رسم خرائط الصحة والمرض
المكان والزمان والأفراد
منذ ستين عامًا مضت، حث الفارق الملحوظ في معدلات الإصابة بالأزمات القلبية بين جنوب أوروبا وغيره من المناطق، لا سيما الولايات المتحدة، الباحثين الأمريكيين على إجراء دراسة أتراب مقارنة في سبعة بلدان ذات معدلات شديدة التباين فيما بينها (وهي: فنلندا، اليونان، إيطاليا، اليابان، هولندا، الولايات المتحدة، يوغوسلافيا). بجانب مجموعات أتراب أخرى، لا سيما دراسة فرامنجهام، قدمت هذه الدراسة، التي استمرت فترة متابعتها حتى عهد قريب، معلومات أساسية أكدت على أدوار كلٍّ من ارتفاع نسبة الكوليسترول، وتدخين التبغ، وارتفاع ضغط الدم باعتبارها المحددات الثلاثة الكبرى المؤثرة على الإصابة بالأزمات القلبية.
لا تكتفي الدراسات الوصفية بالحث على إنشاء دراسات وبائية تحليلية والعمل على توجيهها، وإنما أيضًا تتحقق من «معقولية» نتائج الدراسات الأخيرة. فإذا كان تدخين التبغ سببًا مهمًّا للإصابة بسرطان الرئة، فإن نمط معدلات الإصابة بسرطان الرئة في بقعة جغرافية معينة وعلى امتداد فترة زمنية من عدة سنوات ينبغي أن يعكس نمط استهلاك التبغ، أو على الأقل يكون متفقًا معه، مثلما وجد في الواقع مرارًا وتكرارًا في العديد من البلدان. وإذا اتُّخذت تدابير وقائية فعالة، على سبيل المثال، عن طريق الإقلال من استهلاك التبغ أو القضاء على أحد الملوثات أو علاج مرض ما، فإنها ينبغي أن تنعكس على حدوث تغير في معدلات الإصابة بالمرض.
مصادر البيانات
يعتمد وصف الصحة والمرض داخل المجتمعات السكانية على البيانات التي تُجمَع بصورة مستمرة ومنهجية أو من خلال عمليات استقصاء خاصة. بشكل عام، لدى جميع بلدان العالم (أعضاء منظمة الصحة العالمية البالغ عددهم ١٩٢ دولة) نظام للسجلات لقيد أحداث الحياة الرئيسية: الميلاد، والوفاة، وأسباب الوفاة. إن تنظيم البيانات التي يجري جمعها، والأهم منه تغطيتها وجودتها، تتباين تباينًا كبيرًا. ٢٠٪ فقط من سكان العالم الذين يعيشون في ٧٥ دولة، معظمها من البلدان المتقدمة اقتصاديًّا، تشملهم في الواقع إحصائيات لأسباب الوفاة التي يتم الحكم عليها (على سبيل المثال، من حيث الدقة، والاكتمال، وغيرها من الاشتراطات) أنها ذات جودة عالية أو من متوسطة إلى عالية الجودة. أما في نحو ٢٥٪ من سكان العالم، فلا تتلقى منظمة الصحة العالمية أية بيانات عن أسباب الوفاة. وربما يحتاج الأمر عدة سنوات، تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات أو أكثر، حتى تُدرج أسباب الوفاة في تقرير يُرفع للمنظمة ويصير متاحًا أمام المقارنات الدولية. وفيما يتعلق بالمواليد، هناك نسبة تبلغ نحو ٣٦٪ لا تُسجَّل، مع وجود تفاوت شاسع بين البلدان، يبدأ من ٢٪ في البلدان المتقدمة صناعيًّا وحتى ٧١٪ في البلدان الأقل تقدمًا. وخلال الفترة من ١٩٩٥–٢٠٠٤، كان ٣٠٪ فقط من تعداد سكان العالم البالغ ٦ مليارات نسمة يعيشون في بلدان يتم فيها تسجيل المواليد والوفيات تسجيلًا كاملًا. ولم تتغير تلك النسبة كثيرًا عن نسبة ٢٧٪ الخاصة بالفترة من ١٩٦٥–١٩٧٤ (عندما كان تعداد سكان العالم أقل من أربعة مليارات نسمة).
تتراوح إحصائيات الإصابة بالأمراض بين سجلات خروج المرضى من المستشفيات — وهي متاحة نظريًّا في أي موقع يوجد فيه مستشفى، غير أنها في الواقع العملي تتباين بشكل كبير من حيث جودتها — وبين السجلات التي يكون الغرض منها تغطية جميع حالات مرض ما، أو مجموعة من الأمراض، تقع في أوساط مجتمع سكاني ما. في مناطق منتقاة ومحدودة في عدة بلدان متقدمة، تكون السجلات جاهزة لقيد حالات التشوه، واحتشاء عضلة القلب، والسكر، والسكتات الدماغية، وغيرها من الحالات. السرطان — أو الأفضل أن نقول: أنواع السرطان (لأن هذا المسمى تندرج تحته عدة مئات من الأمراض المختلفة) — هو أفضل الحالات التي تتم تغطيتها في تلك السجلات. لقد بدأت سجلات السرطان في ثلاثينيات القرن العشرين بأمريكا الشمالية، وأُسِّس أول سجل على مستوى وطني في الدنمارك عام ١٩٤٢. وبحلول نهاية القرن الماضي، كان هناك ما يقرب من ٢٠٠ سجل جيد المستوى للسرطان، معظمها محلي أو إقليمي، في ٥٧ بلدًا مختلفًا.
بسبب خطر العدوى، كان العديد من الأمراض المعدية هدفًا للإخطار القسري والعاجل على المستوى الوطني منذ أواخر القرن التاسع عشر. واليوم، تقع حالات أمراض مثل الجدري، وسارس، وشلل الأطفال، والكوليرا ضمن المجال الأوسع من «اللوائح الصحية الدولية»، وتتطلب أيضًا إخطار منظمة الصحة العالمية بها. لقد تطورت أنظمة مراقبة الأمراض المعدية في سرعتها وتغطيتها، غير أنه حتى أفضل الأنظمة القائمة على تشخيصات الأطباء تستطيع بالكاد الإبلاغ عن وباء في حالة انتشار خلال فترة تقل عن أسبوع أو أسبوعين. ومؤخرًا وهو أمر مذهل إلى حد ما، اتضح أن مجرد ملاحظة تزايد عدد الاستعلامات اليومية عن الأنفلونزا في محرك بحث جوجل من الممكن أن يكشف ارتفاع نسب الإصابة بالمرض خلال ما لا يزيد عن يوم أو يومين. إن هذا الأسلوب البسيط والزهيد التكلفة ربما يكون ناجحًا أيضًا مع أمراض وبائية أخرى في مناطق يقطنها تعداد سكاني كبير من مستخدمي الإنترنت. إلا أن تقديرًا دقيقًا لانتشار وحدة مرض من المحتمل أن يكون فتاكًا، يتطلب تحديدًا دقيقًا لكلٍّ من حالات الإصابة والوفيات. وعندما يفلت العديد من الحالات الطفيفة من التسجيل، مثلما قد يحدث في حالات أنفلونزا إيه (إتش١/إن١)، فإن نطاق الوباء وسرعة انتشاره لا يتم تقديرهما بشكل صحيح، وتكون هناك مبالغة في تقدير «معدل الوفيات»؛ أي نسبة حالات الوفاة إلى حالات الإصابة بمرض ما خلال فترة زمنية (إذ إن الوفيات من النادر أن تمر دون تسجيل).
الدراسات الارتباطية ومغالطاتها
غير أن الأمور أكثر تعقيدًا من ذلك؛ إذ إن هناك مغالطة عكسية من الممكن أن تنشأ. تخيل منطقتين إحداهما خالية من المدخنين، في حين يدخن الجميع في المنطقة الأخرى المقدار نفسه من التبغ اعتبارًا من سن الخامسة عشرة. لا بد أن الأخيرة سوف تتصف بمعدل أعلى كثيرًا من الإصابة بسرطان الرئة يفوق ما لدى الأولى، غير أن إحدى الدراسات التي تقيس عادات التدخين لدى كل فرد من الممكن ألا تكون قادرة على اكتشاف أي فارق في خطر سرطان الرئة المرتبط بالتدخين في كل منطقة منهما. وحدها المقارنة بين المنطقتين هي التي قد تكشف عن أن التدخين في تلك الظروف عامل محدد للإصابة بسرطان الرئة، ولكن على مستوى المجتمع السكاني (المنطقة) فحسب. إن الاكتفاء بالبحث على مستوى الفرد وحسب ربما يقود إلى «مغالطة فردية». كل ما قيل عن الوحدات الجغرافية ينطبق كذلك على الوحدات الزمنية؛ على سبيل المثال، الارتباطات بين تركيزات ملوثات الهواء خلال أسابيع متعاقبة ومعدلات دخول المرضى المستشفيات للعلاج من أمراض تنفسية خلال الأسابيع نفسها.
الدراسات المستعرَضة
يمكن جمع معلومات تفصيلية عن الصحة من خلال دراسات مسحيَّة خاصة لعينات من مجتمع سكاني، وفيها تُطرح أسئلة عن الصحة أو يُجرى فحص طبي، أو كلاهما. مثلما يحدث في استطلاعات الرأي التي تجرى بصورة صحيحة، يمكن الحصول على عينات معبرة بأن نقوم في البداية بتقسيم المجتمع السكاني إلى مجموعات فرعية مستخدمين معايير رئيسية، عادةً ما تكون الجنس، والعمر، ومحل الإقامة، ثم استخلاص عدد الأفراد الذين ستشملهم الدراسة عشوائيًّا من بين كل مجموعة فرعية أو «طبقة». إن جميع البيانات التي يتم جمعها تشير، مثلما هو الحال في عمليات التعداد السكاني، إلى نقطة زمنية ثابتة (تاريخ معين) حتى إذا كانت المدة الفعلية تمتد عدة أيام أو أسابيع. ومن الممكن أن تتكرر الدراسات المسحية دوريًّا لمتابعة اتجاهات الصحة. وهناك دراسة مسحية دورية كبيرة، وهي الدراسة المسحية الأمريكية الوطنية لفحص الصحة والتغذية. أجريت تلك الدراسة لأول مرة في الفترة بين عامي ١٩٧١–١٩٧٥ على عينة عشوائية منتقاة من جميع أنحاء الولايات المتحدة من أكثر من ٣٠ ألف فرد، وشملت إجراء مقابلة انصب التركيز فيها على النظام الغذائي وإجراء فحص طبي. وتكررت الدراسة في الفترة من ١٩٧٦–١٩٨٠ وفي الفترة بين عامي ١٩٩٧-١٩٩٨. ومنذ عام ١٩٩٩، تحولت إلى دراسة مسحية تُجرى مرة كل عامين، وتشمل عددًا كبيرًا ومتباينًا من المقابلات والفحوص الطبية، وصنوفًا من الاختبارات المعملية.
مع أن التوثيق التفصيلي لصحة مجتمع ما وللتغيرات التي تطرأ عليها بمرور الزمن أمر مهم، فإن تلك الدراسات المسحية عادةً ما تكون أقل نفعًا كأدوات للبحث عن أسباب الأمراض. على سبيل المثال، من الممكن الحصول على قياسات ضغط الدم ورسم القلب الكهربائي أثناء الدراسة البحثية، وربما يمكن اكتشاف أن هناك اختلالين ظهرا في رسم القلب يكونان أكثر تكرارًا لدى أصحاب ضغط الدم المرتفع منهما لدى أصحاب الضغط الطبيعي. إلا أنه مع تقييم كلٍّ من رسم القلب وضغط الدم في الوقت نفسه، يستحيل الجزم بأي من الاختلالين كان هو البادئ بالظهور ومن الممكن أن يكون هو السبب، المباشر أو غير المباشر، في حدوث الآخر. الواقع أنهما ربما يكونان قد بدآ في الوقت نفسه تقريبًا نتيجة لعامل آخر مشترك، مثل تدخين التبغ. تعاني جميع الدراسات المسحية التي تجمع البيانات مرةً واحدة وحسب عند نقطة زمنية ثابتة (الدراسات المستعرضة) من هذا القصور. والدراسات المسحية التي تُجرى على المجتمعات السكانية نفسها وتكرَّر في تواريخ مختلفة ولكن على عينة مختلفة من الأفراد، مثلما هو الحال في أغلب الأحوال، لا تخلو من هذا القصور.
عبء الأمراض
هناك حقل ألغام آخر، ضروري لترسيخ أولويات الصحة العامة، وهو تحديد عبء الأمراض المختلفة نتيجة لعوامل متباينة في منطقة أو أمة معينة أو حتى على مستوى العالم. قد يبدأ هذا الأمر في أبسط صوره، بسؤال يُطرح مرارًا وتكرارًا من نوعية: ما النسبة المئوية، مثلًا، لجميع أنواع السرطان التي تحدث نتيجة للبيئة؟ هناك ثلاث مشكلات رئيسية تحول دون تقديم إجابة شافية: أولاها أن تعريف كلمة بيئة من الممكن أن يغطي جميع العوامل التي تقع خارج جسم الإنسان (أشعة الشمس، الملوثات بالهواء والمياه، دخان التبغ، الأطعمة … إلخ) أو ربما كان مقصورًا على بعضٍ منها، مثل الملوثات الموجودة في محل الإقامة والعمل؛ وسوف تتباين النسب المئوية تبعًا لذلك التعريف. المشكلة الثانية هي أنه من البديهي أن تتوقف تلك النسب المئوية على عدد الأفراد الذين يتعرضون للمكونات المختلفة للبيئة؛ فإذا كان كثيرون منهم من المدخنين، فإن النسبة المئوية لحالات الإصابة بالسرطان الناتجة عن البيئة، وعن الدخان بالتحديد، تكون مرتفعة؛ وإذا كان عدد المدخنين قليلًا، فستكون تلك النسبة منخفضة. ربما كان من الأسهل نسبيًّا حساب عدد من يدخنون (ومقدار تدخين كلٍّ منهم)، غير أن هناك عادةً قدرًا أكبر من عدم اليقين يتعلق بعدد المعرضين، على سبيل المثال، لملوثات الهواء المسرطنة؛ وبالنسبة لهذين العاملين، تتباين أعداد الأفراد المعرضين لهما من مكان إلى آخر، وتخفي النسب المئوية المحسوبة للبلدان الكبرى أو للقارات أو للعالم أجمع تلك التباينات الأساسية، علاوة على الشك في تقييم أعداد المعرضين.
أخيرًا، حتى النسب المئوية الدقيقة الخاصة بمكان واحد (مثلًا، بلدة ما) تحمل سمة محيرة، وهي أنها لا يمكن حساب مجموعها؛ إذ يمكن أن يتخطى إجماليها نسبة ١٠٠٪؛ أي يكون أكثر من إجمالي عدد حالات السرطان! في واقع الأمر، لو أننا كنا نعلم جميع أسباب السرطان على وجه اليقين — وهو وضع نحن أبعد ما نكون عنه في الوقت الراهن — لكان هناك الكثير من الحساب المزدوج؛ حيث إن العديد من أنواع السرطان يحدث نتيجة لنشاط مشترك لسببين أو أكثر من الأسباب الوراثية والبيئية. وكما رأينا من قبل في الفصل الخامس، يزيد التعرض المهني لمادة الأسبستوس وتدخين التبغ كلٌّ على حدة من خطر الإصابة بسرطان الرئة، غير أن اجتماعهما معًا يعمل على مضاعفة الخطر المحدق بالعمال المعرضين لمادة الأسبستوس من المدخنين. من الصحيح أن نعزو نسبة مئوية ما من حالات الإصابة بالسرطان إلى هذا النشاط المشترك، ولتكن مثلًا ٥٪ من إجمالي حالات الإصابة بسرطان الرئة، مرة للتعرض لمادة الأسبستوس ومرة للتدخين (لأنه بدون أيٍّ من هذين العاملين، لم تكن تلك السرطانات لتحدث)، غير أنه ليس من الصواب أن نحسب مجموع النسب المئوية المقابلة، ٥٪ + ٥٪، إذ إنها تشير إلى حالات السرطان نفسها.
مع وجود كل تلك التحفظات، لا عجب في أننا لا نستطيع اليوم أن نكون أكثر دقة من القول إنه على نطاق العالم الواسع بأسره هناك ما يقرب من ثلث حالات الإصابة بالسرطان يمكن أن نعزوها إلى عوامل بيئية. تدخين التبغ مسئول عما لا يقل عن ٢٠٪ من الحالات، والمشروبات الكحولية مسئولة عن نحو ٥٪، والعوامل المعدية مسئولة عما لا يقل عن ١٠٪، مع وجود نسب مئوية أعلى في البلدان النامية، والمواد المسرطنة المهنية والبيئية مسئولة عن نسب تتراوح بين أقل من ١٪ حتى نحو ١٠٪.
تلك النسب المئوية تعبير مبسط عن التأثير الفعلي لأحد العوامل على صحة مجتمع سكاني ما. وربما كانت النسبة المئوية نفسها انعكاسًا لتأثيرات مختلفة الحدة، وذلك اعتمادًا على ما إذا كانت أنواع السرطان تصيب صغار أم كبار السن، أو ما إذا كانت قابلة للعلاج بنجاح (وأسلوب ومدة علاجها) أم لا. تؤخذ تلك العناصر في الحسبان في التحليلات المعقدة، التي قد تطورت خلال العقدين الأخيرين، لما يطلق عليه «عبء المرض» على مستوى المجتمعات السكانية محليًّا، ووطنيًّا، وعالميًّا. كثيرًا ما تكون نتائج تحليلات عبء المرض في صورة عدد «سنوات العمر المضبوطة حسب الإعاقة» الضائعة نتيجة لسبب ما. فالسنة الواحدة من تلك السنوات تقابل ضياع سنة واحدة من سنوات العمر الخالية من الإعاقة؛ ومن ثم فإن وحدة القياس هذه تُدخل في حسبانها كلًّا من ضياع سنوات العمر، بسبب الوفاة، وفقدان جودة الحياة، بسبب الإعاقة.