وزارة للعائلة
جاء في أحد الأخبار الخارجية أن إحدى دول الشمال الغربي في أوربا، لعلها سويد أو نرويج، قد قررت إيجاد وزارة للعائلة؛ وذلك على أثر ما اتضح في السنوات الأخيرة من تفاقم الطلاق بكثرة الراغبين فيه وتشرد الأطفال بسبب الكثرة في الطلاق.
وسوف يكون هدف هذه الوزارة بحث الأسباب التي تؤدي إلى التنافر بين الزوجين، ثم تشجيع الآباء على التناسل المعقول، ورد المكانة إلى البيت حتى يعود كما كان قبل السنوات الأخيرة مكان الولاء والحب والضيافة والتسلية والقراءة والطبخ الراقي والإقامة المريحة ونحو ذلك.
وأنا أؤثر استعمال كلمة عائلة التي اخترعناها قبل أكثر من نصف قرن على استعمال كلمة أسرة التي تشيع خطأ على أقلام كتابنا.
ذلك أن الأسرة غير العائلة.
فإن معجم «أقرب الموارد» يقول عن الأسرة إنها: «رهط الرجل وأهل بيته لأنه يتقوَّى بهم» ويصف الرهط بأنه: «قوم الرجل وقبيلته».
وواضح من هذه التعاريف أن كلمة «أسرة» لا تدل على المعنى الذي نعنيه منها في أيامنا. وقد سبق للأستاذ عبد القادر المغربي أن أوضح هذا قبل نصف قرن.
ومع ذلك نحن نحتاج إلى الكلمتين. فإننا نحب أن نحدد معنى «العائلة» بحدودها العصرية؛ أي إنها الزوجان وأبناؤهما لا أكثر. أما الأسرة فيبقى معناها كما هي؛ أي الزوجان وأبناؤهما والأخوال والأعمام؛ أي الرهط.
ولنا مصلحة كبيرة في التمييز بين الكلمتين؛ لأن هذا التمييز يزيد فهمنا وذكاءنا.
فنحن نرث أخلاقنا وعاداتنا الاجتماعية من العائلة فقط، أو كذلك في الأغلب.
ونحن نرث كفاءاتنا الجسمية والذهنية من الأسرة، أو كذلك في الأغلب.
وعلى هذا الأساس نقول إننا في حاجة إلى وزارة للعائلة، وليس للأسرة.
العائلة هي أساس المجتمع سواء كان هذا المجتمع يحيا على المبدأ الانفرادي في العيش مثل الأمم الغربية، فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، أم يحيا على المبدأ الاشتراكي مثل روسيا والصين وبولندا ويوغوسلافيا.
وعائلة حسنة تعني مجتمعًا حسنًا. وعائلة سيئة تعني مجتمعا سيئًا.
والتربية الصحيحة لكل إنسان، والتي لا يمكن أن تقارن بها أية تربية، هي التي نحصل عليها في السنوات الأربع الأولى من أعمارنا. أما بعد ذلك فلا نكاد نحصل على أية تربية ولو عمرنا إلى سن السبعين أو الثمانين. وهذه السنوات الأربع الأولى هي سنوات الطفولة مع الأبوين. ويجب أن تقضى في بيت يحوي إشعاعات من الحب والوئام والذكاء والطيبة والجمال. فإذا كان الزوجان يتنافران فإن الابن يشقى بهما بدلًا من أن يسعد. وتتكون في نفسه عقد تلازمه طيلة عمره وتتعسه.
وغضب الأم الذي يحملها على ترك الأب، وغضب الأب الذي يحمله على البقاء خارج البيت معظم وقته، ثم الطلاق الذي يجعل الأبناء يتامى أو يعرضهم للمعاملة القاسية، أو التي تخلو من الحب، على أيدي آباء غير آبائهم، كل هذا يحمل الأطفال على التشرد النفسي لأنهم يفقدون مكان الولاء والحب ويفقدون القدوة ويفقدون حقهم في الأبوة.
وهذا التشرد النفسي في الأطفال يحملهم على التشرد العاطفي، ثم المهني، ثم الجنوح إلى الإجرام، ثم السقوط.
نحن البشر نحتاج إلى روابط تربطنا بهذه الدنيا. وأمتن هذه الروابط هو الأم، ثم الأب؛ أي العائلة. ثم هناك روابط أخرى نعرفها بعد أن يكتمل شبابنا، مثل الثقافة والإنسانية والدين والشرف … إلخ. ولكن إذا فقدنا الرابطة العائلية بطلاق الأبوين، ونحن في الطفولة، فإننا في حكم المتشرد الذي لا يرتبط بأي رباط عاطفي أو ذهني. ولن تنفعه الارتباطات الأخرى، بل هي لا تنشأ.
وقد يكون التجاء الأب إلى زوجة أخرى زيادة على زوجته الأولى مساويًا في المساوئ والأضرار للطلاق. بل أحيانًا يزيد؛ لأنه يُحدث تفاوتًا في المعاملة يحسه الطفل، كما يثير الشجار بين الزوجين، ويجعل من البيت مكانًا للقلق عند الطفل.
وهو قلق يحسه الطفل ويجد أسبابه وهو صغير، ولكنه يحسه ولا يعرف أسبابه بعد ثلاثين سنة فلا يفهم منه إلا أنه مريض شاذ يحتاج إلى العلاج النفسي.
الطلاق وتعدد الزوجات هما كارثة المجتمع المصري؛ إذ ليس لنا عائلة لوجودهما. والعائلة هي الأساس الذي تبنى عليه المجتمعات.
ونعني عائلة ثابتة لا تتزلزل بمتوسط مرة كل خمس أو عشر سنوات بالطلاق أو بزيادة زوجة أخرى تحيل البيت إلى مكان للأسرة (أي الرهط)، وليس للعائلة، أي الزوجين وأبنائهما فقط.
نحتاج إلى وزارة للعائلة تكون وزارة التموين الحاضرة جزءًا منها بل جزءًا صغيرًا؛ لأن اهتمامنا بالأكل يجب أن يكون صغيرًا إلى جنب اهتمامنا بجعل البيت هنيئًا في شئونه الأخرى، وخاصة شأن الحب بين الزوجين، وشأن الحب بين الأبوين والأبناء، وشأن المكافحة للطلاق وتعدد الزوجات، وشأن تسهيل الزواج بين الشبان والفتيات، زواج بلا مهر أو أثاث. إننا نحتاج إلى «بيت» يتألف من أبوين وأبناء وحب وثقافة وضيافة. ولا نريد أن نقنع بأن نقيم في «منزل» للأكل والشرب.
ومع ذلك سوف يكون لوزارة العائلة أكبر الاهتمام ببناء المنازل. وأكبر الاهتمام بصحة الأفراد في العائلة، وأكبر الاهتمام بالشيخوخة عندما يسن الأبوان ويعجزان عن الكسب.
بل يجب أن نهتم بالعائلة قبل أن نبدأ، وذلك بتعليم الشبان والفتيات وقت عزوبتهم؛ أي قبل الزواج، تلك التفاصيل الدقيقة السامية عن الحب والحياة الزوجية وشرف الأمانة الزوجية وجمال الجسم وجمال النفس. ويجب أن نعرفهم بما يحتاجون إليه من معاني الوراثة والبيئة والمرض الوراثي … إلخ.
وبكلمة أخرى يجب على وزارة العائلة أن تؤلف كتابًا عن الحب والسعادة بين الزوجين.
ثم عليها أن تؤلِّف كتابًا عن الطبخ.
بل ماذا أقول؟ لقد ألَّفت إحدى حكومات أوربا هذا الكتاب وكلَّفها مئات الألوف من الجنيهات وباعته للعائلات، أجل للعائلات، حتى تستطيع ربة البيت أن تحسن الطهو. ولكن، وهنا القيمة العظمى، الذين أشرفوا على تأليف هذا الكتاب أطباء لا طهاة، أليس هذا حسنًا؟ يجب أن نتذوق الطعام بعقولنا فنختار الصحيح السليم الذي يغذو، ولا نتذوقه بألسنتنا وأفواهنا فقط فنختار الحلو اللذيذ الذي قد لا يغذو أو لا يكون سليمًا.
إن وزارة للعائلة في مصر يمكن أن تشتغل بمائة شأن وشأن. وهي تحتاج إلى موظفين متمدنين من العلميين والسيكلوجيين والفلاسفة والقانونيين والاجتماعيين هدفهم جميعًا: السعادة لأبناء مصر.
ولكن مركز المرأة في العائلة لا يزال دون مركز الرجل. فإن سيادة الرجل عليها، وإطلاق حريته في الطلاق وتعدد الزوجات، قد جعل مكانتها الاجتماعية منحطة كما جعل مركزها العائلي مزعزعًا لا يستقر. وهذه الحقوق التي يستمتع بها الرجل استمتاعًا مطلقًا استبداديًّا يؤكد سيادته عليها إذ هو يشهر عليها سلاحًا هي عزلاء منه.
واعتقادي أن انتصار المرأة في التعليم، ثم في الميادين الاقتصادية المختلفة، سيضطر الرجال في مصر إلى الاعتراف بالمساواة المطلقة في الحقوق العائلية. ولن تكون هذه المساواة بالطبع ممارسة المرأة لحق الطلاق أو تعدد الأزواج كما يمارسها الرجال؛ فإن هذا هراء. وإنما المساواة سوف تتحقق بحرمان الرجل هذين الحقين.
وعلى كل رجل نبيل الذهن، وعلى كل امرأة تنشد الحق والعدل، أن يسعيا لإلغاء هذين الحقين عند الرجال. ونعني الإلغاء من حيث الحرية المطلقة للطلاق أو التعدد، ورد هذين الحقين إلى هيئة القضاء وحده في محكمة تنتظم في دستور الدولة العام.