بحث تجارب الأفراد السابقة
المعلومات نفسها بجهد وتكلفة أقل
تحتاج دراسات الأتراب واسعة النطاق وطويلة الأجل، مثل مشروع «الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان» أو مجموعات أتراب المواليد، إلى كميات هائلة من المعلومات عن النظام الغذائي، وعادات التدخين، والمهنة، وغيرها من العوامل الأخرى التي تُجمع عن كل فرد من أفراد مجموعات الأتراب المطلوبة معالجتها في عمليات تحليل إحصائية، وهي مهمة لا تمثل مشكلات صعبة المواجهة في أيامنا هذه بفضل توافر حزم برمجيات وأدوات حسابية هائلة. إن المشكلات الأكثر صعوبة في مواجهتها هي تلك التي تنشأ عن الحاجة لإجراء تحليلات معملية متعددة على عينات الدم المختزنة والمأخوذة من مئات الآلاف من الأشخاص. غير أن هذا يمكن التغلب عليه بالاكتفاء باستخدام عينات دم من «عينة» ممثِّلة للمجموعة بدلًا من الاستعانة بعينات من كافة أفرادها (وتُستخدم هذه الأداة نفسها على نطاق واسع في استطلاعات الرأي). إن عينة تشتمل على عدد من الأفراد (ليست بالغة الصغر) من الممكن أن تقدم نفس المعلومات التي تقدمها المجموعة بأكملها، وذلك بقدر أقل كثيرًا من الجهد والإنفاق المالي. على سبيل المثال، لكي نبحث مسألة كيفية تأثير مستويات الهرمونات الجنسية في الدم عام ١٩٩٧ على خطر الإصابة لاحقًا بسرطان الثدي، يمكن الاستفادة من حالات سرطان الثدي بمجموعة أتراب «مشروع الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان»، التي تراكمت أثناء المتابعة حتى عام ٢٠٠٨. كل تلك الحالات، أو مجموعة فرعية منها منتقاة عشوائيًّا، يتم ضمها في العينة ولكل واحدة منها يتم انتقاء امرأة واحدة أو أكثر عشوائيًّا كضوابط (حالات مرجعية) من أفراد المجموعة.
يتم عادةً استخدام طريقة انتقاء عينة أكثر تفصيلًا، على سبيل المثال، بانتقاء ضوابط عشوائيًّا بحيث تنتمي للبلد نفسه، أو المركز أو الفئة العمرية التي تنتمي إليها الحالة. مع وجود أربعة ضوابط لكل حالة، ينقل هذا التصميم في انتقاء العينات «الحالات والضوابط» بصفة أساسية القدر نفسه من المعلومات وكأنه ينقلها من المجموعة برمتها وبالفعل في وجود ضابطين لكل حالة يكون ضياع المعلومات في مقابل دراسة المجموعة بأكملها محدودًا. ومن ثم، يصبح من الممكن إجراء فحص الهرمونات فقط في عينات دم — ولنقل مثلًا — ٢٠٠٠ حالة ومعها ٤٠٠٠ ضابط؛ أي إجمالًا ٦٠٠٠ امرأة، بدلًا من أخذ عينات دم من عدة مئات الآلاف من النساء في مجموعة أتراب «مشروع الاستقصاء الأوروبي الاستباقي حول السرطان». صار هذا النوع من الأساليب شائعًا في السنوات الأخيرة في دراسات الأتراب التي تتضمن اختبارات كيميائية حيوية أو وراثية تُجرى على عينات دم مختزنة أو غيرها من المواد الحيوية مثل البول والشعر. هذا الأسلوب، الذي يطلق عليه عادةً «دراسة الحالات والضوابط في نطاق مجموعة أتراب» أو «دراسة الحالات والضوابط المضمنة»، يمكن أن يُستفاد منه أيضًا في كل موقف يكون فيه تقييم تعرضٍ ما أمرًا مرهقًا أو مكلفًا. وقد يكون هذا هو الحال عند بحث ما إذا كانت الجرعات المنخفضة من الإشعاع المؤين تتسبب في الإصابة بالسرطان أم لا، وهو ما يتطلب تحديد مقدار الإشعاع الذي يتلقاه كل فرد من مجموعة أتراب كبيرة من العاملين في مفاعل نووي على مدار حياتهم الوظيفية بأكملها. ويمكن جعل ذلك التقييم التفصيلي مقصورًا على حالات الإصابة بالسرطان وعدد من الضوابط المنتقاة عشوائيًّا من بين العاملين بدلًا من إجراء الدراسة بحيث تمتد لكل شخص في المجموعة المعنية.
أمراض اليوم نتيجة لأسباب الأمس
يمكن النظر من جانب مختلف إلى انتقاء عينة من عدد محدود، لكن ليس شديد الضآلة، من الأفراد من بين مجموعة أتراب أو مجتمع أكبر بكثير. فمع تجاهل مجموعة الأتراب برهة، يمكن تركيز الانتباه على حالات المرض باعتبارها نقطة البدء في البحث. وهذا ما يحدث يوميًّا للأطباء وهم يواجهون مرضاهم. مرةً تلو الأخرى، يُفاجأ الأطباء المَهَرة بوقوع بعض الأحداث على نحو غير معتاد خلال التجارب الحياتية لعدد من مرضاهم، تقدِّم لهم الإشارات الأولى لأسباب الأمراض التي يعانون منها. على سبيل المثال، في بدايات الستينيات من القرن العشرين، لاحظ أحد اختصاصي الأنف والأذن والحنجرة أن ربع مرضى سرطان التجاويف الأنفية — وهو مرض بالغ الندرة — كان من بين عمال صناعة الأثاث، وهو نوع نادر من التعرُّضات الموجودة في المجتمع بصفة عامة. ومهدت تلك الملاحظة الطريق نحو إجراء دراسات وبائية لاحقة أظهرت أن الغبار الناتج عن أعمال الأثاث والنجارة يمكن أن يُحدِث سرطانات الجيوب الأنفية، ربما لاحتواء ذلك الغبار على العديد من المواد الكيماوية المسرطنة. إن الإصابة بسرطان التجاويف الأنفية بين العاملين في صناعة الأثاث شديدة الندرة حتى إن تكرار تلازمهما معًا من غير المحتمل أن يحدث بالصدفة. لكن في الأحوال العادية، يتطلب الحكم على كون هذا التلازم ناتجًا فقط عن المصادفة تقديرًا لمعدل تكرار العامل السببي المحتمل بين المرضى وفي المجتمع العام الذي جرى انتقاؤهم منه. وعملية ملاحظة سبع حالات إصابة بسرطان المهبل لدى نساء شابات تتراوح أعمارهن بين ١٥ و٢٢ عامًا، حسبما تم خلال فترة قصيرة لم تزد على ثلاث سنوات في أحد مستشفيات بوسطن، عجلت على الفور بإجراء بحث في التجربة الحياتية للمريضات امتد حتى فترة حياتهن الجنينية داخل أرحام أمهاتهن. وبدلًا من الاكتفاء بالتركيز على المريضات فحسب، انتقى الباحثون بعناية لكل حالة أربعة ضوابط: نساء ولدن في غضون خمسة أيام ميلادية من تاريخ ميلاد تلك المريضات وفي القسم نفسه (سواء في عنابر أو غرف خاصة). وبفحص التاريخ الطبي لأمهات المريضات أثناء الحمل، اكتُشِف أن جميع أمهات الحالات المصابة كن يتناولن عقار الدياتيلستيلبيسترول، وهو نوع تخليقي من هرمون الإستروجين يوصف لمنع الإجهاض لدى النساء المعرضات له بنسبة خطر مرتفعة، بينما لم تتناوله أيٌّ من الأمهات الضوابط. لقد قدمت «دراسة الحالة المضبوطة» هذه دليلًا قويًّا على علاقة الارتباط السببية بين هذا العقار والسرطان الذي أصاب البنات، وفُسرت على أساس التغير الذي أحدثه في الخلايا المهبلية للجنين الذي تطور بعدها بسنوات إلى سرطان. ومنذ ذلك الحين، أُوقِف إنتاج هذا العقار ومُنع تداوله.
كانت دراسات الحالة المضبوطة في حقيقة الأمر واسعة الانتشار في مجال الدراسات الوبائية قبل وقت طويل جدًّا من استعمالها في الموقف الخاص الذي تستخلص فيه حالات وضوابط من مجموعة دراسة فعلية. ويمكن اعتبارها بمنزلة الامتداد الطبيعي للبحث الذي يجريه الطبيب في المرة الأولى التي يناظر فيها مريضًا؛ فهو لا يسأله فقط عن الأعراض وإنما أيضًا عن تاريخه المرضي، والسوابق التي وقعت في أسرته، وعاداته الغذائية ومهنته، وغيرها من العناصر التي من الممكن أن تكون لها علاقة بحالته الراهنة. وفي أية دراسة حالة مضبوطة، يُجرى هذا بأسلوب ذي صيغة رسمية، باستخدام استبيانات ينصب اهتمامها على التعرض موضع البحث، ويمتد التحري كذلك إلى الضوابط. والميزة الكبرى لذلك النوع من الدراسات أنه يستعين بحالات مرضية تقع حاليًّا كنتيجة لأسباب حدثت في الماضي — علينا أن نكتشفها — بدلًا من أن يشترط، مثلما هو الحال في دراسات الأتراب، متابعة للأفراد تستمر سنوات، بانتظار حدوث الحالات.
أسهمت دراسات الحالة المضبوطة بمعلومات مهمة في جميع مجالات علم الأوبئة والطب. ومن الأمثلة التي تعد دلالتها ملموسة الآن تلك الدراسات المهمة التي تتتبع الأسباب الجذرية للإصابة بسرطان عنق الرحم الذي يعد اليوم ثاني أنواع السرطان انتشارًا بين النساء في البلدان النامية. كان قد لوحظ من قبل في القرن التاسع عشر أن هذا النوع من السرطان لم يكن منتشرًا بين الراهبات؛ مما أشار إلى أنه ربما كان مرتبطًا بصورة أو بأخرى بالعلاقة الجنسية. بعدها، ظهر من نتائج عدة دراسات حالة مضبوطة خلال النصف الثاني من القرن العشرين أن هذا السرطان مرتبط بالزواج، وبالتحديد في سن مبكرة، ومصاحب لمعدل التكرار المرتفع لممارسة الجنس. وفي إحدى الدراسات، تبين أن معدل تكرار ممارسة العلاقة الجنسية الذي يبلغ ١٥ مرة أو أكثر شهريًّا كانت نسبته أعلى ٥٠٪ بين الحالات المصابة بالسرطان عما هو لدى الضوابط. وفي تلك الدراسات، جُمعت معلومات عن التعرُّض (أي معدل تكرار ممارسة الجنس)، مثلما يحدث في الغالب في دراسات الحالات والضوابط، عن طريق عقد مقابلات، وكان من الممكن أن تكون تلك المعلومات غير دقيقة، وإضافة إلى ذلك، كان الأرجح أن الزواج وممارسة الجنس لم يكونا ذَوَي صلة مباشرة بالمرض، غير أنهما عكسا نشاط عامل آخر غير معلوم، لعله مُعدٍ. وبدأ البحث عن كائنات دقيقة تنتقل عن طريق الجنس، الذي ركز بوجه خاص على عدة فيروسات، كان من بينها فيروسات الورم الحليمي البشري التي كانت العامل الرئيسي المشتبه به؛ لأنه كان من المعلوم أنها تتسبب في حالات أورام حميدة عند البشر (ثآليل) وأورام خبيثة عند الأرانب. وأوضحت دراسات الحالة المضبوطة التي لم يعد التعرُّض فيها هو الزواج ولا تكرار ممارسة الجنس وإنما الإصابة بالفيروس، وجود ارتباط قوي بين بعض أنواع فيروسات الورم الحليمي البشري والإصابة بهذا السرطان. وكانت الطريقة المعملية هي الأكثر تخصصًا ودقة من أجل تأكيد وجود الفيروس داخل خلايا عنق الرحم، وتبين وجود ارتباط أقوى، يشير إلى أن الفيروس، وليس شيئًا آخر، كان هو العامل الحقيقي الفاعل في هذا الشأن. فهل يعني ذلك أيضًا أنه كان السبب في الإصابة بهذا النوع من السرطان؟ كان من الممكن أن يكون السرطان قد تطور أولًا ثم وجد الفيروس بعد ذلك كعائل دخل الخلايا ما إن بدأ السرطان في الانتشار. وهنا، لا تعد دراسة الحالات المضبوطة أداة جيدة لحل هذا النوع من الأسئلة «أيهما جاء أولًا؟» لأن وجود الفيروس (وبصفة عامة أي تعرُّض) يتأكد لحظة إثبات المرض بالفعل. وبينت دراسات الأتراب أن الإصابة بالفيروس كانت سابقة على تطور السرطان. أضف إلى ذلك أن الدراسات التي أجريت باستخدام لقاحات طوِّرت حديثًا بينت بما لا يدع مجالًا للشك أن فيروسات الورم الحليمي البشري هي سبب الإصابة بسرطان عنق الرحم، وأن منع وجودها يحول دون وقوع المرض. وتتم حاليًّا حملات تلقيح للفتيات في العديد من البلدان. لقد كان لعلم الأوبئة إسهام كبير في هذا التطور الهائل في مجال الصحة العامة، وكانت دراسات الحالة المضبوطة مكونًا رئيسيًّا في هذا الإسهام.
السمات الأربع الرئيسية لدراسات الحالة المضبوطة
-
(١)
إن «انتقاء الحالات» هو نقطة البداية في دراسات الحالة المضبوطة. في الغالب تُلاحَظ تلك الحالات في المستشفى ويمكن أن يكون التشخيص دقيقًا، وإذا استدعى الأمر يجري تنقيحها، كأن يُفرَّق بين الأنماط الخلوية المختلفة لسرطان الرئة إذا شككنا في إمكانية تأثرها بعوامل (تعرُّضات) مختلفة يجب بحثها. عادةً يجب أن تكون الحالات حالات حديثة جدًّا، من الإصابة بمرض السكر؛ إما حدثت منذ وقت قريب جدًّا أو في طور الحدوث حاليًّا. إذا تم بدلًا من ذلك ضم جميع حالات الإصابة بالسكر، سواء تم تشخيصها بالأمس أو منذ عشر سنوات، إلى الدراسة، فقد يتصادف أن أحد العوامل التي يظهر اختلافها بين الحالات والضوابط يؤثر بالفعل على طول عمر مريض السكر لا على السبب الذي جعل شخصًا سليمًا يصاب بالسكر. يزداد التداخل بين هاتين السمتين، وسوف تصير نتائج تلك الدراسة صعبة في تأويلها.
-
(٢)
يتبع «انتقاء الضوابط» المبدأ الأساسي والبديهي القائل إنه يجب أن تأتي — مثلها مثل الحالات — من المجتمع محل الدراسة نفسه. وعادةً لا توجد مشكلة في هذا عندما يكون المجتمع عبارة عن مجموعة أتراب موجودة بالفعل وخاضعة للبحث، مثلما رأينا عند مناقشة دراسة الحالة المضبوطة التي تجري داخل مجموعة أتراب معينة. وهناك موقف مشابه يصلح كمثال وذلك عندما تكون الحالات، مثلًا، جميعها لإصابات بسرطان المعدة، سُجلت خلال عام بواسطة سجل السرطان الذي يغطي مجتمعًا معينًا، وتُنتقى الضوابط عشوائيًّا من هذا المجتمع. العائق هنا أنه ستكون هناك دائمًا نسبة من الضوابط المنتقاة سترفض المشاركة؛ وهؤلاء يمكن أن نستبدل بهم آخرين ممن سيوافقون على المشاركة، ولكن معنى هذا أن الضوابط لن تعبر بدقة عن المجتمع الذي تأتي الحالات منه. وعندما تكون تلك الحالات الأخيرة غير محددة تحديدًا واضحًا — كما هو الحال عندما تكون الحالات مرضى في أحد المستشفيات — تتفاقم المشكلة الخاصة بأي مجتمع ننتقي منه الضوابط. وانتقاء مرضى من المستشفى نفسه مصابين بأمراض أخرى غير المرض محل الدراسة، وغير مرتبطة بالعوامل محل الدراسة للاستعانة بهم كضوابط؛ هو حل مُتَّبع على نطاق واسع. يفترض هذا الحل أن جميع المرضى يدخلون المستشفى لنفس التركيبة من الأسباب، سواء أكانت طبية أم شخصية أم إدارية أم قانونية. وربما يتضح في كثير من الأحيان خطأ ذلك الافتراض مثلما يحدث، على سبيل المثال، عندما يكون لدى المستشفى قسم مشهور بتقديم خدمة عالية التخصص في مرض ما مثل سرطان الدم — المرض محل الدراسة — يستقبل مرضى من مناطق متعددة، في حين تعمل أقسام أخرى تابعة للمستشفى على نطاق محلي. وفي هذه الحالة، من المنطقي أن نتخير الضوابط الآتية من ذات منطقة إقامة كل حالة، وقد يكون من المعقول أيضًا أن نوائم بين الحالات والضوابط من حيث الجنس، والعمر، والمسئول عن إجراء المقابلة، والفترة الزمنية التي ستجري فيها المقابلة. ومن الواجب تجنب التمادي أكثر من هذا ومحاولة العثور على ضوابط مشابهة للحالات في نواحٍ أخرى. فليس صعبًا فحسب أن تجد ضوابط متوافقة مع الحالات كلما زاد عدد الخصائص المطلوب التوافق فيها، بل إن محاولة جعل الحالات والضوابط أقرب للتماثل يجعل الضوابط غير معبرة عن مجتمعها الأصلي ويدمر احتمال اكتشاف فوارق في التعرُّضات بين الحالات والضوابط، وهو الهدف الأساسي من الدراسة. إن اختيار الضوابط يمثل تحديًا رئيسيًّا يواجه علماء الأوبئة، وهو يتطلب كلًّا من الخبرة — بما فيها التعلم من الأخطاء — ومعرفة خاصة بالسياق المحلي للدراسة.
-
(٣)
كثيرًا ما يتضمن «التحقق من التعرض» إجراء مقابلات مع الحالات والضوابط للتعرف منهم على مختلف العوامل التي ربما تعرضوا لها، بدءًا من عادات التدخين مرورًا بالنظام الغذائي وحتى تاريخهم الطبي، وذلك حسب الغرض من الدراسة. ويلتقي المُحاور نفسه مع إحدى الحالات والحالات الضابطة لها بترتيب عشوائي وخلال فترة زمنية قصيرة، حتى يتجنب حدوث تغيرات طفيفة في طريقة طرح الأسئلة مما قد يؤثر على النتائج مع مرور الوقت (تستغرق دراسة الحالات والضوابط عادةً شهورًا وربما بضعة أعوام حسب الضرورة للحصول على العدد المطلوب من الحالات والضوابط). والاستبيانات محددة البنيان هي العمود الأساسي للمقابلة وعلى المحاورين أن يخضعوا لدورات تدريبية على كيفية استخدامها، وبوجه أكثر تعميمًا، على أسلوب التحاور مع أفراد الدراسة. ويقتضي الوضع الأمثل ألا يعلم المحاورون إن كان الشخص الذي يتحدثون إليه حالة أم حالة ضابطة؛ إذ يعمل هذا على تحاشي الانحياز في أسلوب عرض الأسئلة وتسجيل الإجابات. إلا أن هذه الحالة من «التعمية» نادرًا ما تكون ممكنة عمليًّا. أضف إلى ذلك أن الأفراد أنفسهم من الجائز أن يتذكروا أمورًا من وقائع ماضية أو حالات تعرض سابقة أو يذكروها على نحو غير صحيح، سواء بقصد منهم أو دون قصد. وقد يؤدي مقدار اختلاف هذا الإبلاغ الخاطئ بين الحالات والضوابط إلى «انحياز تذكر» يمكن أن يشوه عملية المقارنة. وهناك مشاكل مشابهة تؤثر على المقابلات الهاتفية والإجابات عن الاستبيانات التي يملؤها الأفراد بأنفسهم. وتنشأ مشكلات أقل صعوبة عندما يكون في الإمكان تقييم حالات التعرض في الماضي بالرجوع إلى وثائق تحريرية، على سبيل المثال، السجلات الطبية أو الوظيفية، مع أنها في بعض الأحيان لا تكون مكتملة البيانات أو تعوزها الدقة. وأخيرًا، من الممكن أن يكون الباحث راغبًا في تحري تأثير عامل فسيولوجي معين مثل الأنسولين على مرض ما مثل سرطان القولون عن طريق قياس مستويات الأنسولين في الدم في حالات مصابة بسرطان القولون وحالات ضابطة غير مصابة بهذا المرض، ولكن من يضمن أن الأنسولين هو الذي يؤثر في المرض وليس العكس؟ من الواضح أن التحقق من التعرض إجراء غاية في الدقة في سياق دراسات الحالات المضبوطة.
-
(٤)
الآن لا بد أنك لاحظت الفارق الجوهري بين دراسات الحالة المضبوطة والدراسات الاستباقية. إن الدراسة الاستباقية تراقب الأحداث في مسارها الطبيعي من المسببات حتى التأثيرات المحتملة. على سبيل المثال، حساب معدلات الإصابة أو مخاطر الإصابة بالالتهاب الشعبي المزمن لدى المدخنين وغير المدخنين والمقارنة بينهما يسعى للإجابة عن السؤال التالي: ما مدى إصابة المدخنين بالمرض مقارنةً بغير المدخنين؟ أما دراسات الحالة المضبوطة، فتلاحظ الأحداث بالتسلسل العكسي لها، من التأثيرات إلى الأسباب المحتملة. فهي تبدأ من المرض وتسعى للإجابة عن السؤال التالي: كم تبلغ نسبة المصابين بالالتهاب الشعبي المزمن الذين كانوا يدخنون مقارنةً بمن لم يصابوا بهذا المرض؟ لا يمكن حساب أية معدلات إصابة أو مخاطر في دراسة الحالة المضبوطة؛ حيث إن عدد المدخنين وغير المدخنين المعرضين لخطر الإصابة بالمرض بشكل عام غير معلوم. إن كل ما لدينا عينتان من الناس: واحدة للذين أصيبوا بالمرض بالفعل، والأخرى للذين لم يصابوا به، لكننا نعرف تكرار التدخين في كلتا العينتين. ومن حسن الحظ أن «تحليل البيانات» السليم يتيح لنا حساب نسبة الخطرين، ومع ذلك يظل كلٌّ منهما مجهولًا. لو بدا هذا الأمر مدهشًا، فعليك أن تفكر برهة في الأرقام الواردة في إحدى الدراسات الاستباقية (لا من دراسات الحالة المضبوطة!) لمجتمع قوامه ١٠ آلاف شخص؛ ٢٥١٥ منهم مدخنون، و٧٤٨٥ منهم غير مدخنين:
مدخنون | غير مدخنين | |
---|---|---|
أصيبوا بالالتهاب الشعبي المزمن بعد ثلاث سنوات من الملاحظة | ٢٥ | ١٥ |
لم يصابوا بالتهاب شعبي مزمن | ٢٤٩٠ | ٧٤٧٠ |
إجمالي تعداد المجتمع (١٠ آلاف فرد) | ٢٥١٥ | ٧٤٨٥ |
خلال ثلاث سنوات، أصيب ٢٥ مدخنًا من بين ٢٥١٥ فردًا بالالتهاب الشعبي المزمن، ومن ثم كان معدل خطر الإصابة بالمرض لديهم ٢٥ / ٢٥١٥. وبالمثل، كان معدل خطر الإصابة بالمرض لغير المدخنين ١٥ / ٧٤٨٥. وكانت النسبة بين المعدلين (٢٥ / ٢٥١٥)/(١٥ / ٧٤٨٥) = (٢٥ / ٢٥١٥) × (٧٤٨٥ / ١٥) = ٤٫٩؛ أي إن المدخنين بلغ احتمال إصابتهم بالالتهاب الشعبي المزمن ما يقرب من خمسة أضعاف الاحتمال الخاص بغير المدخنين. ويمكننا الحصول على النتيجة نفسها تقريبًا عن طريق وضع ٢٤٩٠، وهو عدد من لم يصابوا بالمرض بانتهاء فترة الملاحظة التي مدتها ثلاث سنوات، محل ٢٥١٥ (وهو عدد المدخنين الذين كانوا معرضين من البداية لخطر الإصابة بالمرض). وهذا الاستبدال يبرره أن رقم ٢٤٩٠ تقريب معقول لرقم ٢٥١٥، وبالمثل ٧٤٧٠ قريب من ٧٤٨٥. بصفة عامة، كلما قل عدد المرضى بالنسبة لحجم المجتمع — أي خطر الإصابة بالمرض خلال فترة الملاحظة — تحسنت عملية التقريب. ولما كانت أي فترة طويلة من الممكن تجزئتها إلى فترات بالغة الصغر، أصبح من الممكن نظريًّا جعل معدل الخطر في نطاق كل فترة زمنية أصغر ما يمكن، جاعلين التقريب تامًّا فعليًّا (وهي أداة ربما تصادفها باسم آخر هو «انتقاء عينة بناءً على معدل كثافة الإصابة»).
يمكن الآن حساب النسبة الجديدة التي تسمى «نسبة الأرجحية» على النحو التالي: (٢٥ / ٢٤٩٠)/(١٥ / ٧٤٧٠) = (٢٥ / ٢٤٩٠) × (٧٤٧٠ / ١٥) = ٥ وهو رقم قريب جدًّا من ٤٫٩.
لماذا نتكبد مشقة حساب نسبة الأرجحية ما دامت نسبة الخطر لدينا بالفعل؟ لأن نسبة الأرجحية يمكنها، على عكس نسبة الخطر، أن تُحسب ليس فقط في دراسة استباقية — كما في المثال — وإنما أيضًا في دراسة حالة مضبوطة. على سبيل المثال، يمكن لدراسة حالة مضبوطة تغطي الفترة الزمنية نفسها التي تغطيها دراستنا الاستباقية أن تكون قد اختارت من مجتمعنا جميع الحالات الأربعين للالتهاب الشعبي من خلال سجلات المستشفيات، واختارت عشوائيًّا ١٦٠ من الضوابط من غير المصابين بالمرض؛ أي بنسبة لا تزيد عن ١٫٦٪ من ٢٤٩٠ + ٧٤٧٠ من غير المصابين. وتبدو الأرقام الجديدة على النحو التالي:
المدخنون | غير المدخنين | |
---|---|---|
حالات مصابة بالتهاب شعبي مزمن | ٢٥ | ١٥ |
الحالات الضابطة | ٤٠ | ١٢٠ |
نسبة الأرجحية هي: (٢٥ / ٤٠)/(١٥ / ١٢٠) = (٢٥ / ٤٠) × (١٢٠ / ١٥) = ٥، تمامًا مثل النسبة السابقة.
وهنا تكمن الميزة المهمة لدراسات الحالة المضبوطة؛ وهي إمكانية الحساب التقديري عن طريق نسبة الأرجحية المحسوبة من عدد صغير نسبيًّا من الأفراد لنسبة المخاطر نفسها التي كانت ستتطلب في دراسة استباقية متابعة عدد هائل من الناس لسنوات في مجتمع كبير. إن هذه الميزة تعوِّض العيوب السابقة مناقشتها (لا سيما تلك الموجودة في اختيار عينات الحالات الضابطة وفي التحقق من التعرض) فيما يتعلق بدراسات الحالة المضبوطة، وتفسر استمرار شعبيتها في أوساط علماء الأوبئة. وبالرغم من المشاكل التي تعترضها، تعد دراسات الحالة المضبوطة أداة وبائية يمكن تكييفها مع جميع الظروف وسريعة نسبيًّا في تطبيقها. وعلى هذا، فإنها لا تزال تستخدم على نطاق واسع كدراسة خط أول، عند تناول مشكلة صحية جديدة. وعندما تمرض مجموعة من الناس بتوعُّك مَعِديٍّ معوي خطير بعد تناول وجبة عشاء، فإن أول شيء يفعله عالم الأوبئة أن يلتقي بالمرضى ثم ببعض الأصحاء كحالات ضابطة حتى يتأكد من معدل تناول كلٍّ من الحالات والحالات الضابطة لكل صنف من أصناف الطعام على العشاء. وبهذه الطريقة، من الممكن التعرف على الأصناف المتسببة في الخطر وتحديدها، وحذفها من قائمة الطعام.
طفرة في دراسات الحالة المضبوطة الوراثية
الجينات الموروثة من الأبوين هي سمات ثابتة للكائن الحي. ولا يمكن تعديلها بحدوث مرض ما، وهي ليست عُرضة لأخطاء الذاكرة، على عكس حالات التعرض التي يُتحقَّق منها بطرح تساؤلات على الحالات والحالات الضابطة. ولهذا السبب، تمثل الجينات تعرُّضًا مثاليًّا يمكن أن يقاس بدقة في دراسات الحالة المضبوطة. ويمكن تجميع سلسلة مطولة من الحالات المشخصة بالمرض نفسه من العديد من المراكز العلاجية، بحيث تقدم أعدادًا كافية لاكتشاف الارتباطات بين التباينات الجينية والأمراض. ومع توافر تقنيات تسمح باختبار مليون من «التباينات الفردية متعددة الأشكال للنيوكليوتيد»، وهي التباينات الجينية التي ذكرناها من قبل في الفصل الخامس، فإن الاتجاه الحالي أن نستكشف التباينات الجينية الموزعة على الثلاثة والعشرين كروموسومًا جميعها. ويطلق على تلك الدراسات اسم «دراسات الارتباط الجينومي الواسع»، وتلي المرحلة الأولى مراحل تأكيدية للتيقن من أن الارتباطات التي اكتُشفت في المرحلة الأولى لم تكن نتائج إيجابية خاطئة جاءت بمحض الصدفة. وتُجرَى حاليًّا عدة دراسات من هذا النوع، والعديد منها في سبيله لأن يبدأ. وقد اكتشفت أولى نتائج دراسة كبرى شملت ١٤ ألف حالة من سبعة أمراض شائعة و٣ آلاف حالة ضابطة أكثر من ٢٠ ارتباطًا تتضمن اضطرابًا عقليًّا، ومرض الشريان التاجي، ومرض السكر من النوع الأول والثاني، ومرض التهاب الأمعاء، والتهاب المفاصل الروماتويدي.
إن الارتباطات المؤكدة تفتح الطريق أمام بحث الآليات الفسيولوجية من التباين الجيني حتى حدوث المرض، وهي مهمة تتجاوز مجال عمل دراسات الحالة المضبوطة. من الناحية النظرية، يمكن الحصول على الدم من الحالات والحالات الضابطة، وإجراء دراسات كيميائية حيوية من أجل سبر غور تلك الآليات. غير أن وجود المرض يجعل معنى أي نتيجة فسيولوجية مشكوكًا في أمره: هل تمثل حقًّا خطوة مؤدية للمرض أم أنها جاءت نتيجةً للمرض نفسه؟ فقط دراسات الحالة المضبوطة التي تُجرى في نطاق مجموعات الأتراب حيث يتم جمع الدم وتخزينه قبل وقوع المرض، مثل مجموعات أتراب البحث الأوروبي الاستباقي حول السرطان أو البنك الحيوي البريطاني، هي التي تخلو من تلك المشكلة. وتكمِّل الدراسات المعملية التي تجرى على حيوانات التجارب وعلى الخلايا، بما في ذلك خلايا كرات الدم البيضاء المأخوذة من متطوعين من البشر، تلك الدراسات الوبائية عن المسارات الفسيولوجية التي تربط بين الجينات والمرض. كذلك يساعد فهم تلك المسارات على توضيح دور العوامل الخارجية المؤثرة. إن العقاقير وغيرها من الوسائل (على سبيل المثال، التغييرات في النظام الغذائي) التي يمكنها أن تتدخل في المسارات وتمنع تطور المرض تمثل الهدف النهائي لهذا البحث.