قصائد أخرى
أُغنية المرأة١
(١) في المساء، على شاطئ النهر، في قلب الأغصان المُعتِم.
أرى في بعض الأحيان وجهها من جديد، وجه المرأة التي أحببتُها، امرأتي
التي ماتت.
(٢) انقضَت أعوام كثيرة، وفي بعض الأحيان لا أعرِف عنها شيئًا، وهي التي
كانت لي كلَّ شيء، لكن كلَّ شيء يزول.
(٣) وكانت تسكن في نفسي مِثل أشجار العَرعَر في مراعي منغوليا، حُبْلى
بالمياه الذاوية الصفراء وبالحُزن العظيم.
(٤) كنَّا نُقيم في كوخٍ أسود على ضِفة النهر، الذُّباب اللاسِع كان
كثيرًا ما يلسَع جسَدَها الأبيض، وكنتُ أقرأ الجريدة سبع مرات أو أقول:
شعرك قَذِر، أو أقول: أنت بلا قلب.
(٥) لكن ذات يوم، وأنا أغسل قميصي في الكوخ، سارت إلى الباب ورَنَت إليَّ
بعينيها وأرادت أن تخرُج.
(٦) والذي ظلَّ يضرِبها حتى تعِبت، قال: يا ملاكي.
(٧) والذي قال: أحبُّك، سار معها إلى الخارج وتطلَّع مُبتسمًا في الهواء،
وامتدَح الطقس ومدَّ إليها يده.
(٨) لما خرَجَت في الهواء، وسادَت الوَحشة في الكوخ، أوصد الباب وجلَس
يُطالِع الجريدة.
(٩) من ذلك اليوم لم ترَها عيناي، ولم يبقَ منها غير صرخةٍ صغيرة
أطلقَتْها، حين عادت في الصباح ووقفت أمام الباب المُوصَد.
(١٠) الآن تهدَّم الكوخ وحُشِي الصدر بأوراق الصُّحف، وأنا أرقُد في
المساء على ضِفَّة النهر في قلب الأغصان المُعتم، وأتذكر.
(١١) الرِّيح تحمِل رائحة العُشب في شعرها، والماء يصرُخ بلا انقطاع
يطلُب الراحة من الله، وعلى لساني طعم مَرارة.
عندما عمَّت الشكوى المرَّة من الكساد
أنا مُقتنِع تمام الاقتناع
بأن الطقس غدًا
أصفي منه اليوم،
أنَّ بعدَ المطَر تطلُع الشمس،
أن جاري يُحبُّ ابنته،
وأن عدُوِّي رجُل شرير.
كذلك لا أشكُّ
في أن أحوالي ستتحسَّن
عن أحوال الآخرين جميعًا،
على وجه التقريب.
كذلك لم يَسمَعني أحد أقول:
إن الدُّنيا أيام زمان
كانت أفضل منها اليوم،
أو أن النَّوع يتدَهْور،
أو أنه لا تُوجَد نساء
يمكن أن يَكفيهنَّ رجُل واحد.
أنا في كلِّ هذا
أوسع صدرًا، وأكثر إيمانًا من الساخِطين؛
لأنه يبدو لي
أن هذا كلَّه
لا يدلُّ على شيء.
أُغنية السلام
الصاعِقة تدَوِّي، والمطَر يتساقَط،
والريح تحمِل السُّحب بعيدًا.
أما الحرب فلم تحمِلها الريح إلى العالم،
الحرب من صُنع البشر.
السلام لا يخضرُّ كالأعشاب والأشجار،
السلام لا يزدهِر إلَّا بمشيئة البشر.
أيتها الشعوب،
أنتِ أنتِ قدَر العالم،
فتذكَّري قوَّتك.
ليست الحرب قانونًا طبيعيًّا،
ولا السلام هبةً تُقدَّم إليك.
يجِب أن نقهَر الحرب.
يجب أن نتَجاسَر على السلام.
الآن يجِب أن نقول للسفَّاحين: لا، لا، ثم لا.
لن نتخلَّى عن الحياة.
ويومئذ لن تقوم الحرب.
أُغنية عن العماء٢
يا أُختي، أخفي وجهَك، وأنت يا أخي، أحضِر سكِّينك؛
فالزَّمن قد خرج عن مِحوره.
الكُبراء يَجأرون بالشكوى، والوُضَعاء مُبتهجون فرِحون.
المدينة تقول: هيا نطرُد الأقوياء بعيدًا عنا.
المصالح الحكومية يقتحِمُها اللُّصوص، والقوائم المُدوَّن عليها أسماء
رقيق الأرض تُخرَّب وتُدَمَّر.
السادة شدُّوهم إلى أحجار الطاحون. الذين لم يروا
ضوء النهار أبدًا، غادَروا بيوتهم.
حُطِّمت صناديق القرابين المصنوعة من خشَب الأبنوس، والخشب الرائع النفيس
قطَّعوه وصنعوا منه أَسِرَّة.
من لم يكن يملك رغيف الخُبز، لديه الآن مخازن للغِلال، والذي كان يتسوَّل
الحبوب
يتصدَّق بنفسه اليوم على المُحتاجين.
(أين أنت أيها القائد؟ أرجوك، أرجوك، أرجوك، أعِد النظام!)
ابن الوَجيه المرموق لم يعُد من المُمكِن التعرُّف عليه، وابن السيِّدة
أصبح ابن أمَتِها.
كبار المُستشارين يبحثون في المخزن عن سقفٍ يحميهم،
من لم يكن يُسمَح له بالمبيت فوق الأسوار، يتمطَّى الآن في
الفِراش.
من كان يسحَب القارِب بالمِجداف، يمتلِك السُّفن الآن، وإذا نظر
إليها مالكها الأصلي، عرف أنها خرجت عن يده.
خمسة رجالٍ أرسَلهم سادتهم. إنهم يقولون: اسلكوا الطريق
بأنفسكم، لقد وصلنا.
(أين أنت أيها القائد؟
إليك أتوسَّل، أتوسَّل، أتوسَّل: أعِدِ النِّظام!)
١
لا أذكر هذه الأُغنية والقصيدتَين التاليَتَين قد مرَّت عليَّ أثناء
المُتابعة الدقيقة لما يزيد على الألف صفحة من طبعة الأشعار الكاملة لبرشت
(عن دار النشر زور كامب، فرانكفورت، ١٩٩٠م). ربما يكون الأمر قد اختلط
عليَّ فلم أتمكَّن من وضعها في سِياق الترتيب التاريخي — وهذا هو الاحتمال
الأكبر! أو ربما أكون قد وجدتُها ضِمن القصائد المُختارة التي اعتمدتُ
عليها أثناء إعداد الطبعة الأولى لهذا الكتاب في سنة ١٩٦٥م وأغفَلَها ناشِر
الطبعة الكاملة أو غابت عنه سهوًا. الأهم أن الأُغنية تستحقُّ أن تأخُذ
مكانها في هذه المجموعة.
٢
الكلمة الأصلية — التي تنحدِر عن الأصل اليوناني «خاؤس» تعني العماء
والخواء والاختِلاط المُطلَق. وقد استوحى برشت هذه الأُغنية عن أصول
شعريَّة مصرية قديمة يعرِفها كلُّ من اطَّلع على تراث الشكوى والأنين الذي
خلَّفَته الثورة المُدمِّرة التي سبقت قيام الدَّولة الوسطى، واستمرَّت
حوالي القرن ونصف القرن. ولعلَّ الشاعر أن يكون قد تأثَّر بنُذُر الحكيم
إيب-أور، وحديث المُتعَب من الحياة مع روحه.