الرقص والشخصية
الرقص إلى المشي هو كالشعر إلى النثر.
هو إيقاع له قوافيه، بل له قصائده.
وكما يطرب الصبي ويثب ويمرح، ويصفق بيديه، كذلك يطرب الشاب أو الفتاة فيرقصان في إيقاع.
والذي جعل الرقص مكروهًا في مصر أنه كان قد انحط وسفل حتى صار حركات جنسية يشمئز منها الرجل السامي والمرأة السامية. والذي أحدر الرقص المصري، بل الشرقي كله، إلى هذه الحال التعسة هو تفشي الرق.
فإن هذا النظام كان يحيل المرأة التي تُشترى بالقرش والمليم إلى أداة إغرائية تحرك الشهوات الجنسية عند سيدها. فلما زال الرق بقيت عندها تقاليدها فيما كنا نسميه «الرقص الشرقي» أو «الرقص المصري».
والحقيقة أنه لم يكن «مصريًّا»، فإن الرقص المصري لا تزال رسومه ونقوشه في أحجار المعابد المصرية القديمة، وهو حركات رياضية كان يقوم بها الرجال والنساء احتفالًا بمحصولات الأرض، أو بالحرب، أو في الجنازات.
كان جِدًّا في جِد، وكان يؤدى في طرب الفرح وفي طرب الحزن.
وقد استطاعت الراقصة المشهورة «أيزيدورا دنكان» أن تحيي الرقص المصري وأن تؤسس له مدرسة. ووجدت الإقبال والتقدير.
ومع أن كلمة رقص يونانية، كما يتضح ذلك في كلمة أوركسترا، فإن العرب كانوا يرقصون. ولا يمكن إلا أن نعتقد ذلك لأننا نجد أن داود النبي كان «يرقص للرب» كما جاء في التوراة.
وقد كان الرقص «المصري» شناعة من الشناعات، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه؛ إذ لم تكن الراقصة تمثل سوى الشهوة الجنسية، وكانت تمثلها في إسراف وقح. ومن هنا كانت نظرتها، وهي ترقص، إلى أسفل، كي تبرز محاسنها بل مقابحها السفلى.
كانت تمثل الأَمَة بعد إلغاء الرق. تلك الأَمة التي كانت تُعلَّم وتُدرَّب على هذه الحركات التي كانت تؤذي الإحساس والعقل عند الرجل الذي يحب الجمال في الإنسان، وليس الحيوان في الإنسان.
وارتفاع الرقص إلى مقام الفنون الجميلة في أوربا، واختصاص المرأة بالقسط الأكبر منه، هما برهان على الارتقاء الاجتماعي؛ أي الارتقاء الفني في المجتمع.
وقد وصفت الرقص المصري بالانحطاط لأن الراقصة تنظر إلى أسفل؛ أي إن إحساسها هنا جنسي.
ووصفت الرقص الأوربي بالارتقاء لأن الراقصة تنظر إلى أعلى؛ أي إن إحساسها هنا فني.
وأستطيع أن أقول مع الحزن والأسف إن النظرة الاجتماعية للمرأة في أوربا قد أوجدت الرقص الأوربي في سموه ونشاطه، كما أقول إن النظرة الاجتماعية للمرأة في البلاد الشرقية والعربية قد أوجدت هذا الرقص الذي نكرهه والذي تخلصنا منه.
ألسنا نقول في مصر، وفي الشرق كله، بسيادة الرجل على المرأة، وأن المرأة للبيت الذي هو مكانها «الطبيعي» وأن مهمتها الأولى هي الزواج. وأن دعوة الاستقلال التي تدعوها الناهضات من النساء هي دعوة زائفة بل كافرة؟
هذه النظرة للمرأة هي التي توحي إلينا بأن مهمتها الجنسية هي كل شيء، وأن الرقص يمكن أن يكون جنسيًّا. ونسرف بعد ذلك إلى حدود الشطط فيرضى بعضنا بأن يجد في الرقص المصري معاني جنسية نشمئز منها.
ولكن المرأة الأوربية التي استقلت، والتي عملت وكسبت واشتركت في المجتمع، تجد أن لها كبرياء تمنعها من أن تمثل هذا التمثيل الجنسي السافل.
- الأولى: أن الرقص ارتفع إلى مقام الفنون الجميلة في أوربا فصارت الفتيات من غير المحترفات للرقص يرقصن.
- والثانية: أن الرقص انخفض إلى مقام التهتك والتبذل عندنا حتى اضطررنا إلى مقاطعته وإلغائه.
وأنا لا أقول بالرقص للسيدات المتزوجات، ولكني أقول به للآنسات وللشبان؛ وأعني بالطبع الرقص الأوربي.
ذلك أن لهذا الرقص تأثيرًا كبيرًا، بل كبيرًا جدًّا، في تكوين الشخصية، شخصية الشاب وشخصية الفتاة.
فإن شبابنا يعيشون في مجتمع انفصالي يفصل بين الرجل والمرأة، أي في مجتمع غير اجتماعي؛ وهم لذلك لا يحسنون اختيار الزوجة، كما أن الزوجة لا تحسن اختيار الزوج.
إذ كيف يحسن أحدهما ذلك بلا اختلاط سابق؟
ولكن الرقص يدرب كلًّا منهما تدريبًا اجتماعيًّا على المؤانسة والشهامة والرشاقة، كما أنه سبيل إلى التعارف.
وأخيرًا يجب أن نذكر، ولا ننسى أبدًا، أن الراقص لا يمكن أن يقع في الشذوذ؛ لأن الرقص يعوِّده الاتجاه نحو المرأة، والمرأة فقط. فهو يسدد نظرته الجنسية نحو هدفها الطبيعي. وكذلك الشأن في المرأة.
ولكن الشاب الذي يحيا نحو ٢٥ أو ٣٠ سنة، وهو لا يختلط بالجنس الآخر، ولا يرقص، فإن احتمال سقوطه في الشذوذ كبير جدًّا.
الموسيقى والرقص في أوربا يعدان من تقاليد الشعب، وكلاهما إيقاع. إيقاع الصوت وإيقاع الحركة.
ولكلٍّ منهما مركبات تنتقل إلى كيان الشخصية الأوربية؛ فإن الرقص لا يتفق وانبعاج البطن وبدانة الجسم، ولذلك تحرص كل فتاة وسيدة على أن يكنَّ نحيفات. بل إنهن يفهمن الرشاقة على أنها قبل كل شيء نحافة: قامة عالية وخصر صغير وصدر ناهد.
وقلَّ أن تجد أوربيًّا أو أوربية لم يتعلم الموسيقى في صباه أو شبابه على إحدى الآلات التي أهديت إليه، أو لم يتعلم الرقص.
والرقص هو المرانة الابتدائية للحب. وهو أعظم ما يصد عن الشذوذ والعادات الخفية وعذاب الخواطر الجنسية المضنية والبعد عن الحقائق؛ إذ هو يجمع بين الشاب والفتاة في شهامة واحترام وطرب، فلا يتجه الشاب إلى الشاب، ولا تتجه الفتاة إلى الفتاة، وإنما يتجه كل جنس إلى الآخر. أي إن الرقص مرانة على السداد أو الصحة الجنسية.
وقد يقال إن في الرقص اشتهاءً جنسيًّا. وهذا صحيح، ولكن هذا الاشتهاء الجنسي نجده أيضًا في الشارع حين يرى الشبان الفتيات بلا حاجة إلى الرقص. ولكن الرقص يسدد ويصحح هذا الاشتهاء، حتى لا يكون مريضًا أو شاذًّا.
ترى لو أن أبا نواس كان يعيش في مجتمع مختلط يجد المرأة في السوق والمجلس والمكتب والمتجر، هل كانت غريزته الجنسية تزيغ ويفسد هو منها كما يفسد غيره من الشبان؟
إن أعظم ما يقي المجتمع من الشذوذ الجنسي، وهو أحط ما يمكن أن يتخيله إنسان في فساد الطبيعة البشرية، هو الاختلاط بين الجنسين. وأعظم مرانة على الصحة الجنسية هو الرقص.
هذا هو الرقص الازدواجي؛ أي الرقص العام بين أفراد الشعب.
ولكنَّ هناك رقصًا آخر تختص به الفنانات اللائي يقمن به منفردات أو جماعات، بل أحيانًا يختص به الفنانون من الرجال.
وهنا نرى الراقصة في صفاء بشرتها واندماج جسمها تتحرك عضلاتها في انسياب. وهي حين ترقص تثب وتمرح وتخطف على ساقين مندمجتين ترفس بهما كما لو كانت جوادًا يأرن ويمرح. وتحسبها وهي في اندفاق إيقاعها ويسر حركتها، وانطلاقها وارتقائها إلى أعلى، أنها ترقص في الهواء.
وفرق عظيم بينها وبين الراقصة المصرية؛ فإنها تنجذب نحو السماء وتنظر إلى أعلى في حين تنجذب الراقصة المصرية نحو الأرض وتنظر إلى أسفل، إلى كتفيها وبطنها وساقيها.
الأولى تنطلق وتثب في مرح الحياة وطرب الحركة ويقظة الجسم.
والثانية تنطوي وتتثنى في كسل الشهوة ونعاس الجسم وارتخاء الأعضاء.
ولذلك نحن نحس الشهامة حين ننظر إلى راقصة أوربية، ونحس الهوان والضعة حين ننظر إلى راقصة شرقية.
وللحكومات الأوربية معاهد لتعليم الرقص والموسيقى حبذا لو أن حكومتنا تدرسها، وتبعث البعثات من الشبان والفتيات المصريين إليها، وتنشئ مثلها في مصر.
هناك محك أو امتحان لحركات الرقص، هل هي مما يرفعنا أو يسقطنا؟ وذلك بأن نسأل، هل نرضى لزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا أن يؤدين هذه الحركات أم لا؟
إن أي إنسان يرضى لابنته أن تؤدي حركات الرقص الأوربية. كما أن أي رجل يرضى أن يؤدي حركات الرقص التي يؤديها الرجال في أوربا. ولكني لا أرضى لابنتي أو أختي أن تؤدي حركات الرقص المصرية.
أليس هنا البرهان الواضح على أننا غير راضين عن الرقص المصري؟
ثم أليست لنا فطنة تبعثنا على التأمل والتساؤل: لماذا لا يرقص رجالنا منفردين؟
ذلك لأن الرقص المصري لم يرتفع إلى مرتبة الجِد حتى يرضاه الرجال لأنفسهم؛ لأن الرقص جِد وإن يكن مرحًا. هو مرح في جد.
كنت قبل أربع سنوات (١٩٥٥) في فرنسا، وعرفت أن جامعة باريس تقيم حفلتين راقصتين كل أسبوع مساء السبت والأحد. وفي كلٍّ من هاتين الحفلتين تعزف الأوركسترا الجامعية على إيقاعات الرقص. ويحضر هذه الحفلات الطلبة والطالبات والمعلمون، بل وزير المعارف نفسه.
ولكنه رقص جميل، كله إيحاء إلى الشرف. وهو يعلم الجنسين، الشاب والفتاة، الرشاقة في الحركة، والرقة في الإيماءة والعذوبة في الكلمة. بل هي تدريب على الحب وتهيئة للزواج. ثم هو مرح وطرب من حق كل شاب وكل فتاة في الدنيا ألا يحرماهما.
ولكن الرقص الأوربي، فوق أنه متعة للشباب، هو أيضًا حاجة اجتماعية وصحية لهم. ولا يمكن مجتمعًا سليمًا، أن يستغني عن الرقص.
ولذلك أنا أنادي راقصاتنا: انظرن إلى أعلى حين ترقصن، وارقصن مثل «بافلوفا». وأنادي أساتذة جامعاتنا: علِّموا شبابنا وفتياتنا الرقص حتى تكفل به لهم الصحة الجنسية، وحتى يتهيئوا به للحب الجميل. أوجدوا لنا فرقة للباليه. أمتعونا وعلمونا وصححوا غرائزنا حتى لا نكون نُواسيين.