م (ويَجِد القارئ بعضَها في هذه المُختارات) ويُؤلِّفُ في عام ١٩٣٩م قصيدته المشهورة «حكاية عن نشأة كِتاب تاوتي كنج الذي ألَّفَه الحَكيم لاوترو وهو في طريقه إلى المَنفى».
زاد خطَر الحرب، واشتدَّ الزَّحْفُ النازيُّ على البِلاد المُجاوِرة، وانتقل برشت إلى السويد في أبريل ١٩٣٩م، واشترَك في مؤتمر للمُهاجِرين الأحرار عُقِد في لندن في نفس العام، والتقى فيه بكثيرٍ من شخصيَّات الأدَب والفنِّ ومِنهم المُلحِّن هانز آيزلر، والمُصوِّر أوسكار كوكوشكا، والمُخرِج برتولد فيرتل. وأتَمَّ في نفس العام بعض أعماله الهامَّة، ومنها حياة جاليليو (التي كتَبَها كما يذهب البَعضُ تحت تأثير النَّجاح الذي حقَّقَه عالم الفيزياء المشهور أوتوهان بِشطر نَواةِ اليُورانيوم) والأم شُجاعة وأبناؤها، ومُحاكمة لوكولُّوس، وكلُّها تُمثِّل ذُروة التطوُّر في الدِّراما المَلحميَّة الواقعية، كما تُؤلِّف بين العناصر التعليمية والعناصر الفنيَّة في وحدةٍ واحدة. فجاليليو يُعبِّر عن مأساة العالِم الذي يَتنكَّر في الظاهر لاكتشافاته العِلميَّة الخطيرة التي تُثير غضَب الكنيسة وتُهدِّدُ سُلطانها المُطلَق لكي يَتمكَّن من مُواصلَةِ البحثِ عن الحقيقة. والأم شجاعة هي مِثال التَّاجرة الخَبيثة الغَبيَّة التي تَتعثَّر في حرب الثَّلاثين من مُغامرةٍ إلى مُغامَرة، وتفقِد ابنَيها وابنَتَها واحدًا بعد الآخر، وتُوشِك أن تفقِد كلَّ شيءٍ ولكنَّها لا تتوقَّف عن الجَرْي وراء الرِّبح ولا تتعَلَّم من كوارِث الحرب! أما القائد الروماني لوكولُّوس فيُحاكِمه العُمَّال والعبيد في العالَم الآخر ويزِنون حَسناته وسيئاته. وأما مسرحية «إنسان ستشوان الطيِّب» التي بدأها في عام ١٩٣٨م وأتَمَّها في عام ١٩٤١م فهي آخِر الأعمال الكُبرى التي ألَّفَها في مَنفاه الاسكندنافي، وحاوَل أن يُثبِت فيها بأسلوبٍ فنيٍّ غير مُباشر كيفَ أنَّ الإنسان مُضطَرٌّ في المجتمع الرأسمالي إلى أن يحيا بِضَميرين يُنكِر كلٌّ منهما صاحِبَه، وكيف أن الخَير والطِّيبة لا مكانَ لهما في وسَطٍ يتحكَّم فيه الأغنياء في الفُقراء. فالبَغِيُّ الطَّيِّبة شن تي تَتشكَّل في شَكلَين، وتَعيش بِقَلبَين وَوَجْهَين، أمَّا أحدُهما فيُحسِن إلى الفقراء ويَعطِف على المساكين ويحوز رِضا الآلهة، وأمَّا الآخَر الذي تتحوَّل فيه إلى ابن العمِّ الشرير شوي تا فهُوَ يُفكِّر بعقليَّة الرأسمالي، ويتصرَّف بمالِه في أقدار الناس.
وبينما كان هِتلر يَستعدُّ لغزْو روسيا، كان برشت يَستعدُّ للرَّحيل من جديد، ويَسعى للحصول على جواز سفر إلى أمريكا، ويَعمل في مسرحيَّته التي استمدَّ موضوعها من مُغامرات أبطال العِصابات في شيكاغو، وصوَّرَ بها استيلاء هِتلر وأعوانه على السُّلطة، ونعني بها مسرحية «صعود أرتورو أوي الذي يُمكِن أن يوقف» التي أتمَّها في أسابيع مَعدودة.
وفي الثالث عشر من شهر مايو عام ١٩٤١م غادَرَ برشت فنلندا ورحَل إلى فلاديفوستوك عن طريق موسكو. وفي الحادي عشر من شهر يونيو استقلَّ سفينةً سويدية إلى أمريكا، حيثُ أقام هناك في سانتا مونيكا، إحدى ضواحي لوس أنجليوس، في بيتٍ قديمٍ استطاع أن يَشتريَه لنفسه، ليَعيش فيه ما يقرُب من ستِّ سنوات. وتَجمَّع كثيرون من أصدقائه الألمان المُهاجرين حولَه وتعرَّف على عدَدٍ من الشخصيَّات المَشهورة في عالَم الفنِّ منهم شارلي شابلن وتشارلز لوتون وألدوس هكسلي وأودن والناقد المسرحي إريك بنتلي الذي أصبَحَ من أكبر المُتحمِّسين له والمُترجِمين عنه في اللغة الإنجليزية.
وراح برشت يَعمل في مسرحيَّته «رؤى سيمون ماكار» وهي قصة فتاة فرنسية صغيرة، تتشابك فيها أحداث انهيار فرنسا في صيف عام ١٩٤٠م مع مصير جان دارك وكفاحها ضدَّ الإنجليز، ومسرحيته «الجُندي شفيك في الحرب العالمية الثانية» التي استلْهَم موضوعها عن رواية للكاتب التشيكي هاشك.
ترك برشت أمريكا في عام ١٩٤٧م. وليس صحيحًا أن اللجنة الخاصَّة بالنَّشاط المُعادي لأمريكا هي التي اضطرَّتْه إلى مُغادَرة البلاد، فقد أبدى رغبته بالفِعل في عام ١٩٤٦م في العودة إلى أوروبا، ولكنه لم يحصُل على تأشيرة السَّفر إلَّا في أوائل عام ١٩٤٧م. ومهما يكُن الأمر فقد حُوكِم أمام تلك اللجنة، وبُرِّئَ من تُهمة العمل لصالح الشيوعيِّين، واستقلَّ الطائرة في اليوم التالي لمُحاكمته إلى أوروبا حيث وصَل إلى سويسرا في اليوم الخامس من شهر ديسمبر عام ١٩٤٧م، بعد خمسة عشر عامًا قضاها في المَنفى. وأقام في الدور العُلويِّ من أحد البيوت الرِّيفية في هرلبرج المُطلَّة على بُحَيرة زيورخ وهناك أتمَّ أهمَّ مؤلَّفاته النظرية عن مسرحه المَلْحَمي، وهو الأورجان الصغير للمسرح، كما أعاد صِياغة مسرحية أنتيجونا لسوفوكليس (عن ترجمة الشاعر هولدرلين) وأبرَزَ فيها الجانب الاجتماعي والسياسي من الأحداث المُعاصِرة له بصورة واضحة. وفي أكتوبر عام ١٩٤٨م غادَر سويسرا إلى برلين الشرقية، وما زال الرأيُ القائل بأنه كان ينوي الاتِّجاه إلى ألمانيا الغربية فمَنَعتْه سُلطات الاحتلال في حاجةٍ إلى التأييد.
انتزَع المَوت برشت وهو في قِمَّة نشاطه، تدلُّ على ذلك آثاره العديدة التي لم يُقَدَّر لها أن تَتِم؛ فقد مرِض مَرَضًا شديدًا في ربيع عام ١٩٥٦م بعد اشتراكه في مؤتمر الكتاب المُنعقِد في برلين في يناير من نفس العام، واضطرَّ إلى وقف التجارب التي كانت تُجرَى على مسرحية جاليليو وقضاء عدَّة أسابيع في العلاج. ولم يَكَدْ يَقِف على قدَمَيه حتى راح يُشارِك في التجارب النهائية التي تُجرى في فرقته المسرحية التي كان مُقدَّرًا لها أن تزور لندن في نِهاية شهر أغسطس.
من الشُّعراء من تُثيرُنا تعبيراتهم الغريبة، وتُدهِشُنا سَبحاتهم المُهَوِّمَة، وتَغمُرنا بِهالَةٍ من الحَيرة والغُموض، وكأنهم طبول غَيْبِيَّة مُعتِمة، أو سَحَرَةٌ ومَمْسُوسون يَستمِدُّون إلهامَهَم من قوًى عُلويَّة نائية. أما برشت فهو من الشعراء القلائل الذين يَتَّجِهون إلى الناس العادِيِّين، ويتَحدَّثون إليهم في لُغةٍ طبيعية مألوفة، تُنادي العقل ولا تَستثير الغريزة. كان أبغَض الأشياء إلى نفسه هو التَّهويل والتَّضخيم والمُبالَغة في الحساسية والعاطفية، وكان كلُّ ما يُريده هو الوضوح والبساطة والدِّقَّة التي تكاد تقترِب من موضوعية العُلَماء الطبيعيِّين.
اسمَعْه يقول في هذه الأبيات التي يُهدِيها إلى أسَدٍ رُسِم على وعاء صيني:
في مِثل هذه الأبيات — وأشباهها كثير في هذه المجموعة — نلمس إحساس برشت اللطيف بالكلِمَة والإيقاع، وتعبيره عن القوَّة والرِّقَّة، ووضعه للمضمون الجادِّ الثَّقيل في الصُّورة الرشيقة الخفيفة. ما من كلِمةٍ ضَخمة أو خَطابيَّة، ولا من إحساسٍ أجوَفَ أو مُتمَيِّع، بل أصعب الأشياء يجِد التعبير عنه في أسهَلِ قالب، وكأنه «السَّهل المُمتنِع» الذي طالَما حدَّثَنا عنه النُّقاد. إنه يكاد يبلُغ من الدِّقَّة والبساطة والاقتصاد في التعبير حدًّا نستطيع معه أن نقول إنَّ العقل نفسه قد أصبح شِعرًا، العقل الخالِص الذي يُسلِّط ضوءه الحكيم على الأشياء فتَشِفُّ عن جَوهرها الحق.
تميَّزَت قصائده وأغانيه وقصائده أو حِكاياته الشِّعرية المُبكرة — التي تأثَّر فيها بفيون ورامبو وفيدكند — بوَحشِيَّتها الصارِخة، وتمرُّدِها المُتحدِّي، وسُخطها الساخِر المَرير على انحطاط القِيَم البرجوازية، وتَعاسة القَدَر الألماني في أوائل هذا القرن.
كان القُرَّاء يُحسُّون في قصائده المُبكرة بما يُشبِه الديناميت الشِّعري الذي يُفجِّر الأعصاب ويصدِم النفوس بسِحره المُفزع القاسي. الغَريزة الحيوانية المُتجبِّرة، والكآبة المُستفزَّة، والإحساس الشامِل بالعدَم يُطالِعنا في مِثل هذه الأبيات من «كورال بال»:
وفي أبياتٍ أخرى نُحسُّ بِظِلال الغابات السوداء تنشُر عَتمة الموت فوق المُدن الصاخِبة، وتُنذِر بالانهيار والخَراب ما شيَّدتْه يدُ الإنسان:
هي الأنا الثائِرة التي تتلذَّذ بالتخريب وتَنتشي بالدَّمار، ولكنها ليست الأنا الرُّومانسية الوحيدة التي لا ترى سوى الموت والعدَم في كلِّ مكان. إنها تُحطِّم وتُخرِّب وتَنتظِر في نفس الوقت أن يُولَد فجر جديد، وتبزُغ قِيَمٌ جديدة. في هذه المرحلة العدَمية المُبكِّرة كان ثمَّةَ إحساس غامض بضرورة الثورة، ومُشاركة في الشَّقاء الجماعِيِّ لم تُعرَف بعد حدودها النظريَّة، وتَمرُّد محمود لم يَستنِد إلى أساسٍ من العقيدة الفِكرية. وكان أنْ أقَبَل برشت على قراءة هيجل ودِراسة ماركس، وعرَف مَرارَة النَّفْي وقَسْوة الاضطِهاد، فأصبحَ لِسان العامِلين والكادِحين الذي لا يَفتأ يُثير فيهم الدَّهشة من الواقع الذي يعيشون فيه، ويفتَح عيونهم على تَناقُضاته الدَّامية، ويُطالِبهم بتغييره والخلاص منه:
وهكذا تتوارى الذات وراء الموضوع، وتتَّحِد آلام الفرد بآلام المجموع، ويُصبِح الفنُّ وسيلةً للتعبير عما هو عامٌّ وضروري ومعقول.
انظُر إليه وهو يَسخَر من الشُّعراء الذين جعلوا مُهمَّتَهم مُواساة النفوس والتَّرفيه عنها بالأحلام والأوهام:
أصبَحَت الكلمة لدى الشاعر — الذي عرف مسئولية واجبه الأخلاقي والإنساني — هي نفسها واجِبًا يَهدف إلى تعليم الجاهلين، والوقوف إلى جانب المظلومين، وتشجيع المُكافِحين والثائرين، إنه يَمتحِنها المرَّةَ بعدَ المرة، وينزِع عنها السَّطحَ البرَّاق، ويُجرِّدها من القِشرة الكاذبة، حتى تُصبِح نقيَّة، بسيطة، شفَّافة، وتستوي قويَّةً ثابتةً رقيقة. وهي لا تُريد الآن أن تُعبِّر عن جوٍّ شاعريٍّ بقدْر ما تَطمَح إلى التأثير في الفِكر والعمل، لا تُريد أن تُثير وإنما تُريد أن تُربِّي، وتَجعل تصوير «النفس» شيئًا ثانويًّا إلى جانب تصوير «القضية» التي تطمَح إلى تحقيقها. انظر إلى هذه الأبيات الأربعة، كم من مُشكلاتٍ طويلة مُعقَّدة، وكم من تاريخٍ حافِل بعذاب الأجيال تنطوي عليه:
هي الحقيقة كُتِبت سرًّا على حائط. الطُّغاة الذين حكموا على الشعب بالطَّاعة، لم يستطيعوا أن يَسلُبوه القُدرةَ على المُقاومة، «هم يريدون الحرب» ولكن الحرب قد وَقعتْ فِعلًا. والذي أراد المأساة قد صرَعَتْه المأساة، والذي أراد أن يكون قَدَرًا لم يستطيع أن يُفلِتَ من القدَر. لقد بدا في وقتٍ من الأوقات كأنَّ كلَّ شيءٍ يسير بمشيئة الحاكِمين، وكأنَّ الأمل قد اختفى إلى غير عودة. ولكن ها هي الكِتابة على الحائط تُكذِّب المُتجبِّرين كما تُكذِّب اليائسين: «هم يُريدون الحرب» كتَبها بالطباشير رجلٌ مجهول، مُضطهَد، مُهان. والحقيقة وَجَدت، على الرغم من كلِّ شيء، مَن يقولُها. وستجِد دائمًا من يُعلنُها، ولو بكِتابةٍ بالطباشير، على جِدارٍ قديمٍ ووحيد. لقد استطاع الشاعر أن يَستبعِد مئات التفاصيل ليُبرِزَ الواقِع المُعقَّد في أبسط إطار. وما أصعَبَ الوصول إلى السَّهل، وما أعقَدَ الطريق الذي يؤدِّي إلى البسيط!
ما من تعبيرٍ غامِض، أو حالم، أو مُغلَّف بالسَّحاب أو الضَّباب، بل وُضوحٌ قاسٍ عنيد، ودِقَّة موضوعية لا يُمكِن أن يُساء فَهمُها، وكلماتٌ كالسَّيف لا يُمكِن أن تَحمِلَ مَعنيَين. إنها أكثرُ واقعيةً من الواقِع؛ لأنها لا تُزيِّفه ولا تُعمِّيه، ولا تُحاوِل أن تَعكِسه في غباءٍ كما يفعل مُعظم الذين يُسمُّون أنفسهم بالواقِعيِّين، بل تُرشِّحه وتَشفُّ عن جوهره، وتَستبعِد العرَضِيَّ لتَستخلِص الضروري. إن الشِّعر يُعبِّر الآن عن واقعٍ شفَّافٍ تَتخلَّله أشعَّةُ المَعرِفة والفَهم والذَّوق. ولكن هذه الشفافية لا تبلُغ أبدًا مبلَغ التَّجريد، بل تُركِّز الواقع نفسه، وتصوِّر الموضوع في صورةٍ بسيطةٍ تُذكِّرنا ببساطة الشِّعر الصيني الذي يصِل إلى أقصى حدٍّ من الإيجاز والواقعية في آنٍ واحد، ويضَع المضمون الهائل العظيم في الشكل الرَّقيق الرشيق.
ومع أن هذا الشِّعر يخلو من النَّبْرة الخَطابية والعاطِفية، ففيه مع ذلك من إيقاع المُوسيقى الباطنية ما لا يَقلُّ عمَّا في شِعر جوته أو رلكه، وإن كان يَزيد عليهما بِمِقدار ما فيه من العَقل والخُبث والذَّكاء. ولعلَّ هذا هو الذي يُفاجئ القارئ ويَستفزُّه حين يَطَّلع عليه لأول مرة. لقد كان يَنتظر الشاعر الساذَج البريء الذي تعوَّدَ عليه، فإذا به يُصدَم بالشاعر الماكِر الشَّرِس الذكي، ويرى صورةً جديدة للشاعِر الحكيم الذي لا يَجترُّ الماضي بل يَصنَع المُستقبل!
•••
ذلك هو «برشت المِسكين»، الابن الضائع للبُرجوازية، الشاعِر الذي قضى حياته في مُحاربة الحرب، ومُعاداة البربريَّة، والوقوف إلى جانِب الكادِحين، يلبَس سُترة العمَّال بِغير رِباط عنُق، ويحيا حياة التقشُّف في المَنفى، ويُغيِّر بلدًا ببلدٍ كما يُغيُّر المرءُ حذاءً بِحذاء، ويَمزِج في قصائده ومسرحياته أنين العَدَمِيِّ الحزين، بدِيناميت الثَّوريِّ العنيد. إنه في تُراث بلاده شيءٌ صارِخ جديد، ليس للمُجتمع الأدبيِّ به عَهد؛ فليس فيه شيء من ترفُّع ستيفان جئورجه، أو رِقَّة هوفمنستال، أو سِحر رلكه، أو جَلال توماس مان. في هذا المجتمع الأدبيِّ الذي ما زالت تُحدِّده شخصية جوته المُترفِّعة الطاغية، أصبح برشت هو الشخصية المُضادَّة التي قُدِّر لها أن تُحوِّل مجرى الفكر والشعر وجهةً لم يألَفْها من قَبل.
إن برشت يُثير السُّخط عليه حيثما ذهب. فالبعض ساخطون عليه لارتمائه في أحضان الماركسية والبعض ساخِط عليه لأنه «مُنشَق» ولم يكن ماركسيًّا كما يُريد له الحزب، والبعض الآخر غاضب عليه لأن سياسته دمَّرت مَوهِبته. أما الشاعر نفسه فيقِف بعيدًا، يبتَسِم ابتسامةَ الحكيم الصينيِّ كأنه يقول ما قالَه عن نفسه في إحدى قصائده: أيًّا كان الذي تَبحثون عنه، فأنا لستُ هو!
وإذا كان السُّخط يَدلُّ على شيءٍ فإنما يدلُّ على أن الجميع يأخذونه مأخذَ الجِد، وأنه وإن صدَمَهم وأثار ثائرتَهم فلأنه يَملِك إعجابهم في كلِّ الأحوال.
لقد اختلفت وظيفة الكلِمة، وأصبحتْ وظيفةُ الشاعر الجديدة صدًى لوضْعه الجديد في المجتمع. لم يعُد للشاعر الحقُّ في أن يُعبِّر عن عواطفه الشخصية، بل عن مُشكلات المجتمع. والفِكرة الرومانسية عن الخُلُق الفرديِّ قد أصبحتْ في رأيه خطأً كبيرًا. فتقسيم العَمَل في المجتمع الحديث قد غيَّر من طبيعة الخُلُق الفَنِّي وحوَّلَه إلى عملية جماعية، الهدف منها هو تغيير الظرُوف الاجتماعية. إنه يتحدَّث عن الشاعر البرجوازي الذي يُريد له أن ينقرِض فيقول:
الشاعر الآن يتحدَّث في نغْمةٍ جديدة، ويكتُب بأسلوبٍ جديد. البؤس والتَّعاسة والثورة تُصبِح موضوعاتٍ تَستحِقُّ أن تُكتَب عنها السوناتا ويُؤلَّف عنها النشيد. العمَّال البُسَطاء والمُكافِحون المَجهولون من أجل القُوت اليوميِّ يَحتلُّون مكان القادَة والمُلوك والنُّبلاء. حماس العاطفة ورِقَّة الحلم وسُكر الحواسِّ تَترُك مكانها للتَّهكُّم الساخر، واللفظ الوقِح، والغِلْظة المُتعمَّدة، إن أبيات الشِّعر تُغضِب الآن كلَّ من يُريد من الفن الاستمتاع والتذَوُّق الرَّفيع. إنها تصدِم وتجرَح. تدخُل في الدم، تهزُّ الجَسد كالكهرباء. يقول في قصيدته المَشهورة «برتولت برشت المِسكين»:
الغابات السوداء وأسفلتُ المُدن. الظلام الكونيُّ القديم، والظلم الطبَقِيُّ الذي طال عليه الأمد. إن برشت كلَّه حاضِر في هذين الضِّدَّين المُتقابِلين. وسوف يُعدُّ نفسه ليكون صوتَ الطبيعة، وصوتَ المظلومين والمُضطهَدين، وسيحمِل شِعره هذين العُنصرَين على الدَّوام: رومانسية الغابات المُوحِشة، واحتِقار المُدن التي ستفنى ذات يوم. الكآبة المُفرِطة، والقَسوة المُستفزَّة، الفزَع من مصير الخَليقة، والإيمان بغدٍ أفضل.
إن شِعر برشت يتميَّز بأنه يعيش على لُغة الشعب ويتغذَّى منها، وينهَل من الأُغنية الشعبية بعد أن يصوغها صياغةً ثابتة موجزة جسورة. ولكن شعره، وبخاصةٍ في المرحلة التعليمية المُتوسطة التي أشرنا إليها، يُعبِّر عن الصِّراع الذي ظلَّ يُعانيه بين طبيعته كشاعرٍ وبين آرائه السياسية. يقول مثلًا في مسرحيته التعليمية «طيران لندبرج»:
كما يقول في قصيدته «زمن سيِّئ للشعر»:
إنه يُجدِّد أشكال الشعر الكِفاحيِّ التي كانت مُفضَّلة في الأدب الساخر في القرن السادس عشر، في الكورال والنشيد، في قصائد الحِكمة والهِجاء، في أُغنِيات العمل والتنبُّؤ، وفي شعر الأساطير والحكايات الشعبية والخُرافات. كلُّ هذا يتأثَّر فيه الشعر الغنائي كما يتأثَّر مسرَحُه بالمسرح الصيني القديم والمسرح الديني عند الجزويت في العصور الوسطى والمسرحيات المدرسيَّة في عصر النزعة الإنسانية. وهو يجعل من التُّراث موضوعًا للتَّهكُّم والسُّخرية، ويحتفِظ بالشكل القديم المُقدَّس وإن كان يَملؤه بمضمونٍ دُنيويٍّ عادي، ربما يصِل إلى حدٍّ رهيبٍ من التفاهة والسُّخف. وهو يُجرِّد الشعر من طموحه الأزلي إلى المُطلَق والأبدي، ويربطه بعجلة الزمن والأحداث المُعاصرة له. إنه يُعلِّم القارئ كيف يُغيِّر من هذا العالم الذي أفسده المُستغِلُّون والظالمون وجَرَّدوه من معناه. والقصائد الحكمية المُوجَزة تنقِل تعاليمه في ثَوب الأغنيات الشعبية والأزجال التي يُردِّدها المُغنُّون في الشوارع أو الشحَّاذون على الأبواب. فهو يقول في ذِكرى جُنديٍّ ألماني مات في أثناء الحرب مع فرنسا:
لقد طرح كلَّ زينةٍ جمالية، وأهمَل القوالب المألوفة والعِبارات البالية. ولكن الهدوء الذي يبدو من إيقاعه البسيط يَحمِل التوتُّر المُمزَّق في داخله. والبرودة الثلجيَّة التي صاغ فيها أفكاره لا تستطيع أن تُخفي العذاب الكامِن وراءها.
ذلك أن الصِّراع بين الشاعر والسياسي لم يَختَفِ من شِعره أبدًا، والإحساس بأن الشِّعر قد باع نفسَه للدولة لم يَستطِع على الرَّغم من الأقنِعة الكثيرة أن يختفي كلَّ الاختِفاء.
العقل المُتيقِّظ، والتَّهكُّم المُتَّزِن، دفء الشعر الطبيعي وتجريد القضايا المَذهبيَّة، لهجة الرِّعاع وحِكمة الصين والنَّغْمة الشعبية البسيطة المُباشرة والدعوة السياسية والتعليمية. كلُّ هذه أضْدادٌ اجتمَعَت في حياة برشت وفي أشعاره، وساعد إحساسه الأصيل العَميق بالإيقاع أن يَجعل منها ما وَصَفه هو بقوله إنه «السَّهل المُمتنِع»، وأن يُكسِب قصائده الأخيرة بوجهٍ خاصٍّ طابع الشكوى والحُزن والفجيعة.
ويرجع إليه الدفء الإنساني، ولا يعود يَخجَل من أن يتغنَّى بنغْمة «هيني» الرقيقة، أو يُعبِّر تعبير هلدرلين أو التوراة:
ويعود إلى «الأبيجرام» الغنائي في شكله المُوجز، ويستغني عن التجريد ليُعطي صورًا حسيَّةً تتألَّق بالجمال، وتتَّحِد فيها الفكرة بالإحساس، على نحو ما يقول عن إعادة تسليح ألمانيا:
ويدفعه حبُّه للصين إلى كتابة قصائد كأنها نقوشٌ رقيقة حفَرَها الإحساس، تُذكِّرنا بِحِكَم تاو تي كنج المشهورة، هي في بعض الأحيان شعر طبيعي مُتأمِّل، وفي بعضها الآخر قصائد كِفاحيَّة باسِمة. لقد تخلَّى الآن عن عاطفية الشباب المُتطرِّفة، وحِدَّة لهجته في سنوات المنفى. عاد الشاعر إلى نفسه، إلى الصورة الرَّحْبة، والإيقاع الطليق، والتأثُّر المكتوم. ويصِل إلى قِمَّة التعبير الذاتي في قصيدته إلى الأجيال القادمة، التي كتَبَها في سنة ١٩٣٨م، بعيدًا عن تأثير الحرب والحِزب، ووَجَّهَها إلى العالم من بعده. لقد تَمزَّقتِ الأقنعة التي وضعَها على وجهه، وهو يتحدَّث الآن حدِيثَ من يشعُر بالذَّنْب ويَستعيد حياته في زُهدٍ ومرارة، ويُعبِّر عن الراحة الأبَدِيَّة التي كان يحلُم بها «بعل» في مسرحيَّته الأولى حين كان يَتطلَّع إلى السماء «كسولًا وراضيًا في نهاية الأمر»:
إنها وصيَّة شاعرٍ عظيم، ربما شعر باليأس وخَيبة الأمل في سنوات عُمُره الأخيرة، وعرف الهوَّة التي تفصِل النظريَّة عن التطبيق، وتُبعِد الشعر عن الواقع، ولكنه لم يفقِد إيمانه بعالمٍ أسعدَ وأعدل.
إن شعر برشت هو مُذكِّرات شاعرٍ أحبَّ هذا العالم، وعبَّر عن أحداث عصره التي مَزَّقتْه في النهاية. وليس ببعيدٍ أن يأتي اليوم الذي تتذكَّره فيه الأجيال القادمة، فتُحبُّه، وتفهمه، وتُسامحه.
القاهرة، ١٩٦٥م