متابعة صحة الأفراد
ملاحظة الأفراد دون التدخل باستخدام العلاجات
في التجارب العشوائية المضبوطة، تجري متابعة الأفراد المقدمة لهم علاجات مختلفة عبر فترة زمنية معينة بهدف ملاحظة تأثيرات التدخل (العلاج). إلا أنه من الممكن ملاحظة الأفراد على مدى زمني معين حتى بدون تقديم أي علاج في بداية فترة الدراسة. لقد صادفنا هذا النوع من الدراسات لأول مرة في الفصل الثالث عند إجراء مقارنة بين معدلات بدء الإصابة بمرض السكر لدى أصحاب الوزن الزائد وأصحاب الوزن الطبيعي. ويطلق على دراسات المتابعة القائمة بالكامل على الملاحظة اسم «دراسات الأتراب». وفيها يجري اختيار مجموعة من الأفراد، وتقاس وتسجَّل عدة خصائص (تعرُّضات) لكل فرد منهم؛ على سبيل المثال: الوزن، وضغط الدم، والنظام الغذائي، وعادات التدخين. وبعدها يُتابَع هؤلاء الأفراد عبر فترة زمنية محددة، وتُسجَّل عدة أحداث، وعادةً ما تكون الإصابة بمرض ما، مثل السكر أو احتشاء عضلة القلب، أو الوفاة نتيجة لمرض ما، أو تغيُّر في بعض السمات كالوزن أو ضغط الدم. ومن الأمثلة التقليدية على هذا النوع من الدراسات الدراسة التي أجريت لبحث الآثار الصحية للتبغ على الأطباء البريطانيين، التي تناولناها في الفصلين الرابع والخامس. قد تستغرق دراسات الأتراب التي تتناول الآثار المحتملة قصيرة الأجل للتعرضات — مثل التسمم الغذائي — أيامًا أو أسابيع، في حين أنه من الضروري أن تستمر الدراسات التي تبحث الآثار بعيدة المدى — مثل السرطان أو تصلب الشرايين — عقودًا، وهو ما يتطلب إمدادات لوجيستية يصعب التعامل معها. ولما كانت تلك الدراسات تكشف عن نتائج في المستقبل، فإنها تُعرف كذلك باسم «دراسات الأتراب الاستباقية» أو ببساطة «الدراسات الاستباقية». عندما تتكرر جميع القياسات التي تمت في البداية أو بعضها، تعتبر هذه الدراسة في الغالب دراسة «طولية». وفي السنوات الأخيرة، بدأ عدد من دراسات الأتراب واسعة النطاق بهدف بحث ثلاثة أنواع من المسائل غير المحسومة بشأن الأمراض الشائعة: التأثيرات الإيجابية والسلبية طويلة الأجل للنظام الغذائي، والدور الذي تلعبه العوامل الوراثية، وتأثير تجارب الحياة الأولى في رحم الأم وأثناء الطفولة على الأمراض التي تصيب البالغين.
الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان
«الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان» هو مشروع بحثي يجري حاليًّا بتنسيق مشترك بين الوكالة الدولية لأبحاث السرطان بمدينة ليون بفرنسا (وهو مركز بحثي تابع لمنظمة الصحة العالمية) وبين قسم الصحة العامة بجامعة إمبريال كوليدج بلندن. وقد كان تركيزه الأساسي في بادئ الأمر على أمراض السرطان وعلاقتها بالتغذية، غير أنه سرعان ما توسع في مجال اهتمامه ليشمل أمراضًا أخرى مزمنة، كالسكر واحتشاء عضلة القلب، وكذا العوامل الوراثية والعوامل البيئية. وقد بدأ بعدة دراسات تمهيدية لوضع الاستبيانات عن العادات الغذائية واختبار تلك الاستبيانات، ثم انتقل إلى اختيار الأفراد البالغين الذين سيخضعون للدراسة، والذين تراوحت أعمارهم في الغالب بين ٣٥ و٧٠ عامًا، وذلك في ٢٣ مركزًا في عشر دول من أوروبا الغربية (الدنمارك، وفرنسا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا، وهولندا، والنرويج، وإسبانيا، والسويد، والمملكة المتحدة). انضم إلى الدراسة نحو ٥٢٠ ألف فرد بين عامي ١٩٩٢ و٢٠٠٠. قدَّم كلٌّ من هؤلاء معلومات تفصيلية عن غذائهم — جُمعت باستخدام إجراءات متقاربة في البلدان المختلفة — إلى جانب بعض السمات الشخصية الأخرى كالجنس، والعمر، والمستوى التعليمي، ومعدل تناول الخمور وتدخين التبغ، والنشاط البدني، والتاريخ الإنجابي للنساء، والأمراض السابقة. كذلك قِيس الطول والوزن ومحيطا الخصر والأرداف (باعتبارها مؤشرات على توزيع الدهون بالجسم)، وأُخذت عينات دم من نحو ٣٨٥ ألف فرد لتخزينها عند −١٩٦ درجة مئوية في وحدات تجميد مملوءة بالنيتروجين السائل.
عند درجة الحرارة المشار إليها، تتوقف جميع التفاعلات الكيميائية الحيوية التي تحدث في الدم ويمكن حفظ العينات سنوات دون أن يطرأ عليها أي تغيير. بعد ذلك يخضع الأفراد للمتابعة، مع تسجيل أسباب الوفاة والإصابة بالسرطانات المختلفة عن طريق الأنظمة الدائمة لتسجيل حالات السرطان (سجلات السرطان) إذا ما وُجدت تلك السجلات، أو — في حالة السرطان وغيره من الأمراض أيضًا — عن طريق الاستعانة بسجلات الأطباء والمستشفيات.
وتُجرى دراسات تخصصية عديدة ومتنوعة في إطار مجموعة أتراب هذا المشروع البحثي، وقد ظهرت بالفعل نتائج ذات أهمية كبرى. سُجِّل ما يقرب من ١٥ ألف حالة وفاة أيًّا كان السبب، وتبيَّن أن توزيع الدهون بالجسم — لا سيما تركُّز مخزون الدهون في البطن الذي ينتج عنه زيادة محيط البطن — يُنبِئ بخطر التعرض للوفاة. واكتشفت دراسة أخرى أن خطر الإصابة بسرطان الأمعاء (القولون والمستقيم) مرتبط بارتفاع معدل تناول اللحوم الحمراء والمصنَّعة. وفي دراسة ثالثة، تبين أن خطر الإصابة بسرطان الثدي بعد سن اليأس مرتبط بمستوى كلٍّ من هرمونات الأنوثة والذكورة في الدم، وكان ذلك بمنزلة تحذير من استعمال هرمونات الذكورة (مثل التستوستيرون) الذي طُرح للوقاية من هشاشة العظام لدى النساء بعد سن اليأس.
تحتوي كل عينة من عينات الدم المختزنة بمستودع المشروع على مكونات مختلفة: المصل والبلازما اللذين يمكن تحليل العديد من المركبات الكيميائية الحيوية فيهما، وكريات الدم الحمراء التي يمكن فحص بعض المواد بها مثل جزيئات الأحماض الدهنية، وأهم شيء كريات الدم البيضاء التي تزودنا بالحمض النووي لإجراء الدراسات الجينية. وتكون الجينات على هيئة تسلسلات ذات أطوال متنوعة من الجزيئات الأولية (النيوكليوتيدات أو القواعد، مجتمعة في أزواج تسمى أزواجًا قاعدية) في الجزيئات الطويلة للحمض النووي. وتحتشد تلك الجزيئات بدورها داخل الكروموسومات التي توجد في نواة الخلية. يحصل كل إنسان على ٢٣ كروموسومًا من الأب و٢٣ كروموسومًا من الأم، مع اشتمال كلٍّ من هاتين المجموعتين على أكثر من ثلاثة مليارات زوج قاعدي. ونحو ٩٩٪ من تلك النيوكليوتيدات مشتركة بين كافة البشر، غير أن هناك مساحة متروكة لعشرة ملايين من النيوكليوتيدات التي يمكن أن تتباين من شخص إلى آخر. وتختبئ داخل تلك التباينات الفروق في الاستعداد الفردي للإصابة بالأمراض، وهو جانب لم يُتَح للبحث المباشر إلا منذ فترة قريبة؛ إذ إن الثورة التي وقعت في علم الأحياء الجزيئية والتكنولوجيا جعلت من الممكن لأول مرة قياس الفروق في تركيب النيوكليوتيدات الفردية على نطاق بالغ الاتساع، ومن ثم اختبارها. واليوم، من الممكن اختبار مليون من النيوكليوتيدات في الحال لمعرفة التباينات في تركيبها (شكلها)، وذلك في دراسات «التباينات الفردية متعددة الأشكال للنيوكليوتيد» التي تغطي جميع الكروموسومات، أي «الجينوم» بأكمله.
في إطار المشروع وعدد متزايد من الدراسات الأخرى، يجري الآن البحث عن علاقات ارتباط بين تلك التباينات الجينية والأمراض، بالطريقة نفسها التي كنا نبحث بها في الماضي الارتباطات بين التدخين والأمراض. إن دراسة مئات الألوف أو ملايين من الارتباطات وفهم إن كان تباين جيني ما يتسبب في مرض ما من عدمه، وبأي طريقة يفعل ذلك، أمر ينطوي على ثلاثة تحديات كبرى؛ أولها: يتطلب هذا عددًا هائلًا من حالات المرض، تتجاوز حتى الأعداد التي يمكن توفيرها في مشروع بحثي بحجم مشروع «الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان»، ومن ثم يجري الجمع بين بيانات من دراسات مشابهة وإن كانت أصغر حجمًا، وتلك الواردة من مشروع «الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان» لإجراء تحليلات «مجمعة». والتحدي الثاني يتمثل في أن دراسة مليون علاقة ارتباط تزيد من عدد تلك العلاقات التي تتبين دلالتها الإحصائية عند المستويات المتعارف عليها من احتمالات الخطأ وهي ٥٪ أو ١٪. ويعني مستوى ٥٪ أن هناك ٥٠ ألف علاقة ارتباط سوف تبدو ذات دلالة إحصائية عن طريق الصدفة البحتة! ويجري تطوير طرق جديدة للتحليل الإحصائي من أجل كبح جماح هذه العاصفة من المصادفات. وثالث هذه التحديات، وأكثرها تعقيدًا، أن تباينًا واحدًا في أحد النيوكليوتيدات من النادر جدًّا أن يُكتشف أنه مسئول «في حد ذاته» عن استعداد الفرد للإصابة بمرض شائع مثل سرطان القولون أو احتشاء عضلة القلب. من المرجح أن هناك تأثيرًا لجينات عديدة، ولكي نحل لغز تعاونها مجتمعة مع تأثيرات عوامل أخرى خارجية كالنظام الغذائي، فإن هذا يتطلب البحث في تسلسلات الأحداث بدءًا من التباينات الجينية إلى التعبير الجيني في صورة بروتينات، والوظائف الخلوية، وصولًا في النهاية للمرض. ولذلك، فإن المصادر الشبيهة بمشروع «الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان» — التي لا تمكِّن فحسب من اختبار التباينات الجينية متعددة الأشكال في الحمض النووي، وإنما تتيح أيضًا فحص المكونات الكيميائية الحيوية مثل البروتينات في المصل والبلازما — أداة بحثية نفيسة جدًّا.
من بين الدراسات التي تشبه بوجه عام «الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان»، نجد أن «البنك الحيوي البريطاني» — الذي بدأ في اختيار الأفراد الذي سيخضعون للدراسة من بين أعمار ٤٠–٦٩ عام ٢٠٠٧ — يستهدف الاستعانة بنصف مليون فرد. وفي الدنمارك، شملت «دراسة أتراب وطنية دنماركية» ما يقرب من ١٠٠ ألف امرأة حبلى بين عامي ١٩٩٧ و٢٠٠٢ بهدف دراسة كيفية تأثير الفترة ما بين الحمل والطفولة المبكرة على الأحوال الصحية للأفراد في مرحلة البلوغ. ويملك كلا المشروعين مجموعة من عينات الدم، مثلما تفعل دراسات أخرى عديدة حديثة في علم الأوبئة المعاصر، فهي تجمع بين دراسة العوامل الوراثية والخارجية سواء الغذائية، أو المهنية، أو البيئية، أو الاجتماعية. وكما تبين تلك المشروعات المتواصلة، فإن النطاق الزمني لعلم الأوبئة غالبًا ما يكون ممتدًا ومختلفًا تمامًا عن فترات الأسابيع والشهور أو بضع السنوات التي تستغرقها دراسات أخرى تُجرى في المعمل باستخدام مواد مثل المزارع الخلوية أو حيوانات التجارب، وسبب ذلك ببساطة أنه لكي تكتشف ما يحدث وسبب حدوثه لأناس على امتداد أعمارهم، لا يوجد أمامك بديل حقيقي سوى ملاحظة أحوال الأفراد طيلة عمرهم.
السمات الخمس الرئيسية لدراسات الأتراب
-
(١)
اختيار «المجتمع السكاني» موضع البحث أمر جوهري. يجب في الأساس أن تكون التعرُّضات محل تركيز البحث موجودة ومتباينة الشدة داخل هذا المجتمع، وإلا كانت الدراسة إهدارًا للوقت والموارد. فلا معنى لانتقاء مجتمع يتناول الجميع فيه أطعمة متشابهة لكي نجري دراسة على العلاقة بين الغذاء والمرض؛ ولهذا السبب اشتمل «مشروع الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان» على مجموعة من البلدان المختلفة من شمال إلى جنوب أوروبا، حيث (لا تزال) هناك اختلافات كبيرة فيما بينها في الأنظمة الغذائية. وللسبب نفسه، عند بحث الآثار الصحية المحتملة لأحد ملوثات الهواء مثل البنزوبيرين الناتج من عوادم أنظمة التدفئة، أو العوادم الصناعية، أو عوادم السيارات، يمكن أن يكون أول من يقع عليهم اختيارنا هم — على سبيل المثال — العاملين في صناعات الغاز الذين يتعرض بعضهم من خلال مهنتهم لمستويات مرتفعة من حرق الفحم، أكثر من مجتمع الحضر الذي يتعرض لمستويات منخفضة وواحدة نسبيًّا منه. وقد يقع الاختيار على مجتمع ما أيضًا بسبب ظهور معدل تكرار مرتفع من أحد الأمراض، وليكن سرطان الكبد مثلًا، أو من مرض وتعرُّضٍ ما، وليكونا مثلًا سرطان الكبد والالتهاب الكبدي بفيروس «ب». وفي هذه الحالة، يكون الهدف من الدراسة اكتشاف ما إن كان خطر الإصابة بسرطان الكبد متركزًا بالفعل بين أوساط المصابين بالالتهاب الكبدي أم لا. إن مجموعات الأتراب من المرضى، وليكن مثلًا مرضى الالتهاب الشعبي المزمن، هم مجتمعات خاصة تخضع للمتابعة في الوقت المناسب بعد ظهور الحالات الأولى للإصابة بأحد الأمراض بهدف فهم التاريخ الطبيعي لتطور هذا المرض. ولا غنى عن تلك المعرفة للأطباء المعالجين من أجل وضع توقعات صحيحة لسير المرض لدى كل مريض.
-
(٢)
من الممكن أن يشتمل «تصميم الدراسة» على مجموعة أتراب معينة من مكان واحد، مثل الدراسة التي أجريت في بلدة فرامنجهام الصغيرة بماساتشوستس والتي قدمت معلومات أساسية عن العوامل المحددة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، أو مجموعات أتراب عدة، مثلما حدث في «مشروع الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان». ويجب أن يكون عدد الأفراد المشاركين في الدراسة في كل الأحوال كافيًا من أجل رصدٍ ذي احتمالية حدوث مرتفعة لخطر الإصابة بالمرض المرتبطة بالمستويات المتباينة لتعرض ما؛ على سبيل المثال، علاقة احتشاء عضلة القلب بمقدار ما يتناوله الفرد من دهون في غذائه. ولهذا السبب، كثيرًا ما تضم الدراسات الخاصة بمخاطر بيئة العمل مجموعات من العاملين في عدة مصانع يوظِّف كلٌّ منها عددًا قليلًا للغاية من العاملين المعرضين لخطر معين وذلك من أجل إجراء عملية استقصاء مجدية. كذلك يُحدَّد عادةً النطاق العمري وجنس المشاركين في تلك الدراسات. هل يجب أن يكون المشاركون في الدراسة عينة عشوائية ممثِّلة للمجتمع موضع الدراسة؟ ما دامت المقارنات تتم بين مجموعات داخل نطاق هذا المجتمع — على سبيل المثال بين أشخاص يتناولون كميات مختلفة من الدهون — فإن هذا الأمر ليس شرطًا ضروريًّا (مع أنه لو كانت نسبة الأفراد المدعوين للمشاركة في الدراسة ورفضوا المشاركة مرتفعة، فلربما تعرضنا لأنواع متباينة من الانحيازات).
-
(٣)
تنتمي «العوامل» أو «التعرُّضات» التي ستخضع للقياس إلى إحدى فئتين؛ الأولى: تلك التي يمكن قياسها لحظة انضمام المشاركين إلى الدراسة: مستوى التعليم، المهنة، ضغط الدم، مستوى الجلوكوز في الدم، عادات التدخين الحالية، وما إلى ذلك. والثانية: تلك التي تعكس التجربة السابقة، سواء القريبة أو التي وقعت منذ عهد بعيد: عادات التدخين طيلة العمر، الوظائف السابقة، نوع الغذاء خلال الأسبوع أو الشهر أو العام الماضي، وهكذا. من الممكن للمعايرة السليمة لأساليب القياس أن تضمن جودة القياسات في الفئة الأولى، غير أنه ليس في استطاعتها أن تمنع تمامًا أخطاء الذاكرة في حالة الفئة الثانية.
-
(٤)
هناك أحداث مثل الإصابة بالمرض أو الوفاة تعد «استجابات» نمطية يتم تسجيلها في معظم دراسات الأتراب. وآليات متابعة الأفراد في مجموعة الأتراب ضرورية؛ فعادةً ما يُنظر إلى دراسة الأتراب التي تكون فيها النسبة المئوية للمشاركين الذين لا يُعرف إن كانوا لا يزالون على قيد الحياة أم لا أعلى من ٥٪، أو ١٠٪ على أسوأ تقدير، على أنها ضئيلة الجودة. ويستعان بالأنظمة الوطنية أو المحلية القائمة لتسجيل الوفيات والمرض (على سبيل المثال، السرطان) سواء للتأكيد على حالة الأفراد أو التشخيصات المرضية. وعندما لا تكون تلك الأنظمة موجودة أو لا يُعتمد عليها، فإن من الواجب تطبيق آلية متابعة، ولتكن مثلًا من خلال شبكة من الأطباء المعالجين لأفراد الدراسة.
-
(٥)
إن «تحليل» أية دراسة أتراب يتميز بالبساطة. فمعدلات الإصابة أو معدلات خطر الإصابة بمرض ما تُحسب لدى مجموعات ذات أشكال تعرض متباينة، وتحسب المعدلات النسبية أو نسب الخطر التي تناولناها في الفصل الرابع لتحديد إن كانت ستظهر ارتباطات بين التعرض والمرض أم لا. ولما كانت هناك عوامل كثيرة من الممكن أن تتدخل في الأمر، فإنه مما لا غنى عنه دائمًا أن نقوم بالضبط من أجل عزل العديد من تلك العوامل التي ينظر لها باعتبارها عناصر تشويش؛ مثال ذلك، عند إجراء مقارنة بين خطر الإصابة بسرطان الرئة لدى المعرضين لقدر هائل من التلوث في المدن والمعرضين لقدر طفيف منه، سوف يكون لزامًا استبعاد تأثير الجنس، والعمر، وعادات التدخين على أقل تقدير. ويمكن إجراء ذلك عن طريق أساليب الانحدار اللوجيستي أو انحدار كوكس أو بواسون التي ذكرناها بالفصل الثالث. إن تلك الأساليب الإحصائية، التي يسهل توظيفها اليوم بفضل حُزَم برامج الكمبيوتر الإحصائية سهلة الاستخدام، يجب عدم التسرع في تطبيقها، وإلا استبعد الباحث تأثيرات كان من الواجب عليه الإبقاء عليها. ومثال ذلك، في دراسة حول دور الملح في الطعام في التسبب في السكتة الدماغية، يكون من الملائم استبعاد تأثير عوامل أخرى مثل الجنس، والعمر، وتدخين التبغ، وارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم، والسكر. وعلى الجانب الآخر، قد لا يكون من الحكمة استبعاد تأثير ارتفاع ضغط الدم؛ لأن الأثر المباشر للملح هو رفع ضغط الدم وهو ما يؤثر بدوره على السكتة الدماغية. واتخاذ القرار بشأن أي العوامل في حاجة لأن يُعزل أمرٌ يتفاوت من دراسة لأخرى ويتطلب الحرص التام عند وضع العلاقات المحتملة بين العوامل.
دراسة الأتراب التاريخية
عادة ما تكون دراسات الأتراب بمنزلة استثمارات طويلة الأجل (وأولئك الذين ينتمون لمجموعاتها ربما يعيشون أعمارًا أطول من علماء الأوبئة الذين بدءوا الدراسة أصلًا). وهناك طريق مختصر مفيد للغاية يُستخدم كثيرًا في دراسة التعرُّضات في مواقع العمل، ألا وهو «دراسة الأتراب التاريخية». فعندما تتوافر سجلات للتوظيف، يمكن تشكيل مجموعة أتراب من جميع العاملين الذين عُيِّنوا مثلًا بين عامي ١٩٣٠ و١٩٥٠، والذين خضعوا للمتابعة بعد ذلك حتى الوقت الحاضر، ويُتثبَّت مما إذا كانوا أحياء أم أمواتًا من خلال السجلات الوطنية أو المحلية، وفي تلك الحالة الأخيرة، يُسجل تاريخ الوفاة وسببها. ويسمح ذلك التصميم بحساب المعدلات والمخاطر مثل أي دراسة أتراب استباقية، الفارق الوحيد هنا أن مجموعة الأتراب تخضع للمتابعة في الماضي بدلًا من المستقبل.
هناك مثال قديم على دراسة أتراب تاريخية أجريت على نحو بارع، وهي دراسة ألمانية أجريت عام ١٩١٣ على نحو ٢٠ ألف طفل وُلدوا لآباء مصابين بالدرن وأكثر من ٧ آلاف طفل ولدوا لآباء غير مصابين بالدرن. أوضحت الدراسة أن أطفال الآباء المصابين بالدرن كانت حياتهم أقصر من حياة من وُلدوا لآباء غير مصابين به، وأن ارتفاع نسب الوفيات من بينهم كان علاوة على ذلك مرتبطًا بعدد الإخوة في الأسرة الواحدة وبالانتماء لطبقة اجتماعية أدنى.
وهناك مثال تقليدي وهو دراسة أجريت عام ١٩٦٨ على العاملين في عوازل الأسبستوس في ولايتَيْ نيويورك ونيو جيرسي سواء الذين كانوا موجودين بنهاية عام ١٩٤٣ أو انضموا إلى العمل لاحقًا حتى نهاية عام ١٩٦٢ والذين خضعوا للمتابعة حتى نهاية شهر أبريل ١٩٦٧. بلغ معدل وفياتهم لأي سبب ضعف معدله لدى الرجال في المجتمع نفسه بصفة عامة ممن هم في نفس أعمارهم. فيما يتعلق بالإصابة بسرطان الرئة، بلغت أعداد وفيات العمال ثمانية أضعاف عددها في عموم هذا المجتمع، وكذلك كانت أكثر من نسبة العُشر من الوفيات ترجع إلى ورم الظهارة المتوسطة، وهو ورم خبيث يصيب بطانة الرئتين (غشاء الجنب) أو الأمعاء (غشاء التجويف البطني)، وهي حالة شديدة الندرة في عموم هذا المجتمع. تشير تلك النتائج بوضوح إلى خطر مادة الأسبستوس، هذا بالإضافة إلى أنه قد جرى ضبط نتائج الدراسة من أجل سرطان الرئة وذلك بعزل تأثير عادات التدخين لدى العمال. بل إن الدراسة قطعت خطوة أبعد من ذلك؛ إذ بينت أن العمال الذين تعرضوا لمادة الأسبستوس وكانوا يدخنون التبغ معًا قد ارتفع لديهم كثيرًا خطر الإصابة بسرطان الرئة؛ وذلك بسبب التقوية المتبادلة للتأثيرين المنفصلين. وكان ارتفاع معدل خطر الإصابة بسرطان الرئة بسبب التعرض لمادة الأسبستوس، حسبما ذكر، يبلغ ثمانية أضعاف، وكان الارتفاع في معدل خطر الإصابة به بسبب التدخين نحو اثني عشر ضعفًا؛ بلغ الارتفاع في معدل الخطر الناشئ عن التعرض لهما مجتمعين أقرب إلى ٨ × ١٢ = ٩٦ ضعفًا. لقد كان ذلك أول دليل من علم الأوبئة على أن العوامل المختلفة لا يمكنها فحسب التشويش على تأثير بعضها داخل الدراسة، وإنما في إمكانها أيضًا أن تتعاون أو «تتفاعل» معًا لإحداث تأثيرات مشتركة قوية.