نساؤنا المتعطلات
أعظم ما يكسبنا الكرامة الذاتية بحيث نصمد للحوادث ونتغلب على الصعوبات، هو إحساسنا بأننا ننتج وأن لنا قدرة على أن ننفع ونخدم، وأن لنا براعة أو مهارة في عمل معين، ولنا نشاط نؤديه ونُسرُّ به. وقد لا نكسب شيئًا من هذا الإنتاج، ولكن إحساسنا به يجعلنا نحس بكرامتنا الذاتية.
فإذا أضيف إلى إنتاجنا كسب مالي نعيش به، فإن كرامتنا لن تكون ذاتية فقط بل اجتماعية أيضًا؛ لأن المجتمع الاقتنائي الذي نعيش فيه يحترم القيمة المالية لكل إنسان، وبناؤه يقوم على هذا الأساس قبل أن يقوم على الإنتاج أو الخدمة؛ ولذلك هو يحترمنا، في أغلب الأحوال، بقدر نجاحنا في جمع المال.
وحين نفقد، نحن الرجال، القدرة على الإنتاج والقدرة على الكسب؛ أي حين نعطل عن العمل، نحس أننا قد فقدنا كرامتنا الذاتية وكرامتنا الاجتماعية معًا. وهذا الإحساس يُتعسنا لأن الإنسان اجتماعي، وهو يحب ويجهد على الدوام كي تكون له مكانة اجتماعية مرموقة. وكثيرًا ما أرى المعطلين من الشبان في حال من الذهول الذي يقارب الجنون بسبب تعطلهم، وهم يحاولون أحيانًا تغطية هذا الإحساس بشتى ألوان النشاط السطحي أو المزور، أو حتى الإجرامي، كي تخف حدة توتراتهم الناشئة من التعطل والعقم.
وقد يكون للرجل الفارغ — أي المعطل — مال موروث يعيش منه، وهو يكسب منه الكرامة الاجتماعية؛ أي احترام الناس، ولكنه حين يتأمل نفسه لا يجد الكرامة الذاتية؛ إذ هو غير منتج، لا يصنع سلعة ولا يؤدي خدمة. وقد يدفعه هذا الإحساس إلى أن يكون غير اجتماعي أيضًا؛ أي يستحيل إلى كتلة مطبقة من الأنانية ينشد اللذات والمتع الشخصية فقط. وكثيرًا ما نجد بعض الوارثين على هذه الحال، أحاديثهم عن مباريات كرة القدم أو جياد السباق، أو اقتحاماتهم في باريس أو القاهرة، أو معاكساتهم لجيرانهم في الزراعة إذا كانوا من أثرياء الريف، أو نحو ذلك.
الرجل الفارغ الثري؛ أي المعطل الثري، هو أسوأ الطرز الاجتماعية للإنسان. وقد كان الإقطاعيون على هذا الحال في بلادنا، وكان فسادهم يتجاوزهم إلى فساد من يحيطون بهم. وكانوا يفسدون لأنهم معطلون فقدوا الكرامة الذاتية بسبب التعطل. ولو أنك فجأت واحدًا منهم وهو قاعد في استرخاء الكسل، لوجدت أفكاره وخواطره التي تشغله إما إجرامية مؤذية، وإما جنسية مهلكة، وإما سخيفة مضحكة. وهو طاقة متربصة للأعمال والملذات الشاذة أو المؤذية.
إن السلوك الاجتماعي الحسن يقتضي من كل فرد في المجتمع إنتاجًا حسنًا. والرجل الفاضل إنما يُقاس فضله بأنه أنتج أكثر مما استهلك، فإذا كان إنتاجه كبيرًا فإن فضله أيضًا كبير. أما إذا كان استهلاكه أكبر من إنتاجه فإنه عبء على المجتمع، وهو بمثابة السل الذي يتأكل جسمه وينقص كفاءته.
هذا هو مقياس الرجل الفاضل في عصرنا العلمي الفلسفي، وقل عنه ما شئت بعد ذلك، ولكنه فاضل لأنه عندما يموت سيكون المجتمع الذي عاش فيه أغنى بحياته مما كان قبل أن يولد. أغنى في الثراء النفسي أو الثراء المادي أو الثراء الذهني؛ أي أغنى لأنه وجد منه سلعة أو خدمة.
ولكن هذا الذي ذكرناه عن الرجل ينطبق بكل قوته على المرأة؛ إذ هي إنسان مثله لها كرامة ذاتية وكرامة اجتماعية، إذا أنتجت أحست بالكرامة، وإذا عطلت عن العمل المنتج أحست بكل ما يحسه الرجل المعطل، وأضرت المجتمع بكل ما يضر به الرجل المعطل حتى ولو كان ثريًّا.
والمرأة في بلادنا، في الطبقة المتوسطة المتيسرة وفي الطبقة العالية الثرية، لا تعمل ولا تنتج. وهي، بما لها من خدم يحرمونها حتى العمل في البيت، تقعد فارغة في المنزل. وهذا الفراغ يؤذيها؛ إذ هي تسأمه. وقد تعالج هذا السأم بضروب من العلاجات التي تهتدي إليها بتفكيرها أو بالأحرى بخواطرها السائبة.
فهي ترفه عن نفسها وتطرد هذا السأم بالإسراف في التدخين حتى تفقد جمالها وصحتها. أو هي تأكل كثيرًا لأن المضغ المستمر يجعلها تحس لذة طفلية سرعان ما تتملكها فتسرف في الشره حتى تسمن وتعود كتلة قبيحة من السمن. أو هي تلجأ من وقت لآخر إلى السرير للاسترخاء وتستسلم لخواطر جنسية مرفهة قد تنتهي بتراكمها وتكرارها إلى الوقوع في الإثم.
وفراغ المرأة — أي تعطلها — أسوأ من فراغ الرجل؛ لأنه هو يستطيع أن يشغله في نشاط اجتماعي، أما هي فلا تجد في مجتمعنا الانفصالي ما يتيح لها هذا النشاط، فهي تقعد في البيت تجتر خواطرها. ولا يمكن أن يؤدي هذا الاجترار إلى صحة النفس.
الرجل الثري الفارغ يختلط بالمجتمع في نشاط قد يكون سطحيًّا ولكنه يخفف عنه توترات التعطل. فهو يغشى الملاهي ويعشق السباحة، ويزور الأقطار الأجنبية، ويعرف المقاهي والأندية، وله أصدقاء يسامرونه في المقهى والنادي. ثم فوق هذا له حقوق في سياسة بلاده، فهو يقرأ الجريدة أو المجلة بإحساس المسئولية أو الطموح. وهو في كل هذا يجد الصحة النفسية، أو على الأقل لا يجد بواعث المرض النفسي.
أما المرأة الثرية الفارغة — أي المتعطلة — التي حرمناها الاختلاط بالمجتمع، فتقعد في البيت وحيدة منعزلة، قد تقرأ الجريدة أو المجلة ولكن شئون بلادها عندئذٍ لا تختلف من شئون الصين أو اليابان إذ هي محرومة الحقوق في هذه الشئون، فهي متفرجة غير مشتركة. ولذلك تستسلم لخواطر، بل هواجس، انفرادية أو جنسية أو إجرامية، كما تستسلم لعادات اجتماعية سيئة.
إن من حق المرأة المصرية أن تجد مثل نساء العالم المتمدن العمل الاجتماعي المنتج الذي يُشعرها أنها إنسان اجتماعي نافع.
إن هناك عشرات الآلاف من نسائنا الأرامل أو المطلقات أو العواقر اللاتي لا يعملن، بل يبقين في البيت معطلات. وبطالتهن مجموعة من المساوئ؛ إذ هي عقم ذهني وترهل جسمي. أو هي نشاط انفرادي ضار وسأم يضني حياتهن. وهن لهذا الوضع لا يجدن البواعث لأي نشاط اجتماعي، حتى الجريدة لا يقرأنها. لأنهن محرومات من حقوقهن في السياسة، فلا يجدن الاهتمام لبحثها، وإنما يقضين فراغهن في قراءة القصص الغرامية والمجلات الرخيصة.
وقراءة الجريدة، ودراسة الكتاب، كلتاهما نشاط اجتماعي وليس انفراديًّا؛ لأننا نقرأ وندرس المجتمع أو أشياء المجتمع، فإذا فصلنا منه فإننا لا نجد الباعث للقراءة أو الدراسة الجدية، ولذلك ليست نساؤنا المعطلات حبيسات البيت وإنما هن أيضًا حبيسات الجهل.
إن كل امرأة فاضلة يجب أن تعمل، وأن تحس أنها تنتج للمجتمع أكثر مما تستهلك. ولست أنسى هنا أن إنتاج الأبناء هو أعظم أنواع الإنتاج وأشرفه، ولكن المرأة لا تقضي عمرها كله، أو ٣٦٥ يومًا في السنة، في هذا الإنتاج. ثم هي قد تكون عاقرًا، فلمَ نحرمها أنواع الإنتاج الأخرى؟
إن زوجة العامل، وكذلك زوجة الفلاح، تعملان وتنتجان إما في المنزل أو في الحقل، بل كذلك تفعل الزوجة في الطبقة المتوسطة الفقيرة التي تُعنى بأبنائها وتدبر منزلها. ولكن الزوجة في الطبقة العالية الثرية، وكذلك في الطبقة المتوسطة المتيسرة، لا تجد ما تعمله في البيت. فيجب أن تعمل خارجه.
إن إحساس الإنتاج هو إحساس الصحة النفسية، وهو إحساس الخير الاجتماعي. وهو إحساس الصلاح في المعنى العصري. فيجب أن نجعل قلب المصرية وضميرها يحفلان ويشبعان من هذه الإحساسات البارة النبيلة.
إن إدارة متجر للبقالة، أو الفواكه، أو الأقمشة، أو الأزياء، أو الأجهزة الكهربائية الجديدة، مثل الثلاجات والراديوات والغسالات، هذه الأعمال وغيرها مما تمارسه المرأة المحترفة كالطب والتمريض والتعليم، يصل بين المرأة وبين المجتمع ويجعلها تختلط فتتربى وتعرف وتنمو.
وليس الاختلاط هنا للتفرج وإنما هو للإنتاج والخدمة؛ وعندئذٍ تتفاعل المرأة بالمجتمع، فينمو ذكاؤها بالتدريب وتكبر شخصيتها بالمسئولية وتزداد بصيرة في الدنيا وحكمة في العيش.
وقد تكون بعض الأعمال التي ذكرتها هنا متواضعة، ولكنها خير ألف مرة من بقاء المرأة بالبيت معطلة تتعفن وتركد ولا تنمو ولا تتربى بالمعرفة والاختلاط.
إن غايتنا في هذه الدنيا أن نكبر وننضج ولا يمكن ذلك للمرأة إذا كنا نحبسها في البيت ونعطِّل ذكاءها ونلغي شخصيتها. ومن حق المرأة أن تحيا الحياة الحرة المسئولة، ولا تمكن مسئولية بلا حرية حتى تجد الكرامة الإنسانية وحتى تعرف الآفاق الاجتماعية في الخير والشرف والخدمة والفهم.