رئيسات للمحاكم
في حديث للأستاذ الباقوري وزير الأوقاف سنة ١٩٥٥ بشأن زيارته للصين جاء قوله إن هناك ١٤٤ سيدة صينية يشغلن مناصب رئيسات للمحاكم. وبالطبع هناك نحو ضعفي هذا العدد من القاضيات أو أكثر؛ لأن رئيسة المحكمة ترأس قاضيين من الجنسين، كما أن «رئيس» المحكمة يرأس كذلك مثل هذا العدد من الجنسين.
وهذا الخبر يسر المفكر الشرقي الذي عرف حال المرأة الشرقية حين كانت «شرقية» تحافظ على تقاليد الذل والهوان التي ورثتها. فقد كانت المرأة الصينية تولد لتخضع، وليس لتستقل. فكانت وهي فتاة تخضع لأبويها، فإذا تزوجت خضعت لحماتها. وكانت تُخدَّر إذا كانت ثرية. وكان تخديرها يؤكَّد بوضع قدميها منذ الطفولة في حذاء من حديد حتى لا تنمو فتستطيع المشي عليهما. إذ لماذا تمشي؟
أليست هي سيدة مخدرة قد وقفت حياتها على خدمة زوجها في السرير؟ وأليست هي ثرية لها خدم ينقلنها من مكان إلى مكان؟ إن الطبيعة أخطأت في تزويدها بقدمين.
إلى هذا الحد كان انحطاط المرأة الصينية. وقد ساء وسفل بحكم التقاليد التي ربطتها بالماضي. وكان الشبان الصينيون الذين تعلموا في أوربا وأميركا، وعرفوا هناك المرأة المستقلة النشيطة التي تختار زوجها وتحبه، وتتساوى به في تبادل العاطفة والحب، كانوا يدعون إلى حرية المرأة الصينية واستقلالها وإلى أن لها حقًّا إنسانيًّا أصيلًا في ألا تتزوج سوى الرجل الذي تحبه. فكان منادرة الصين؛ أي شيوخها الذين ورثوا ثقافة الظلام، يتهمونهم بالكفر بالدين والخيانة للتقاليد.
ولكن الدنيا تغيرت، وغسل الصينيون عقولهم من هذه التقاليد كما يغسل الإنسان جسده من الأقذار التي تلوث بها. وأصبحوا يحترمون المرأة ويتيحون لها العمل والاختلاط بالمجتمع والإنتاج للوطن. كما أصبح الحب شرطًا للزواج والمساواة وأساسًا للعشرة بين الزوجين.
أصبحت المرأة الصينية إنسانًا بعد أن كانت أنثى فقط.
وحسن أن يرى الأستاذ الباقوري نفسه، وهو شيخ أزهري، هذا النور من الشرق، وأن يخبرنا عنه مع الإعجاب، فإنه رجل مخلص كما هو ذكي، وليس في مقدوره أو رغبته أن ينكر النور، هذا النور الذي نحتاج إلى شعاع منه.
•••
هذا بعض ما نعرفه الآن عن الصين. فماذا نعرف عن مصر؟
لقد أرسلتْ إليَّ آنسة من ملوي تنبهني، وتكاد تسبني؛ لأني أهملت التعليق على خبر عجيب. والواقع أني لم أكن قد قرأته، ولو كنتُ لما أهملتُ. خلاصة الخبر أن شابًّا قصد المحكمة الشرعية كي يثبت وراثته ﻟ ١٢٨ فدانًا من أمه، فسأله القاضي عن اسم أمه. ولكن الشاب رفض الإجابة؛ لأنه بحكم «التقاليد» في الصعيد لا يجوز ذكر الأسماء التي تتسمى بها أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا.
أليس الاسم بعض الشخصية؟ وهل يمكن الصعايدة أن يعترفوا بأن للمرأة شخصية؟
أين أنت يا مصر من الصين؟ هناك تعين المرأة رئيسة للمحكمة، وهنا يحرم ذكر اسمها في المحكمة؟
لماذا ترى الصين شخصية المرأة ونحن هنا نلغيها؟ أو على الأقل يحاول بعضنا إلغاءها؟
إني بالطبع لا أنسى أن مثل هذا الحادث شاذ، وأن التقاليد ليست لها عندنا كل هذه القوة إلا في بيئات منعزلة لم تمسها الحضارة العصرية مثل ملوي. ولكن هل يجوز لنا أن نهمل الصعيد إلى هذا الحد؟ وأن نترك تقاليد الظلام تخنق نساءنا؟
أعظم مظاهر النهضة الصادقة في أية أمة هو نهوض المرأة التي تطرح بقايا الاستبداد والاستعباد وتستقل من سجن المنزل إلى ميدان المجتمع لتعمل وتكسب.
ونحن في مصر لا نحيا الحياة المليئة؛ فإننا نتزوج بلا حب، إذ لا يمكن الحب بلا اختلاط سابق يكون فيه الحديث واللقاء والمسايرة وتبادل الدعوات. ونحن نقاطع جميع هذه الوسائل على التعارف فنمنع الحب بين الشاب والفتاة.
وما دامت الفتاة لا تختلط بالمجتمع فإن مصادفة لقائها للشاب الموعود تبقى بعيدة، بل أحيانًا مستحيلة؛ ولذلك شبابنا وفتياتنا تعساء قد حُرموا الحب لأنهم حرموا الاختلاط.
وحين تعمل المرأة في المجتمع، موظفة بالحكومة، أو عاملة في المصنع، أو كاتبة أو بائعة في المتجر، أو حين تستقل وتدير حانوتًا للبقالة أو الأقمشة أو نحو ذلك، عندئذٍ فقط تجد الفرصة للقاء الشاب الذي يحمل معه وعد السعادة الزوجية.
ثم هذا النشاط الاجتماعي الذي تقوم به المرأة في أوربا وأميركا وفي الأمم الناهضة مثل الصين والهند قد زاد مقدار الخدمة والإنتاج ليس في الكم وحده بل في الكيف أيضًا. ذلك أن السيدة التي تؤدي واجب القضاء في المحكمة تُكسب العدالة لونًا آخر غير اللون الذي يُكسبها إياه الرجل؛ إذ هي تنظر برحمة جديدة لم يكن يعرفها الرجل. والرحمة هي عدالة العدل. فإن قضايا الزواج والطلاق، ومشكلات الصبيان والنفقة للأطفال، ورعاية الأبناء القاصرين، كل هذا تفهمه المرأة فهمًا آخر غير ما يفهم الرجل؛ ولذلك نحن ننتفع بوجودها على منصة القضاء، ننتفع في الفهم والعدل؛ ذلك لأن فهم الرجل لهذه الشئون هو فهم متحيز. وكذلك فهم المرأة لها هو فهم متحيز، وإنما نجد العدل الصادق عندما نجمع بين الفهمين.
لقد كانت المرأة المصرية غائبة عن مؤتمر باندونج، فإن جميع المندوبين من كبار الساسة ورؤساء الدول ووزرائها كانوا قد اصطحبوا معهم فتيات عضوات أو سكرتيرات، إلا مصر!
لقد كان مؤتمر باندونج خطوة نحو الأمام في مكافحة الاستعمار، والتفاهم بين أمم آسيا وأفريقيا التي سرقها الاستعمار وأذلها وحرمها التعليم والثراء والصناعة والصحة. وكان حضور المرأة فيه برهانًا على أن هذه الأمم قد تحدت الاستعمار وألغت أساليبه.
نعم، أساليب الاستعمار في احتقار المرأة.
ألم نعرف في مصر أن الناظرة الإنكليزية لمدرسة السنية الابتدائية كانت تحتم على تلميذاتها اتخاذ البرقع في حين كان قاسم أمين يدعو إلى إلغائه؟
لماذا كان يفعل الاستعمار ذلك؟
لأنه كان يعرف، بل يوقن، بأن حجاب المرأة وانفصالها عن الرجل في مصر يمنع بلادنا من التقدم ويجعل مجتمعنا متأخرًا.
ومع ذلك ذهبنا إلى باندونج دون أن نعلن تغيرنا، وأننا قد ارتفعنا بالمرأة المصرية إلى مستوًى جديد من الحضارة والاجتماع.
ذهبنا إلى باندونج نمثِّل مصر بلا نساء، كأننا كنا نمثل الرجال المصريين فقط.
وكان موقفنا هذا لا يشرفنا.
لذلك يجب أن نزور الهند والصين ونرى بأعيننا ماذا فعل الهنود والصينيون للارتفاع بنسائهم نحو المستوى الإنساني، ويجب أن نتعلم منهم ونقتدي بهم.