قصائد وأغاني من مسرحية «بعل» (بال) (١٩١٨–١٩٢٢م)
كورال بعل العظيم١
في حِجر الأم الأبيض عندما شبَّ بال،
كانت السماء هائلة وساكِنة وشاحبة.
شابةً كانت السماء عاريةً وعجيبة،
كما أحبَّها عندئذٍ بال، عندما جاء بال.
والسماء بَقِيَت على حالِها في الأفراح والأحزان،
حتى عندما كان بال لا يراها وينام ناعِم البال.
بالليل تكون بنفسجيةً ويكون هو سكران،
وفي الصباح تقيًّا وهي شاحِبة الألوان.
وفي الخمَّارات، والكنيسة، والمُستشفى
يتخبَّط بال مُعتدِل المِزاج ويعتاد الأشياء.
ليكن بال مُتعبًا يا صغار، أبدًا لا يسقُط بال؛
فهو يأخُذ سماءه معه كلَّما انحدَر إلى الحضيض.
في زِحام الخُطاة الذي يفيض بالخَجَل والعار،
وقفَ بال عاريًا وتمرَّغ بكلِّ هدوء.
السماء وحدها، لكنَّها على الدَّوام هي السماء.
دثَّرتْ عُريَه بقوَّة، وسحبت عليه الغطاء.
والدنيا، هذه الأنثى العظيمة التي تُسْلِم نفسها ضاحكة،
لكلِّ من يقبَل أن تسحَقه بين ركبتيها،
أعطته بعضًا من النَّشوة والوَجد الذي يهواه.
لكن بال لم يمُت، وإنما راح يتطلَّع إليها.
وحين كان بال لا يرى حوله سوى الجُثث،
كانت شهوَتُه تتضاعَف على الدَّوام.
هناك مكان لي، كما يقول بال، فليس عدَدُها كبيرًا.
مكان في حِجر هذه الأنثى، كما يقول بال.
وسواء أكان الله موجودًا، أم لم يكن هناك إله،
فما دام بال موجودًا، فالأمر سواء عند بال.
أما الأمر الذي لا يقبَل فيه بال المِزاح،
فهو هل هناك خمر أم لا خمر هناك.
إذا أعطتكم امرأةٌ كلَّ شيء، على حدِّ قول بال،
فدَعوها تذهَب، إذ لم يبقَ لديها شيء تعطيه.
لا تخافوا الرجال (عندما تَجِدونهم) في حُضن امرأة، فكلُّهم سواء.
أما الأطفال، فحتى الأطفال يَخشاهم بال.
كلُّ الرذائل لا تخلو من خير (في نهاية المطاف).
وكذلك الرجل الذي يقترِفُها، كما يقول بال.
والرذائل لا يُستهان بها، إذا عرف الإنسان ما يريد،
فاختاروا منها رَذيلتَين، لأن الواحدة كثيرة جدًّا عليكم.
المُهمُّ ألا تكونوا كسالى ولا مُدلَّلين؛
لأن الاستمتاع — وحقُّ الله — ليس بالأمر اليسير.
فالمرء يحتاج لأعضاء قويَّة كما يحتاج للخِبرة.
وفي بعض الأحيان يُزعِجه الكرش السمين.
يتطلَّع بال للصُّقور السمينة (التي تَحوم في السماء)،
وتنتظر على ضوء النُّجوم أن تحُطَّ على جُثَّة بال.
أحيانًا يتظاهَر بال بأنه قد مات،
فإذا انقضَّ عليه صقر التَهَمه في صمتٍ في وجبة العشاء.
تحت النجوم الخابِية الكئيبة في وادي الآلام،
يقطع بال — وهو يتلمَّظ — حقول العُشب الفسيحة.
إذا وجَدَها خاوية، أخذ ينحدِر على مهلٍ وهو يترنَّم بالغناء
نحو الغابة الأزليَّة لينام.
وإذا الحجر المُعتِم جذَب إليه بال،
فما قِيمة الدنيا في نظر بال؟ إن بال شبعان.
ما أكثر ما يحمِل بال تحت جِفنيه من سماوات،
بحيث يبقى لديه ما يكفيه منها لو مات.
لمَّا تعفَّن في حجر الأرض المُعتم بال،
كانت السماء لا تزال عظيمة وساكِنة وشاحِبة.
شابَّةً كانت السماء وعارِية ومهولة بشكلٍ عجيب،
كما أحبَّها ذات يومٍ بال، كان بال حيًّا لا يزال.
الموت في الغابة
ومات رجُل في الغابة الأزليَّة،
ومن حوله تُدوِّي العاصفة والأنهار.
مات كحيوانٍ تشبَّثت مَخالِبه بالجذور.
تطلَّع لقِمَم الأشجار، حيث كان زئير العاصفة
يعلو منذ أيامٍ فوق كلِّ الأصوات.
ووقف بعض الرجال وهم يُحيطون به،
وقالوا له لكي يُهدِّئوا من رَوعه:
تعال يا رفيق، سنحمِلك الآن إلى بيتك!
غير أنه رفَسَهُم بركُبتَيه،
وبصَق وقال: وإلى أين؟
فلم يكن له بيتٌ ولا أرض.
كم عدد الأسنان التي بقِيَت في فمِك؟
وما حالك الآن، دعنا نرى.
مُتْ في هدوءٍ ولا تكن كسولًا!
بالأمس أكلْنا حصانَك العجوز.
لمَ لا تريد أن تذهبَ للجحيم؟
والغابة كانت عالية الصوت حولَه وحولَهم،
ورأوه وهو يتشبَّثُ بالشجرة،
وسمِعوه وهو يصرُخ فيهم ويصيح،
واستولى عليهم رعبٌ لم يسبِق أن عرَفوه،
فكوَّروا قَبضاتهم وهم يرتجِفون؛
لأنه كان رجُلًا مِثلهم كبقيَّة الرجال.
عقيم أنت، أجرَبُ مسعور يا حيوان!
صديد أنت، عَفِنٌ قَذِر، أيُّها الصعلوك!
الهواء تخطَفه منَّا بجَشَعك الفظيع.
هكذا قالوا له. أما هو، هذا الورم الخبيث، فقال:
أريد أن أعيش! أن أشُمَّ شمسَكم!
وأركُض على حصاني في النور كما تركضون!
كانت كلماتٌ لم يفهمها عنه أيُّ صديق،
فسكتوا وهم يرتعِشون من التَّقزُّز.
الأرض شدَّت قبضتها على يدِه العارية.
ومن بحرٍ لبحرٍ في مهبِّ الرياح تمتدُّ اليابِسة.
ويُكتَب عليَّ أن أرقُد ساكنًا هنا في الحضيض.
أجل، إن فَيض البؤس الذي غمَر حياته
قد لازمه طويلًا حتى استطاع في النهاية
أن يضغط جُثَّته أيضًا في جوف الأرض.
في غبَش الفجر سقط ميِّتًا على العُشب المُظلم.
بقلوبٍ ملؤها التقزُّز حمَلوا جسده الذي برَّده الحقد،
ودفنوه تحت الشجرة في عُمق الجذور.
وركبوا خُيولَهم وغادَروا الدَّغَل الكثيف،
ثم التفَتوا للشجرة التي دفنوا تحتها
ذلك الذي بدا له الموت مُرًّا غايةً في المرارة؛
كانت الشجرة تتلألأ ذُراها بهالةٍ من النور.
رسَموا على وجوههم الشابَّة علامةَ الصليب،
وانطلَقوا في المراعي راكِضين على ظهور الخيول.
أُغنية بعل (بتصرُّف)
الشمس أمرَضتْه،
وهدَّه المطر.
والغار في الجبين
إكليله مسروق.
وشَعرُه انتثر.
إن أُنسيَ الصِّبا
وزهرة الشباب
لم ينس ساعة
أحلامه العذاب.
إن ينسَ بيتَه
والمَوقِد الحبيب،
فروعةُ السما
تبقى ولا تغِيب.
يا من طُرِدتم جميعًا
من السَّما والجحيم.
يا قاتلين ويا من
شقيتموا بالهُموم،
يا ليتكم ما خرجتُم
من ظُلمة الأرحام.
قد كان فيها هدوء
وراحة وسلام.
لما نسيَتْه أمه،
ودَّعَ أرض الأسلاف،
ومضى ليُعدَّ شراعه
والقارِب والمِجداف.
في بحر النَّشوة غاب،
بحر الخمر المغشوشة.
وعلى المركب أصحاب،
والكل يَعُدُّ قروشه.
يضحَك أو يلعَن جاره،
يبكي بالدَّمع المُر.
يبحث ليلًا ونهارًا
عن بلد آخر حُر.
عن بلدٍ آخر أفضل،
يحيا فيه الإنسان،
لا يشكو ولا يتذلَّل،
لا ظُلم ولا حِرمان.
مُطارَد قديم،
يرقُص في الجحيم،
يُجلَد في النعيم،
يُسكِره شلَّال،
فَجَّرَه الجمال،
بالنُّور والظِّلال،
يحلُم في الخَفاء،
بروضة خضراء.
وفوقه السماء
شاحبة زرقاء.
ولا يرى سواها.
١
سبق ذِكر هذه القصيدة التي نُورِدها هنا في صورتها المكتملة.