المرأة التي تعمل في المجتمع
أتاحت لي الظروف هذا الأسبوع أن أجد نفسي في غرفة رحبة في مبنى الشهر العقاري بالقاهرة. وكان جميع من يقوم فيه بالأعمال الحكومية موظفات مصريات ليس بينهن موظف واحد من الرجال. كن يبلغن ثمانيًا أو عشرًا كلهن حائزة على شهادة الحقوق.
وتأملت الوجوه والقامات واللغة. وكان إعجابي عظيمًا.
لم أجد في واحدة منهن ذلك التبرج الذي نعرفه في كثير من نساء المنازل. وأعني التبرج في طلاء الوجه، والتبرج في الملابس التي تجعل المرأة عارية وهي كاسية، والتبرج في الكلمة والإيماءة. كما لم أجد واحدة منهن تدخِّن، أو يعلو صوتها في خشونة الأصوات التي نسمعها من الرجال.
لا، لا نعومة ولا خشونة؛ إذ كنَّ يؤدين أعمالهن في وقار وجمال معًا.
ووجدت سؤالًا ينقر في ذهني: لماذا لا يتبرجن وهن جميعهن في سن الشباب؟
ووجدت الجواب.
إن المرأة عندما تعمل تجد الكرامة، وتجد الاستقلال، وتجد الأمل والثقة. فهي لا تقلق على مستقبلها ولا تخشى أن يفوتها زواج. وهي تعرف أن كرامتها وعيشها وسعادتها لا تتوقف على محاسنها الجسدية فقط؛ إذ إن لها محاسن أخرى هي ذكاؤها ومهارتها وإنسانيتها التي تنمو جميعها بالعمل. هذا العمل الذي يربيها وينضجها ويجعلها «تكبر» وتحيا الحياة الفنية الفلسفية في هذه الدنيا.
إن كثيرًا من دعاة الفعل الماضي واحترام التقاليد يتهمون المرأة العصرية بالتبرج. وهم لا يسأمون القول المكرر بأن المكان الأول للمرأة هو البيت، وأن وظيفة المرأة الأولى هي الزواج. كأن هؤلاء السيدات والآنسات اللائي رأيتهن ليست لهن بيوت أو كأنهن لن يتزوجن.
أما عن تهمة التبرج فإنها ألصقت بالفتاة التي تطمح إلى الزواج والبيت، دون أي نشاط خارجهما، من هؤلاء العاملات في خدمة الدولة. ذلك أن الفتاة، عندما تعرف أنه ليس لها كرامة أو عيش إلا بمقدار ما عندها من جمال جنسي، تحتاج إلى أن ترصد كل وقتها واهتمامها لزيادة محاسنها التي تغري وتجذب حتى يتحقق لها الزواج، فإذا تحقق، فإنها تحتاج أيضًا إلى الإسراف في العناية بمحاسنها ومفاتنها حتى تستبقي زوجها.
ثم هي لهذا الموقف السيكولوجي؛ أي لقصرها عنايتها على الزوج والبيت، تنسى القيم الاجتماعية الإيثارية ولا تعود تبالي غير القيم الأنانية أي البيت والزوج. بل حتى حين تجد من زوجها اتجاهات اجتماعية مثل خدمة الوطن، أو العناية بالمذاهب والمبادئ، أو التضحية بشيء من مصلحته الخاصة لأجل الخير العام، حين تجد ذلك منه، تكفه؛ إذ لا قيمة لكل هذه الأشياء إزاء ارتباطه بها وحدها. فهي تجره إلى الأرض إذا أحست منه أية رغبة في الارتفاع إلى السماء.
أليس هو عائلها ومكسبها وموئلها؟
إنها لا تعرف غيره ترسي عليه قواعدها في الحياة، فهي تستمسك به، وتتبرج له، وتعد نفسها كل يوم لأن تكون أنثى أكثر من أن تكون إنسانًا.
ولكن ليس هذا شأن الفتاة التي احترفت حرفة واستقلَّت وعاشت منها؛ فإنها تفكر في الزواج كما يفكر فيه الرجل باعتبار أنه شركة شريفة يُراد منها سعادة الزوجين، وليس باعتبار أنه وسيلة للعيش من كدِّ الزوج وتعبه؛ إذ هي تستطيع أن تكد وتتعب مثله وتعيش.
ولذلك أيضًا تعد الفتاة التي عملت وكسبت من عملها قبل الزواج، تعد خير الزوجات عندما تتزوج، ليس فقط لأنها لا ترصد كل وقتها لزيادة محاسنها التي تغري بها زوجها حتى لا يلتفت إلى غيرها، وإنما لأن اختباراتها السابقة في عملها الحر، أو خدمتها الحكومية، تجعلها تفهم المجتمع الذي تعيش فيه وتحملها على ألا تقصر نشاطها على البيت إذ هي لا تنسى هذا المجتمع بجميع مسئولياته ومسراته. ثم هي، لأنها تفهم هذا المجتمع وتفهم قيمة العمل ومسئولياته، تعرف مسئوليات زوجها وتفطن لمتاعبه وهمومه.
إنها تعرف معنى المواعيد التي لا تكاد زوجة لم تعمل من قبل تعرف معناها. وهي تفطن لقيمة السلوك في المعاملة، وقيمة الزي اللائق، وقيمة الدراسة، وقيمة الجريدة في التنوير السياسي والاجتماعي، وقيمة الكتاب في الحياة الفلسفية.
وصحيح أن الزوج لا يجد فيها ذلك التواضع، أو التخاضع، الذي يجده من الزوجة التي لم تحترف حرفة ولم تكسب قرشًا. ولكن الحياة الزوجية السليمة في نظر الرجل السليم هي حياة التكافؤ والزمالة وليست حياة السيادة والكبرياء. ولست أنكر أن هناك شبانًا يخشون الزواج من فتاة جامعية متعلمة، ومرجع هذا إلى أنهم يجدون فيها أو بالأحرى في تعليمها مهانة لكرامتهم؛ إذ قد تمتاز هي على الزوج بثقافة أو علم أو فن، أو هم يخشونها لأنها تعرف كثيرًا وهم يؤثرون السذاجة على المعرفة.
وهم ينسون أولًا أن من مصلحة البيت، إذا كان الزوج جاهلًا أو منخفض المستوى في التعليم، أن تكون الزوجة متعلمة؛ لأن زوجًا جاهلًا مع زوجة متعلمة خير من زوجين جاهلين. وينسون ثانيًا أن هذه السذاجة المنشودة لا تزيد على أن تكون جهلًا سوف ينعكس أثره السيئ في إدارة البيت وتربية الأبناء.
والآن أحب أن أنتقد.
ذلك أن المكتب الذي زرته في مصلحة الشهر العقاري كان يحوي الموظفات دون الموظفين. ولست أشك أن منع الاختلاط بين الجنسين قد قصد هنا، فكأننا قد سلمنا بالانتفاع بخدمة المرأة ولكن مع الاحتفاظ بالفصل بين الجنسين.
وهذا خطأ عظيم؛ فإن الزمالة بين الرجل والمرأة في الوظيفة الحرة أو الوظيفة الحكومية هي تربية إنسانية جليلة لكلٍّ من الجنسين، إذ ليس هناك ما ينبه الذهن إلى الحقائق دون الخيالات سوى هذه الأنسة التي تنشأ من الحديث وتبادل المسئوليات بين شاب وفتاة في واجبات الخدمة للجمهور.
يجب أن يعرف الرجل المرأة، ويجب أن تعرف المرأة الرجل. وأي سبيل لهذه المعرفة سوى الاختلاط؟ هل يعرفانها من الكتب؟
إن الانفصال يجعل كلًّا من الشاب والفتاة يشطح في خيالات بعيدة عن الحقائق. فإذا تم زواج بعد انفصال طويل فإن الحقائق الجديدة قد يحطمها الخيال السابق فلا يصلح الزواج ولا يسعد.
وفن الحب يحتاج إلى أن تبقى صورة المرأة ماثلة في ذهن الرجل وصورة الرجل ماثلة في ذهن المرأة منذ المهد إلى اللحد، وأيما انفصال بينهما قد يُحدث شذوذًا، وقد لا يبرأ هذا الشذوذ طيلة العمر.
ولكن هناك ما هو دون الشذوذ مما يُتعس الحياة الزوجية؛ فإن الانفصال بين الجنسين يجعلنا لا نفهم الطراز الذي نحبه من النساء أو الرجال؛ أي لا نعرف كيف نحب، وعندئذٍ نتزوج للزواج فقط وليس لما ننتظره في الزواج من سعادة وهناء. ثم تتكشف لنا الحقائق بعد الزواج حين نجد أننا تزوجنا فتاة (أو فتًى) من طراز آخر غير ما كنا نحب أن نتزوج.
إن مجتمعنا الانفصالي قد حطم سعادتنا وأخَّر تربيتنا الإنسانية والاجتماعية. وما دامت الحكومة قد سلمت بتوظيف المرأة فإنها يجب أن تسلِّم بالاختلاط بين الجنسين في مكاتبهما حتى يكون هذا الاختلاط الذي تهذبه المسئوليات تمهيدًا لإيجاد مجتمع مختلط مهذب.
لو أنني كنت ديكتاتورًا لشرطت على كل فتاة تُرشَّح للزواج أن تكون قد عملت وكسبت من عمل حر أو من وظيفة حكومية خمس سنوات على الأقل. بل أزيد على هذا أن هذه السنوات الخمس يجب أن تمضى سواء في مكتب أو متجر أو مصنع مع الرجال.
قد يعترض القارئ أو القارئة بأن الفتاة التي تعلمت في الجامعة قد حصلت من هذا التعليم بما يهيئها للزواج السعيد. ولكن هذا خطأ؛ لأن هذه الفتاة قد تعلمت من الكتب، وهي لن تتزوج كتابًا إذ ستتزوج إنسانًا، فيجب أن تعرف هذا الإنسان بالاختلاط الاجتماعي قبل الزواج. وأحسن أنواع هذا الاختلاط هو تلك الزمالة التي تجدها وقت عملها مع الرجال؛ إذ هي أشرف زمالة تنطوي على مسئوليات الخدمة والأمانة والشرف. وكما تتربى المرأة بهذه الزمالة كذلك يتربى الرجل.
إني كثيرًا ما أجد البذاء والوقاحة والغثاثة في أولئك الشبان الذين لم يزاملوا الفتيات ولم يختلطوا بهن هذا الاختلاط الذي يربي في نفوسهم الضمير الاجتماعي، ويقسرهم على اتخاذ الكلمة المهذبة والسلوك المهذب في حديثهم.
ولنذكر كلمة عن «البيت» الذي لا يَتعب الكارهون للتطور من القول بأنه غاية المرأة في الحياة. ذلك أن المرأة إنسان. وليس البيت أو الوظيفة، وليس العلم أو الأدب، وليست الأخلاق العالية، سوى وسيلة للحياة. ولذلك قد يجوز لنا أن نقول إن البيت للمرأة. ولكن لا يصح العكس.
ثم ما هي الغاية من الزواج والبيت؟
أليست هي سعادة الزوجين وأيضًا إنجاب الأطفال وتربيتهم؟
إذا كان هذا هو الشأن فإن المرأة المتعلمة التي مارست عملًا كاسبًا قبل الزواج والتي اختلطت بالمجتمع في مسئولياته المختلفة، هذه المرأة هي خير من يربي الأطفال؛ إذ هي تعرف المناخ الاجتماعي الذي سيعيشون فيه.
هي تعرفه ولا تجهله كالمرأة التي لم تؤدِّ خدمة اجتماعية قبل الزواج.