علم الأوبئة بين الاعتبارات الأخلاقية والسياسة
الاعتبارات الأخلاقية في الدراسات الوبائية
يفرض إجراء الدراسات الوبائية مشكلات أخلاقية، لا سيما تلك المتعلقة بسرية البيانات الشخصية التي يمكن التعرف على هوية الأشخاص منها، واستخدام عينات الدم المختزنة في إجراء اختبارات وراثية وغيرها. إلى أي درجة يمكن الرجوع للبيانات الواردة في الوثائق التي تحدد هوية الشخص بوضوح، مثل شهادتي الميلاد والوفاة، والسجلات الطبية وسجلات الأدوية الموصوفة، أو سجلات التوظيف، للأغراض المتعلقة بالأبحاث الوبائية؟ كان المُتَّبع حتى وقت قريب نسبيًّا أن يتعامل علماء الأوبئة بحُرية مع تلك البيانات بشرط بسيط؛ وهو ألا يتم الإفصاح عن هوية الشخص لأية جهات أخرى. ويسمح هذا الشرط — على سبيل المثال — باستخدام سجلات الأدوية الموصوفة للشخص في انتقاء مجموعة أتراب من الأفراد الذين استخدموا دواءً يُشتَبه في أنه يؤدي إلى الإصابة بسرطان الكلى كواحد من آثاره الجانبية، للتأكد — عن طريق المقارنة بين أسماء الأفراد وسجل الوفيات — إن كانت تلك المجموعة عانت أم لا من معدل عالٍ على وجه الخصوص من الإصابة بسرطان الكلى. وقد تعرض هذا النوع من الممارسات منذ ذلك الحين لانتقادات كبيرة. فقد قال البعض إنه في جميع الظروف يجب أن تكون موافقة الفرد شرطًا لجعل الوثائق متاحة للأغراض البحثية، والاستثناء الوحيد هو حالات الطوارئ في مجال الصحة العامة، مثل تفشي وباء ما، يتطلب بالضرورة رجوعًا سريعًا للسجلات الشخصية المعرفة للهوية. ليس المبدأ الأخلاقي القائل «عدم الإضرار بالمريض» هو الذي في حاجة لأن يُحتَرم عن طريق حماية سرية البيانات الشخصية، وإنما أيضًا مبدأ «الاستقلال الذاتي». إن مبدأ الاستقلال الذاتي، بمعنى حرية الاختيار، يعني أن الشخص صاحب تلك البيانات الشخصية له الحق — ليس حصريًّا، ولكن بالتأكيد قبل أي شخص آخر — في أن يقرر ما إذا كانت تلك البيانات يمكن أن تُستَخدم أم لا وكيفية ذلك.
ربما تكون عاقبة الالتزام الصارم بمثل هذه المبادئ ببساطة استحالة إجراء الأبحاث الوبائية. فالموتى لا يمكنهم إعطاء موافقتهم والأحياء قد يكون من شبه المستحيل تتبعهم وطلب موافقتهم بعد مرور سنوات عديدة من صدور الوثائق محل الاهتمام. وقد اتخذ خبراء الأخلاقيات والقائمون على الهيئات التنظيمية الوطنية والمؤسسات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية مواقف متباينة فيما يخص تلك القضايا. وفي بعض البلدان، يكون من الصعب استخدام الوثائق؛ لأن مُعرفات الهوية، مثل الأسماء وأرقام الضمان الاجتماعي، تُحذَف أو تُخفَى. ومن الممكن أن تكون هناك سبل تحايل لاستخدام الوثائق دون معرفة هُويَّة الشخص، غير أنها معوقة، والأسوأ من هذا أنها قد تستتبع حدوث أخطاء متكررة؛ مما يجعل الدراسات لا تتمتع بالموثوقية. إلا أن الاتجاه بصفة عامة يميل نحو اعتبار البحث الوبائي حتى بدون موافقة الشخص أمرًا مسموحًا به، شريطة أن تجيز لجنة مستقلة للأخلاقيات مشكَّلة من باحثين غير أولئك الذين يجرون الدراسة، وتضم أناسًا من عامة الجمهور؛ إجراءَ البحث، وأن تُستوفى اشتراطات صريحة وصارمة في الرجوع إلى المستندات واستخدامها.
الأمر الذي يمثل مشكلة أخلاقية أكبر، هي تلك المسائل التي طُرحت مؤخرًا نتيجة لإنشاء مستودعات للعينات الحيوية، على سبيل المثال، عينات الدم، التي يمكن أن يُجرى عليها نظريًّا عدد هائل من الاختبارات الكيميائية الحيوية والوراثية القديمة والحديثة. الغرض الحقيقي من تلك المستودعات هو السماح بإجراء أبحاث وبائية مستقبلية من الممكن أن تحسِّن من فهمنا للأمراض من خلال اختبارات لم تتوافر لدينا بعد. ولهذا السبب، من المستحيل أن تطلب من الشخص الذي سيتبرع بدمه موافقته على إجراء أبحاث حتى الباحث نفسه لم يحددها. والموافقة العامة «من أجل الأبحاث الطبية» واسعة المجال بحيث لا يمكن اعتبارها موافقة «مستنيرة»، وربما تحض الشخص أيضًا على الرفض. غير أنه قد يكون من المقبول اعتبارها موافقة على تخزين الدم في المستودع شريطة أن يكون ذلك مصحوبًا بعبارة تنص على أن كل استخدام فعلي للدم سوف يتم في إطار مشروع بحثي تقره لجنة أخلاقيات. وسوف يتعين بعد ذلك على لجنة الأخلاقيات أن تحكم، طبقًا لطبيعة المشروع، إن كان من الضروري العودة للأفراد والحصول على موافقتهم أو لم تكن. ربما لا يكون هذا مطلوبًا لدراسةٍ عن خطر الإصابة بسرطان الثدي، ولكنه ربما يكون مطلوبًا لمشروع يبحث في فرضية تقول إن بعض الجينات مرتبطة بوجود ميل لارتكاب الجرائم. وتطرح قضايا مشابهة لعينات الدم وغيرها من العينات الحيوية الأخرى التي يجري جمعها من مرضى المستشفيات وتختزن لحين استعمالها لاحقًا في أبحاث غير متعلقة بالمرض أو الأمراض التي كان يعاني منها هؤلاء المرضى.
وأخيرًا، تبرز مشاكل غاية في الدقة عند الانتقال من الدراسات القائمة على الملاحظة إلى الدراسات القائمة على التدخل. فما الذي ينبغي أن يكون عليه العلاج الضابط في تجربة عشوائية تختبر لقاحًا وقائيًّا جديدًا في بلد يعاني من تدني الخدمات الصحية؟ هل هو أفضل لقاح متوافر حاليًّا أو لقاح وهمي، مع العلم بأنه في هذا البلد هناك الكثير من الأفراد أو معظمهم لا يحصلون على لقاحات أصلًا؟ بالرغم من «واقعية» الخيار الأخير، فإنه يبدو مثيرًا للجدل؛ لأنه يقبل بمعايير أخلاقية متباينة اعتمادًا على من سينضم إلى الدراسة: لو كانت التجربة نفسها أو تجربة مشابهة أجريت في بلد متقدم (وربما كان هو البلد نفسه الذي ينتج الدواء)، فإن استخدام عقار وهمي بدلًا من أفضل علاج متاح لن يكون أمرًا مقبولًا. من الممكن إدخال تعديلات محلية على تصميمات الدراسات، ولكن مخالفة المبادئ الأخلاقية الأساسية ذات القيمة العالمية أمر غير مقبول من حيث المبدأ الأخلاقي الثالث العام، وهو «العدالة». ويحدد «إعلان هلسنكي» المبادئ الأخلاقية الأساسية الخاصة بالأبحاث الصحية والطبية، وهو وثيقة تتم مراجعتها دوريًّا من قِبَل الاتحاد الطبي العالمي، ووُضِعت مسودته الأولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية للحيلولة دون تكرار التجارب الإجرامية التي مورست على أسرى معسكرات الاعتقال على يد النازيين.
كقاعدة عامة، يجب التأكد من تطبيق جميع بروتوكولات الدراسات من جانب لجنة أخلاقيات، تتشكل عادةً من اثني عشر فردًا من المتخصصين في مجال الصحة وفي الأخلاقيات، ومن عامة الأفراد من غير الباحثين القائمين بالدراسة. إن المشروعات البحثية التي لا تتضمن سوى بيانات مجهولة الأسماء تمامًا ربما لا يحتاج إجراؤها إلى موافقة لجنة أخلاقيات إذا كانت إجراءاتها تستوفي اشتراطات جهات حماية البيانات. وهناك مبدأ متعارف عليه عالميًّا، ألا وهو أن المشروع البحثي غير الصالح علميًّا، ومن ثم غير القادر على التوصل إلى معلومات يعتد بها، يصير غير أخلاقي تلقائيًّا وغير مقبول. وهذا الشرط واضح بشدة، غير أن تطبيقه غالبًا ما يكون غير مثالي. فقد تصل بروتوكولات الدراسة إلى لجنة الأخلاقيات دون تقييم مسبق لصلاحيتها العلمية من قبل لجنة خبراء، ويكون على لجنة الأخلاقيات أن تؤدي دورًا مزدوجًا؛ فتقيِّم كلًّا من الجوانب العلمية، وهي مهمة لا تتمتع فيها إلا بأهلية محدودة على أفضل تقدير، والنواحي الأخلاقية. لا يزال هذا هو الوضع السائد في العديد من البلدان. إن هذا يؤثر في علم الأوبئة على وجه التحديد؛ إذ إنه حتى المعرفة الأساسية في هذا الموضوع ضئيلة وربما لا تقف لجان الأخلاقيات على الفروق بوضوح مما يستتبع وجود اختلافات حادة في الاشتراطات الأخلاقية، بين الدراسات القائمة على الملاحظة مع بيانات مجهولة الأسماء، وأخرى ذات بيانات معلومة الأسماء، والدراسات القائمة على التدخل مثل التجارب المجتمعية العشوائية.
العدالة والصحة
أيًّا كان نوع الدراسة، فإن اهتمام لجنة الأخلاقيات يكون منصبًّا على ضمان حماية الأفراد الذين تشملهم عملية البحث. ونادرًا ما تناقش اللجان مدى استجابة الدراسة للاحتياجات الصحية للبلاد التي تُجرى بها، وهي قضية تتعلق بشكل خاص بالبلدان النامية، التي تدخل ضمن نطاق الأخلاقيات لكنها تتجاوزه إلى الجانب السياسي للبحث والشئون الصحية. على الاختيارات السياسية في هذين المجالين أن تواجه أولًا حالات انعدام العدالة الصارخة القائمة بين البلدان النامية والمتقدمة. فالنسبة الأعظم من ميزانيات تمويل الأبحاث الطبية الحيوية يجري إنفاقها على الأمراض التي تصيب أقلية من سكان العالم (أقل من الخمس) التي تقطن العالم المتقدم.
طبقًا لبعض التقديرات، تجتذب نسبة ١٠٪ من إجمالي العبء العالمي للأمراض ٩٠٪ من ميزانيات الأبحاث الطبية الحيوية (وهو ما يسمى «فجوة ٩٠ / ١٠»). وبالمثل، فإن ما يقرب من ٩٠٪ من الأموال المخصصة للرعاية الصحية يُنفق في البلدان المتقدمة، وتُنفق ١٠٪ منها في البلدان النامية حيث يقطن الغالبية العظمى من البشر.
ومع أن تلك الفوارق الهائلة في الاستثمار والإنفاق الحالي ليست المحدِّدات الوحيدة للصحة، فإنها تنطوي على تفاوتات شاسعة في الصحة. فيمكن لطفل حديث الولادة في أفريقيا أن يتوقع — لو لم تتحسن الأوضاع القائمة اليوم — العيش في المتوسط عمرًا يقل ثلاثين عامًا عن الطفل المولود حديثًا في أمريكا الشمالية أو أوروبا. والطفل المولود في بلد مثل أنجولا يكون احتمال وفاته خلال السنوات القليلة الأولى من عمره أكثر ٧٠ مرة من نظيره المولود في النرويج مثلًا، والمرأة التي تعيش في أفريقيا في البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى تكون معرضة للوفاة أثناء الولادة أكثر مائة مرة من نظيرتها في إحدى البلدان الغنية. والوفاة في سن مبكرة أو قبل الأوان ليست فقط أمرًا متكررًا في البلدان النامية، وإنما من الممكن كثيرًا أيضًا أن تكون «غير مرئية»، مثلما أشرنا من قبل في الفصل التاسع. ففي الهند، لا يُسجَّل بدقة سوى ثلث حالات الوفيات، ولا يُسجَّل سبب الوفاة إلا في ثلث تلك الحالات فقط.
إن كون الصدفة المحضة التي تجعل شخصًا ما يولد في بلد متقدم لا في بلد نامٍ تحقق مثل تلك الفروق الهائلة في طول العمر المتوقع وفي الحياة الصحية؛ هو شكل صارخ من أشكال انعدام المساواة الاجتماعية، خاصةً عندما يقع ذلك في عالم لم يكن من قبل أكثر ثراءً مما هو عليه الآن.
إن فرص الحياة المتاحة أمام أطفالنا تختلف اختلافًا هائلًا حسب المكان الذي يولدون فيه؛ إذ يمكن أن نتوقع أن يعيش بعضٌ منهم أكثر من ٨٠ عامًا في اليابان أو السويد، و٧٢ عامًا في البرازيل، و٦٣ عامًا في الهند، وأقل من ٥٠ عامًا في عدد من البلدان الأفريقية. وفرص الحياة تختلف اختلافًا هائلًا داخل البلدان كما أن الاختلافات ملموسة أيضًا في جميع أنحاء العالم. وترتفع معدلات الاعتلال والوفاة المبكرة بين المعدمين.
الواقع أن العمر المتوقع للمشردين يكون أقصر ٢٠ أو ٣٠ عامًا من أقرانهم من المواطنين الذين يعيشون بالقرب منهم لكن داخل منازلهم. ويشدد التقرير كذلك على أنه في جميع البلدان أيًّا كان مستوى الدخل بها تأخذ الصحة والمرض منحًى اجتماعيًّا؛ فكلما تدنى الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ساءت الحالة الصحية.
هل هناك صحة مطلقة؟
داخل أي مجتمع، لطالما كان المرض يحشد الاهتمام بالمرضى وفي الوقت نفسه بالقوى — سواء الطبيعية أو العقائدية أو السحرية — من أجل مكافحته. في أعقاب الثورة العلمية التي اجتاحت العالم في القرن السابع عشر، صار الاهتمام بالمرضى وبالقوى والمخصص لمكافحة المرض يقوم شيئًا فشيئًا على المعرفة العلمية والتقنية. وأنتج قرنان من تنمية الرأسمالية الصناعية مزيدًا من التحول التدريجي في العناية بالمرض وعلاجه والوقاية منه، حتى وصلت في النصف الثاني من القرن العشرين إلى مرحلة «الصناعة الصحية» الناضجة، التي صارت اليوم واحدةً من أكبر القطاعات الاقتصادية في البلدان المتقدمة. ومؤخرًا صار هذا القطاع، مثله مثل معظم القطاعات الاقتصادية الأخرى، مرتبطًا بالابتكارية المضارِبة للتمويل الدولي، وما يستتبعها من عواقب سلبية صارت ملموسة على الفور. فوفق تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فإن التباطؤ الاقتصادي الراهن ارتفع بأعداد الجوعى في العالم فوق حد البليون نسمة، وزاد من نسبتهم إلى إجمالي تعداد سكان العالم. ومن شبه المؤكد أن التمويل غير المنظَّم وقوى السوق رديئة التنظيم بوجه أعم، كلها محددات مهمة للفجوات الواسعة السائدة اليوم في الأحوال الصحية داخل كل بلد، والأكثر من ذلك، بين بلد وآخر. وهي المسئولة كذلك بسبل أخرى عن الاندفاع المحموم والمدفوع بالرغبة في التربح نحو التوسع في الإنفاق على مجال الصحة في البلدان المتقدمة.
أحد الأمثلة ذلك العرض المقدم عبر شبكة الإنترنت بإجراء اختبارات تزعم أنها ستخبرك إن كانت جيناتك ستجعلك معرضًا لأمراض بعينها مستقبلًا أم لا. هناك حالات شائعة مثل السرطان، أو أمراض القلب والأوعية الدموية، أو مرض السكر تمثل بطبيعة الحال أهدافًا رئيسية لاستراتيجية التسويق الخاصة بتلك الاختبارات. الأمر الوحيد المؤكد أن الاختبارات الجينية ممكنة وأن عليك أن تسدد مقابلًا لإجرائها. أما مدى دقة تنبُّئها بما إذا كان مرض ما سوف يصيبك أم لا، فلا هو معلن ولا هو معلوم أصلًا بالنسبة لأغلبها، كما أن توقيت الإصابة بالمرض غير معلوم بالمرة. والإعلان عن هذه الوسيلة باعتبارها «وقاية» أمر مضلل؛ لأنه، بالإضافة إلى ذلك في حالات متعددة مثل كثير من أنواع السرطان، لا يوجد إجراء وقائي مؤكد حتى وإن تأكَّد للمرء أنه سيصاب بالمرض. وهناك مثال آخر، وهو المتاجرة بالمرض؛ أي توسيع نطاق تعريف الأمراض القابلة للعلاج بحيث تتلقى حتى أقل الحالات المرضية وطأة وأكثرها التباسًا علاجًا طبيًّا. فهناك أنواع من السلوكيات الطبيعية التي تصنف باعتبارها أمراضًا في حاجة لعلاج، مثل حالة تململ الساقين أو الاضطراب الجنسي العام لدى النساء.
كلٌّ من هذين المثالين يحمل سمات مشتركة مع الآخر. فأسفل الستار الواهن من الالتزام ﺑ «حق الأفراد في المعرفة»، يزيد المثالان — بهدف التربح — من درجة التبعية وكبح القدرة على إصدار أحكام نقدية، سواء للأطباء عن طريق إقناعهم بأن يصفوا عقاقير لأفراد كان من الممكن استغناؤهم عنها، وأيضًا للمواطنين بجعلهم يتهافتون على الخضوع للمزيد من الاختبارات والفحوص الطبية، وتلقي المزيد من العلاجات الطبية سعيًا وراء سراب اسمه الصحة المطلقة. تسير تلك الاتجاهات غير السوية في اتجاه مخالف لعملية تمكين الأفراد فيما يتعلق بصحتهم. فمن الممكن أن يقول أحد الأطباء النفسيين إنها بالفعل تشجع على حدوث «نكوص طفولي» بين الأفراد؛ لأنها تعمل خفيةً على تغذية شعورهم بالخوف والحاجة للطمأنة المستمرة لمواجهة ذلك الخوف.
علم الأوبئة والعدالة الصحية
قال عالم أوبئة متحمس ذات مرة: «علم الأوبئة مطلوب اليوم في كل مكان في الطب والصحة العامة.» مع أن هذه العبارة صاغها طرف صاحب مصلحة، فإنها صحيحة تمامًا. وأحد التبعات الرئيسية أنه لا يوجد شخص واحد يمكنه أن يبرع براعة فائقة في جميع أو معظم مجالات علم الأوبئة المعاصر، ويتخصص المتخصصون في هذا العلم في مجالات بعينها منه. وهكذا من الشائع أن نسمع عن علم الأوبئة الوراثي، والبيئي، والاجتماعي، وعلم أوبئة القلب والأوعية الدموية، والسرطان والأطفال، وغيرها من المجالات. وأيًّا كان تخصص علماء الأوبئة، فإنهم جميعًا يشتركون في استخدام مجموعة مشتركة من طرق البحث — التي حاول هذا الكتاب أن يلقي نظرة عامة عليها — ووجهة نظر مجتمعية للصحة.
غير أن مصطلح «مجتمع»، وهو أحد المصطلحات الأساسية المميزة لعلم الأوبئة، يغطي جانبين منفصلين: أولهما أن المجتمع هو الأداة الأساسية لعلم الأوبئة، الذي يستخدم المجتمعات السكانية في البحث في شئون الأمراض والصحة بالأسلوب نفسه الذي يستخدم به البحث العلمي في المجالات الأخرى الفئران أو حيوانات الهمستر أو المزارع الخلوية في إجراء التجارب. أما الجانب الثاني، فهو الأفراد المترقبون لتقليص عبء الأمراض التي تصيبهم، وربما لا يتحقق ذلك إلا بقدر تحويل نتائج الأبحاث الوبائية إلى عمليات تدخل فعالة. فهل من الواجب على علماء الأوبئة أن يستخدموا المجتمعات كأدوات تحقق لهم المنفعة للأغراض العلمية، وألا يعتبروهم كمستهدفين لعمليات التدخل العلاجية لمجرد أن هذه ليست مهمتهم كباحثين؟ ليس غريبًا أن نصادف هذا المسلك في الدوائر الأكاديمية؛ ففي الغالب تُترَك نتائج الأبحاث الوبائية للمسئولين عن الصحة العامة وصانعي القرارات، كي ينتفعوا بها أو لا ينتفعوا، حسبما يرونه ملائمًا ووقتما رأوا ذلك.
ومن الممكن الاعتراض على ذلك الموقف على أسس منطقية وأخلاقية. إنه يناقض الزعم، الذي يُطرح كثيرا جدًّا عند طلب توفير تمويل للأبحاث الوبائية، بأنه لما كان علم الأوبئة يدرس شئون البشر بصورة مباشرة، فإن في استطاعته الإسهام، على نحو أكثر تلقائية من غيره من الأبحاث الطبية الحيوية كالتجارب التي تُجرى في المختبرات، في تحسين صحة الأفراد.
لقد تطور علم الأوبئة كاستجابة للأمراض التي أصابت المجتمع الإنساني ولم يكن نتاجًا للتطورات التقنية والعلمية فحسب، لكنه كأي علم آخر، يعكس بدرجات متباينة الأفكار السائدة في المجتمع في مختلف العصور التاريخية. فاليوم، صارت الحرية الشخصية للجميع فكرة وقيمة ومطمحًا رئيسيًّا في المجتمع. إلا أنها لا يمكن أن تكون «للجميع» لو لم تكن «حرية متساوية» تقريبًا على أقل تقدير، دون الفروق الشاسعة في السلطة والموارد القائمة بين الأفراد. وتعد الصحة أهم الموارد التي تغذي الحرية الفردية؛ وتجربتنا المباشرة تعلمنا أنه بدون الصحة، تصبح الحرية الشخصية مقيدة تقييدًا شديدًا. من ثم، فإن النهوض بالعدالة في مجال الصحة عن طريق تقليل حالات انعدام المساواة في مجال الصحة إلى الحد الأدنى داخل البلدان أو فيما بينها؛ يُعدُّ غاية مشتركة لكافة مجالات علم الأوبئة، وهو اختبار حقيقي لقيمته فيما يتعلق بالصحة. وعلى حد تعبير جون رولز: ««العدالة» أولى فضائل المؤسسات الاجتماعية، مثلما أن «الصدق» أول فضائل منظومات الفكر.» فكلاهما أضواء إرشادية لعلماء الأوبئة.