هؤلاء الأمهات
يكاد القارئ لفرويد يحس كأن البيت مكان لعذاب الطفل في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من عمره. وهو عذاب نفسي؛ إذ هو يحب أمه حبًّا جنسيًّا غامضًا، وهو لذلك يحس كراهية لأبيه وخوفًا منه. ثم تنشأ فيه المركبات المؤلفة من الحب للأم والكراهية للأب والإحساس بالخطأ لهذا الموقف، ثم الخزي والندم لهذا الإحساس.
وتحيا معه هذه المركبات، وتتخذ ألوانًا أخرى وصِيَغًا أخرى وتتكون منها حوافز ودوافع في مستقبل العمر قد تنتهي بالدمار الأخلاقي أو المرض النفسي في بعض الأحيان.
ونحس أيضًا، ونحن نقرأ فرويد وغير فرويد، كأن الطفل كتلة من الأنانية التي لا يخالطها أدنى بر. وأنه، لهذه الأنانية، شقي بالعلاقات القائمة بينه وبين أبيه وأخوته من ناحية، وبين أمه التي يريد أن يستأثر بحبها ولا يطيق أن يشاركه في هذا الحب أحد من ناحية أخرى.
وليس شك أن بعضًا من الأجزاء في هذه الصورة القاتمة صحيح. ولكن الذي لم يتنبه إليه فرويد أن الطفل في أنانيته وحيوانيته يتعلم من الحب الغامر الذي تضفيه عليه أمه حبًّا آخر يشبه الإيثار وينأى عن الأنانية والحيوانية.
ذلك أن حب الأم لطفلها إيثار. والطفل يستجيب إلى هذا الحب الإيثاري بحب إيثاري مثله، لا لأمه فقط، بل لإخوته ولجميع من يتصل بهم من الناس. بل هو ينشأ على هذا الحب الإيثاري ويعامل المجتمع به لأنه رأى قدوته قبل ذلك في أمه.
ونحن نفرض هنا بالطبع أمًّا حبيبة إلى قلبه، راشدة، عاقلة، كما نفرض وسطًا عائليًّا حسنًا من الأخوة إلى الأب إلى الأقارب إلى الزائرين إلى الخدم، إلى غيرهم ممن يؤلفون أحيانًا المُركَّبات — أي العقد — للأطفال من حيث لا يدرون. كما نفرض أيضًا سعة في العيش بحيث لا يحتاج الأطفال إلى أن يمارسوا الخطف والاغتصاب والسرقة لضيق العيش.
إن مركز الأم بالدراسات الحديثة يكبر في المجتمع، وقيمتها تعلو على أية قيمة في التربية.
الأم هي الأصل في الحب البشري العام. وهي الأصل في الإحساس الإنساني.
الأم هي الأصل للمجتمعات البشرية.
هذا هو ما علمناه بريفولد في كتابه «الأمهات».
أجل، نحن نولد حيوانات كما يقول فرويد، نحس الأنانية والغيرة وننزع إلى الخطف والاستيلاء والنهب. ولكن الأم تعلمنا بحبها الإيثاري لنا، حبًّا إيثاريًّا آخر لها ولجميع من نعرف أو نختلط بهم من الناس.
يحدثنا بريفولد عن الإنسان قبل أن يعرف الزراعة ويستقر على بقعة من الأرض لا يغادرها، فيقول: إن الناس كانوا يجوبون الأرض في البحث عن الجذور الطرية أو الفواكه البرية، أو يتربصون لصيد طائر أو مطاردة حيوان. ولم يكن هناك زواج بحيث يلتزم الرجل امرأة لا يتجاوزها إلى غيرها؛ إذ هو لم يكن يدري أن علاقته بها هي علة التناسل.
ولذلك كان الأطفال يلزمون الأم ولا يعرفون الأب، وكانوا يلتصقون بها في حب وولاء ويجدون على ثدييها لبنًا وحنانًا ثم يجدون منها بعد ذلك غوثًا وإرشادًا.
وهذا هو المجتمع البشري الأول: أم تجوب الأرض مع ثلاثة أو أربعة أطفال يسيرون خلفها ويلعبون حولها تربطهم جميعًا صلة الحب. ولا يكاد يكون للأب هنا مكان.
ألا ترى أننا ما زلنا نسمي الأقارب «ذوي الأرحام»؟
ذلك لأن صلات القربى التي عرفناها أيام التجوال والبحث عن الطعام هي صلة الرحم؛ لأننا كنا نلتصق بالأم.
ومن الرحم اشتقت في اللغة العربية كلمة «الرحمة».
فالرحمة هي الصفة التي تربط ذوي الأرحام؛ أي ذوي القربى.
ثم انتقل هذا المعنى الكريم إلى أفراد المجتمع.
انتقل من الأم إلى المجتمع إلى الإنسانية.
وينبهنا بريفولد إلى الخطأ الشائع، وهو الاعتقاد بأن منشأ الحب هو الاشتهاء الجنسي. ويقول إن هذا الاشتهاء أقرب إلى العدوان منه إلى الرحمة والرقة والتعطف.
ذلك أن مرجع الحب هو تعلقنا بالأم.
بل إن هناك صيغة للجنون يلتقي بها السيكولوجيون من وقت لآخر هي أن المريض يحب أن يعود إلى الرحم حين لا يطيق هذه الدنيا، وحين ترهقه الهموم وتصدمه الأحداث. وهو يطوي جسمه كما لو كان جنينًا في الرحم.
وشيء من هذا الإحساس نحسه نحن الأصحاء نحو البيت الذي يمثل لنا في أمنه وطمأنينته وعزلته وظلمة أركانه، يمثل لنا الرحم التي كنا آمنين فيها قبل أن نخرج إلى هذه الدنيا المقلقة المخيفة.
أي إننا حين نصبو إلى البيت وهناءته وسعادته إنما نصبو إلى حماية الأم وسكينة الرحم؛ إذ هو رمزهما في عقلنا الكامن.
ولا تزال ذكرى الأم تؤنس حياتنا بعد موتها، وتثير في أنفسنا إحساسات الرحمة والحب والشرف والإنسانية. ولا يستطيع إنسان أن يكون دنسًا أو خسيسًا إذا مثلت أمه في ذاكرته.
ونحن نعيب على الأمهات تدليلهن للأطفال، وهذا حق إذا كان هذا التدليل مسرفًا. ولكن من منا لا يذكر بالهناء والفرح تلك اللحظات التي وجد فيها من أمه، وهو طفل، بعض هذا التدليل؟
وأكاد لذلك أن أقول إن شيئًا من التدليل يمكن أن يعد حسنًا؛ وذلك كي يبقى رصيدًا نفسيًّا نذكر به الأم ونصبو به إلى أيام طفولتنا ونشكر للأقدار ما أسدت إلينا من سعادة.
وإني لأعرف شيوخًا وكهولًا في الخمسين والستين من أعمارهم إذا ذكروا أمهاتهم ضحكوا ومرحوا كما لو كانوا أطفالًا. وعندما أتأمل هذا السلوك أكاد أتساءل: هل نحن نخرج من المهد؟ ألا نعيش فيه طيلة حياتنا من حيث لا ندري؟ أليست عواطفنا ونحن في الخمسين أو الستين من العمر تعود إلى البذور التي زرعتها الأم في قلوبنا أيام طفولتنا؟
وزرعتها في شيء من التدليل المحبب؛ ولذلك بقيت ثابتة محببة إلى نفوسنا.
إن كثيرًا من الكتَّاب يتحدثون عن السعادة ويذكرون ما يجب وما لا يجب لتحقيقها، وكأنهم ينسون أن الذي يزرع بذور السعادة هو الأم، وأن ذكرياتنا للأمومة هي أكبر دعائم سعادتنا، وأن كثيرًا مما نرى في الدنيا إنما نراه بعينيها، وأننا نشهد على الأشياء والناس بضميرها.
وأكبر كارثة تقع بإنسان أن تموت أمه أو تنفصل منه بطلاق وهو طفل؛ إذ هو يحيا بعد ذلك بلا ذكريات حميمة، وبلا روابط أصيلة تربطه بالمجتمع، وقد ينجح في إيجاد روابط جديدة حين يجد أمًّا أخرى قد بسطت عليه أمومتها.
ولكنه، إذا لم يجد هذه الأم المستعارة، يبقى شقيًّا؛ إذ هو يرى الأثرة ولا يعرف الإيثار، ويجد الخاطفين ولا يجد العاطفين، وتغيب عنه رمزية البيت. كما أنه يعجز عن أن يضفي على زوجته ذلك الإحساس الإيثاري الذي كان يضفيه على أمه.
وعلى ذكر الزوجة وعلاقتها بالأم — أي أم الزوج — نحتاج إلى بيان منير.
ذلك أننا حين نكون على ثديي الأم نحب وجهها ونشغف به، وننشأ ونحن نعد هذا الطراز من الوجه خلاصة الجمال النسوي. فإذا بلغنا ونضجنا صرنا لا نلتفت إلى أفراد الجنس الآخر إلا إذا كنَّ على طراز أمهاتنا في الوجه والقامة، بل في الصوت والإيماءة.
ولذلك كثيرًا ما نجد زوجين يتشابهان إلى الحد الذي نتوهم منه أنهما شقيقان؛ وذلك لأن الزوج عندما شرع يتوسم الوجوه أيام الخطبة ترشحًا للزواج لم يكن يجد من صور الجمال سوى تلك التي كانت تشبه أمه.
وما دام هو نفسه يشبه أمه بحكم الوراثة فإنه يختار فتاة تشبهه هو ومن هنا هذا التشابه الكبير بين الزوجين.
إن صورة الأم التي عرفناها أيام الرضاع تبقى ماثلة في أذهاننا طيلة حياتنا.
ليس أبعث في النفس للوعة والشجن من رؤية الأمومة المنهوكة؛ حين نصادف أمًّا قد تجاوزت الخمسين وقد جف ثدياها وانخسف صدرها فإننا هنا نقرأ على وجهها وتفاصيل جسمها تاريخًا إنسانيًّا، هو الجمال الذي فني، والصحة التي تهدمت، والحيوية التي ذبلت. ونوقن أن كل ذلك قد ذهب، جمال وصحة وحيوية، في خلق أطفالها.
إن الأمهات يتمزقن كي يخلقن.
ولقد رأيت صورة الأم مرة واحدة فلم أنسها.
هي أم الرسام الأميركي هويسلر. رسمها ليس كما كان يراها فقط، بل كما كان يشهد ضميره عليها. رسم نفسها أكثر مما رسم جسمها.
رسمها قاعدة على كرسيها، جافة شائنة، ولكنها راضية عن حياتها الذاهبة؛ لأن ابنها يمتلئ حيوية أمامها، ويقوم ويقعد، ويتأملها في فرح، ويحاول أن يخط بريشته خطوط الأمومة التي كان يحس انطواء جسمها عليها.
أليس في نفس كل إنسان هذه الصورة يرسمها لأمه في قلبه؟
إني كثيرًا ما وجدت شعراء كان شعرهم تلفيقًا وحياتهم تمليقًا، ولكن ما هو أن كانوا يذكرون أمهاتهم حتى كانت تنبجس من قلوبهم العواطف الإنسانية، وحتى كانت تغلي أرواحهم لوعة وشجنًا وطربًا.
إن الأدب هو التبلور لأخلاق الأمة وخصالها، وأسلوبها في التعبير اللغوي، وإحساسها الفني نحو الأشياء والناس، وتعقلها المتزن للعيش وللحياة.
والأديب الحق هو الشخصية التي تتبلور فيها هذه الصفات على أعلاها وأجملها.
وكثيرًا ما أعجب بالأدب الأوربي لأن للأم فيه مقامًا عظيمًا. وما من أديب عظيم في أوربا إلا وهو يحدثنا الحديث الطويل عن أمه وطفولته التي هنئ بها وعاش يأتنس بذكرياتها.
لقد كتب مكسيم جوركي عن أمه وجدته أكثر من مائتي أو ثلاثمائة صفحة، وأخبرنا بأنه كان يعتقد وهو طفل أن جدته قديسة وأن جثمانها لن يبلى في القبر. وله قصة تدعى «الأم» تقرب من ألف صفحة.
وكثير من القصص الأوربي هو تراجم لمؤلفيها يذكرون فيها حياتهم أيام طفولتهم في أسلوب قصصي.
كان أناطول فرانس على فراش الموت بعد أن بلغ الثمانين، وكانت آخر كلمة نطق بها وودع بها الدنيا: ماما.