من رفاعة الطهطاوي إلى قاسم أمين
كان رفاعة رافع الطهطاوي من علماء الأزهر، وُلد في طهطا سنة ١٢١٦ﻫ ومات في القاهرة سنة ١٢٩٠.
وكان إمامًا في الجيش، فلما أرسل محمد علي بعض الضباط من هذا الجيش، وكلهم من أبناء الشراكسة والأتراك إلى باريس كي يتعلموا، أرسل معهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي كي يكون إمامهم.
أي إن أعضاء البعثة كانوا يتعلمون، أما هو فكان يؤدي وظيفة الإمامة لهم. ولكنه تعلم اللغة الفرنسية وحده بلا مدرسة. ولما عاد إلى مصر كان أول من حرر الوقائع المصرية. ثم عيِّن ناظرًا لمدرسة الألسن، ثم ناظرًا لمدرسة الخرطوم. ثم بقي سائر حياته عاطلًا أو بالأحرى معطلًا.
وألَّف نحو عشرين كتابًا منها كتاب «المرشد الأمين للبنات والبنين» وكان يُستعمل للمطالعة في مدارس مصر إلى أن دخل الإنجليز، فمُنع استعماله لأنه كان يدعو إلى تعليم البنات. والاستعمار، مثل الرجعية، هو أعدى الأعداء لنهضة المرأة وتعليمها.
والطبعة الأخيرة لهذا الكتاب صدرت سنة ١٢٨٩ﻫ؛ أي قبل ٨٤ سنة. والأغلب أنه ألَّفه قبل مائة سنة أي حوالي سنة ١٨٦٠م.
ونحن نجد هنا رجلًا أزهريًّا زار باريس قبل نحو ١٢٠ سنة، فكان يعقد المقارنات بين فرنسا ومصر، وبين المجتمع الفرنسي والمجتمع المصري، وبين المرأة الفرنسية والمرأة المصرية.
ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معًا لحسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك. فإن هذا مما يزيدهن أدبًا وعقلًا ويجعلهن بالمعارف أهلًا ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم ويعظم مقامهن لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش، مما ينتج من معاشرة المرأة الجاهلة لامرأة مثلها. وليمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها. فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة. وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء؛ فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون، وفيما عندهم وعندها وهكذا … وأما القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة، وأنها مكروهة في حقهن ارتكازًا على النهي عن بعض ذلك في بعض الآثار، فينبغي أن لا يكون ذلك على عمومه. ولا نظر إلى قول من علَّل ذلك بأن من طبعهن المكر والدهاء والمداهنة ولا يعتمدن على رأيهن لعدم كمال عقولهن. فتعليم القراءة والكتابة ربما حملهن على الوسائل غير المرضية ككتابة رسالة إلى زيد ورقعة إلى عمرو وبيت شعر إلى خالد ونحو ذلك. وإن الله تعالى لو شاء أن يخلقهن كالرجال في جودة العقل وصواب الرأي وحب الفضائل لفعل، فكأن الله تعالى خلقهن لحفظ متاع البيت ووعاء لصون مادة النسل. فمثل هذه الأقوال لا تفيد أن جميع النساء على هذه الصفات الذميمة ولا تنطبق على جميع النساء، وكم من نهي وردت به الآثار كحب الدنيا ومقاربة السلاطين والملوك والتحذير عن الغنى. فقد حمل على ما يعقبه شر وضرر محقق. وتعليم البنات لا يتحقق ضرره، فكيف ذلك وقد كان من أزواجه ﷺ من يكتب ويقرأ كحفصة بنت عمر، وعائشة بنت أبي بكر، رضي الله عنهما وغيرهما من نساء كل زمن من الأزمان. ولم يعهد أن عددًا كثيرًا من النساء ابتذلن بسبب آدابهن ومعارفهن. على أن كثيرًا من الرجال أضلهم التوغل في المعارف، وترتب على علومهم ما لا يُحصى من شُبَه الخروج والاعتزال. وليس مرجع التشديد في حرمان البنات الكتابة إلا التغالي في الغيرة عليهن من إبراز محمود صفاتهن أيًّا ما كانت في ميدان الرجال تبعًا للعوائد المحلية المشوبة بحمية جاهلية. ولو جرب خلاف هذه العادة لصحت التجربة؛ فإننا لو فرضنا أن إنسانًا أخذ بنتًا صغيرة السن مميزة وعلمها القراءة والكتابة والحساب وبعض ما يليق بالبنات أن يتعلمنه من الصنائع كالخياطة والتطريز إلى أن تبلغ خمس عشرة سنة ثم زوَّجها لإنسان حسن الأخلاق كامل التربية مثلها فلا يصح أنها لا تحسن العشرة معه أو لا تكون له أمينة. ومثل ذلك سائر البنات، فإن تعليمهن في نفس الأمر عبارة عن تنوير عقولهن بمصباح المعارف المرشد لهن، فلا شك أن حصول النساء على ملكة القراءة والكتابة وعلى التخلق بالأخلاق الحميدة والاطلاع على المعارف المفيدة هو أجمل صفات الكمال، وهو أشوق للرجال المتربين من الجمال. فالأدب للمرأة يغني عن الجمال، لكن الجمال لا يغني عن الأدب لأنه عرَض زائل. وأيضًا آداب المرأة ومعارفها تؤثر كثيرًا في أخلاق أولادها؛ إذ البنت الصغيرة متى رأت أمها مقبلة على مطالعة الكتب وضبط أمور البيت والاشتغال بتربية أولادها جذبتها الغيرة إلى أن تكون مثل أمها، بخلاف ما إذا رأت أمها مقبلة على مجرد الزينة والتبرج وإضاعة الوقت بهذر الكلام والزيارات الغير اللازمة حيث تتصور البنت من الصغر أن جميع النساء كذلك فتألف ذلك من صغرها، فشتان ما بين هذه وبين من تعتمد على معارفها وآدابها وتفعل ما فيه إرضاء بعلها وتربية أولادها لأنها شبَّت على ذلك كما قال البوصيري رحمه الله:
وقد قضت التجربة في كثير من البلاد أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره، بل إنه لا ضرر فيه أصلًا.
هذا هو ما أردت أن أنقله من هذا الأزهري العظيم الذي بصر بقيمة التعليم للمرأة قبل مائة سنة حين كانت الدنيا في مصر قتامًا وظلامًا.
ولكن لماذا لم تثمر هذه الدعوة؟
أعظم ما جعل هذه الدعوة عقيمة هو الاستعمار الذي لم يسمح للحكومة المصرية بإنشاء مدرسة ثانوية واحدة للبنات. ولذلك لم ننشئ نحن هذه المدارس إلا في سنة ١٩٢٥ بعد أن تخلصنا بعض الشيء من القيود الاستعمارية.
ولكن شيئًا آخر عاق هذه الدعوة، هو أن رفاعة الطهطاوي لم يدعُ إلى السفور، وكأنه كان راضيًا بأن تتعلم المرأة وتبقى في البيت لا تخرج إلى المجتمع ولا تختلط به. بل إن نظرته للمرأة من ناحية تعليمها إنما كانت قائمة على أنها يمكن أن تزيد صلاحيتها بالزواج وخدمة الرجل وأولادها عندما تكون متعلمة؛ أي إنه لم يرتفع إلى غاية التعليم للمرأة من تربية شخصيتها وإنسانيتها بصرف النظر عن زواجها أو عزوبتها.
ولذلك احتجنا إلى قاسم أمين الذي دعا إلى السفور قبل نحو ستين سنة.
وكلاهما، رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، عاش في باريس، ولكن قاسم أمين كان أنضج وأبصر في التفطن لمعاني الحضارة الأوربية. ولذلك دعا إلى السفور؛ أي دعا إلى اختلاط المرأة بالمجتمع، تدرس شئونه وتحيا الحياة المستقلة التي تمليها عليها شخصيتها.
ونحن الآن أكبر من قاسم أمين ومن رفاعة الطهطاوي معًا لأننا قد ارتقينا إلى فهم جديد لمقام المرأة في العائلة وذلك بإيجاد قيود تحول دون الإساءة بالإسراف في الزواج أو الطلاق.
وهذا الفهم الجديد أملته علينا حال اجتماعية جديدة، هي يقظة نحو عشرين ألف امرأة قد احترفن التعليم والطب والتجارة والصناعة والصحافة، ونحو مائة ألف عاملة مصرية يعملن ويرتزقن في المصانع.
وهؤلاء جميعًا يؤلِّفن طبقة جديدة من النساء لم يعرفها تاريخنا الماضي، وهن اللائي أملين علينا هذه الإصلاحات الجديدة للعائلة، وهن اللائي غرسن في نفوسنا هذا الاحترام لهن والعناية بمصالحهن. وهن اللائي حملن لجنة الدستور على الاعتراف بالقليل من حقوقهن.