سفيرات ووزيرات
لا يكاد يمر شهر حتى ينعقد مؤتمر أو مؤتمرات تدعى إليها مصر للبحث في شئون الصحة، أو الزراعة، أو التعليم، أو الشئون الاجتماعية أو غير ذلك. ونحن نرسل إليها مندوبينا من الرجال فقط.
ولكنَّ مندوبينا هؤلاء يجدون عندما تطأ أقدامهم نيويورك أو بودابست أو لندن أو روما أن هناك مندوبات إلى جنب المندوبين من شعوب العالم يسألن ويدرسن ويناقشن.
ذلك لأن جميع الشعوب المتمدنة قد سبقتنا إلى تعليم المرأة وإلى رفعها إلى مستوى الرجال في تحمل الأعباء الوطنية ثقافيةً كانت أم اجتماعية أم صحية. وقد فتحت لها أبواب الوظائف الصغرى والكبرى داخل بلادها وخارجها.
فإن مصالح البريد مثلًا في جميع الأقطار الأوربية تعمل فيها النساء، آنسات وزوجات، أكثر مما يعمل الرجال. بل ليس غريبًا أن تدخل مكتبًا للبريد في أحد الأحياء في باريس أو لندن فلا تجد رجلًا واحدًا، ولكنك تجد نحو عشر نساء يقمن بجميع الأعمال البريدية.
وكذلك الشأن في التعليم الابتدائي، فإن المرأة تكاد تحتكره دون الرجل. وليس غريبًا أن تجد مليون معلمة في أوربا ونحو هذا العدد بل أكثر في القارة الأميركية. وقد اتضح أن المرأة تحسن تعليم الصبيان الصغار أكثر مما يحسنه الرجل؛ لأن قلبها ينطوي على إحساس الأمومة.
وتتدرج المرأة في الوظائف الحكومية إلى أن تبلغ أعلى المناصب. كما أن هناك من الأعمال الحرة ما يستوعب الملايين من النساء.
وكل هؤلاء النساء منتجات.
إن شعوب أوربا تنتج الإنتاج العظيم لأن رجالها ونساءها يعملون في المصانع والمتاجر والوظائف. أما نحن، الأمة العربية، فلا ينتج عندنا غير الرجال، والقليل جدًّا من النساء؛ ومن هنا ضعف إنتاجنا ثم فقرنا الأسود الشامل.
نحن فقراء لعدة أسباب، منها سبب واحد يرجع إلى أننا نمنع النساء، آنسات وزوجات، من الإنتاج. ونحن — في مصر — نبلغ ٢٢ مليونًا (١٩٥٥) منهم على الأقل نحو سبعة ملايين آنسة أو سيدة لا يعمل في الإنتاج العام منهن سوى أقل من ربع مليون في المدن. أما في الريف فإن بعضهن يعملن في الزراعة على الطرق الغشيمة القديمة.
ونحن في هذا العالم في «تنازع بقاء» مع الأمم الأخرى. فإذا كانت هذه الأمم تستخدم نساءها مثل رجالها في الإنتاج العام، فإننا لن نبلغ شأوها في الثراء إلا إذا استخدمنا نساءنا أيضًا مثلها في الإنتاج. وهذا منطق لا نستطيع أن نفر منه.
وقد ارتفعت المرأة إلى مستوى الرجال في المناصب العليا إلا في مصر؛ ولذلك نحن نجد الوزيرات والسفيرات في جميع الأمم المتمدنة تقريبًا إلا في مصر. وكلما انعقد مؤتمر ظهرت النساء نائبات عن الهند أو أميركا أو بريطانيا أو غيرها إلا مصر، فإنه لا تظهر فيها امرأة نائبة عن وطننا.
وقد كانت هذه الحال ملحوظة في مؤتمر باندونج الأخير.
وللمؤتمرات قيمة في الدعاية. وأية دعاية أسوأ من أن تكون لكل أمة مندوبات إلا مصر؟
ألا يعيبنا أن تساوي أمم آسيا وأميركا وأوربا بين الجنسين ونحن نميز الرجال على النساء؟
كانت النظم الإقطاعية عندنا تجعل المرأة بعيدة عن المجتمع وعن الاشتراك في شئون الحكم. وقد زالت النظم الإقطاعية ولكن بقيت العواطف التي نشأ الشعب عليها قبل زوالها. ومن هنا هذه الكراهية، أو هذا النفور، من التسليم بمساواة المرأة بالرجل وتكليفها الواجبات التي يكلف هو مثلها.
وقد كانت وزاراتنا الإقطاعية القديمة قبل الثورة، تنفر كل النفور من المساواة بين الجنسين. وأيما اقتراح كان يقدم إليها بشأن تعيين امرأة سفيرة أو وزيرة لا يمكن أن يلقى غير الاحتقار والاستهزاء والإهمال.
ولكننا الآن في عصر جديد نقول فيه بديمقراطية الشعب.
ديمقراطية الشعب كله، وليس ديمقراطية نصفه ثم إهمال النصف الآخر.
لقد كان الاستعمار ينكر الديمقراطية على رجالنا.
ولكن رجالنا، أو بعضهم من الجامدين المتخلفين، ينكرون هذه الديمقراطية على نساء مصر، على نصف الشعب المصري.
وهذا مع أن أي منطق يقول، بل يصرخ، بأنه لا يمكن ارتقاء شعب إذا كان نصفه فقط هو الذي يتولى الأعباء ويكلف الواجبات الوطنية والاجتماعية. ولذلك سنبقى متخلفين اجتماعيًّا، وفقراء اقتصاديًّا، إلى أن نساوي بين الجنسين ونجعل المرأة تنتج كالرجل سواء وتمارس حقوقها الاجتماعية والدستورية والمدنية مثله سواء.
يجب أن ننهض بالشعب كله وليس بنصفه.
ثم يجب ألا نهمل الرموز.
إن ارتقاء المرأة رمز لارتقاء الشعب.
وقد حفظ الأوربيون هنا كلماتٍ ورموزًا سيئة، بل غاية في السوء. ولذلك يجب أن نلغيها ونمسحها من رءوسهم بأن نجعل منا وزيرات، وأيضًا سفيرات، كما فعل نهرو؛ حتى يراهن الأوربيون فينكروا ما تعلَّموه عنا.
إني أستطيع أن أذكر أسماء خمسين بل مائة سيدة مصرية يمكن أن نجد فيهن مَن تليق لعمادة الكليات أو إدارة الجامعات، ومَن تليق بأن تكون سفيرة أو وزيرة. بل أزيد على ذلك بأن أقول بأنه لو كانت لنا وزيرات في الحكومات السابقة للثورة لما تردينا إلى الهوة التي أردانا فيها فاروق ووزراؤه من الإقطاعيين الذين كان ينشد معظمهم من الوزراء شراء الضياع وبناء القصور وشراء السيارات والذهبيات، والاصطياف في الإسكندرية أو فيشى.
إن النساء أقنع وأقصد.
إن كلمة «مجتمع» في مصر لا تؤدي المعنى الذي يُفهم من المجتمعات الأوربية ذلك أن النساء والرجال يجتمعون هناك فيتألف منهم «مجتمع». ولكننا نفصل في مصر بين الجنسين. وأولى بنا لهذا السبب أن نسمي مجتمعنا «المنفصل» حتى ينطبق اللفظ على المعنى.
إننا نعيش في حضارة قد انتهت بالتسليم بالمساواة بين الجنسين ويمكن أن نقول إننا لا نعيش في هذه الحضارة ولكننا ننشد هذا الأمل. وهذه الحضارة أجزاء لا تتجزأ، فلا يمكن أن نأخذ بجزء أو أجزاء منها ثم نترك الباقي.
وقد توافت أجزاء هذه الحضارة ووسائلها إلى جعل البيت خاليًا من الواجبات المنزلية التي كانت تحيا فيها جداتنا. وهي واجبات كانت تشغل المرأة عن الاهتمامات الاجتماعية والسياسية والثقافية؛ إذ كان عليها أن تطبخ وتغسل وترشح الماء وتكنس. بل كان عليها أحيانًا أن تعجن وتخبز وتخيط ملابسها وملابس أطفالها. أما الآن فإن جميع هذه الواجبات قد أحيلت إلى غيرها، أو هي قد صارت تؤدى في يسر وسرعة بحيث تقوم الدقيقة مقام الساعة، وبحيث لم تعد تُجهد المرأة أقل الجهد. وكذلك أصبحت المرأة، من الطبقة الثرية والمتوسطة، عاطلة في البيت أو شبه عاطلة، وهذه الحال نفسها هي التي حملت المرأة، في أوربا وأميركا، على الخروج إلى المصانع والمتاجر وعلى أن تنشد بناء شخصيتها في آفاق المجتمع الواسعة بدلًا من أن تقعد عاطلة في البيت لا تجد عملًا تؤديه.
وقد أصبح كثير من سيداتنا في مثل هذه الحال. وقد تعلمن واختلطن بالمجتمع، ولكننا حرمناهن من القيام بالواجبات الوطنية وتركناهن في عطلهن يرفهن عن أنفسهن أحيانًا بالعبث لأنهن لا يُجدن الجِد، أو يقضين وقتهن في سأم وسخط وهن معذورات.
والجِد هو أن نقدم لهن الفرصة لخدمة بلادهن بالعمل المنتج.
والفرصة الصارخة لنا في الوقت الحاضر هي أن نعين المرأة الكفء للعمل الكفء، وأن نستغل الجديرات كي يمثلننا في المؤتمرات والسفارات والوزارات، حتى يخدمننا وحتى يُزلن ما يتهمنا به الأوربيون من التهم التي تجرح كرامتنا الوطنية، والتي تجعلنا نبدو أمام العالم المتمدن كما لو كنا فصيلة منفصلة من المجتمع البشري.
وهنا خبر أرجو أن يكون بُشرى.
هو الخبر الذي ذكرته الصحف هذا الصباح بأنه سيكون لنا برلمان في يناير القادم يمثل الشعب المصري.
إن برلمانًا مصريًّا يجب أن يحتوي الأعضاء من الرجال والنساء.