نسب أبي مسلم
لم تكد ريحانة تخرج من الغرفة حتى رأت الضحاك قادمًا كأنه كان على موعد معها، فلما رأته بُغتت، ولكنها تجلَّدت وأشارت إليه أن يتبعها عن بُعد، وسارت إلى غرفتها في طرف القصر مما يلي الحديقة، فدخل في أثرها، فأغلقت الباب وراءه وهي تنظر إليه وتضحك، وكان وهو داخل قد دق رأسه في عتبة الباب لطوله، فوقعت العمامة على الأرض فإذا هو حليق الرأس، فدهشت لذلك وأرادت أن تسأله عن السبب، لكنه أسرع إلى العمامة فوضعها على رأسه وتقدم إليها وهو يقول: «يظهر أنك تحبينني يا ريحانة. بارك الله فيك.» وضحك وعض على شفته السفلى، وتشاغل بإصلاح عمامته، ثم ضحك ضحكة البَلَه وجعل يطرق بأطراف أنامله على أسنانه، فضحكت ريحانة من قوله وحركته، ثم عبست في وجهه عبوسًا يخالطه الابتسام وقالت: «إني أحبك لخفَّة روحك وعلوِّ همتك، وخصوصًا إذا أطعتني فيما سأخاطبك بشأنه الآن. هل عندك للسر مكان؟»
فقال وهو يضحك «عندي لكل سر مكان، وللأسرار عندي منازل وطبقات، وإذا كنت تشكين في ذلك، فأخبريني فأخرج حالًا.»
فضحكت وقالت: «ألا تكف عن مجونك يا رجل؟ أعِرْني أذنك الآن، وأصغِ لما أعرضه عليك بحياة الدهقانة وحرمتها عندك.»
فتجلد الضحاك، وأظهر الجد، وتأدب في موقفه وقال: «قولي. إني طوع أمرك.»
قالت: «هل تعرف ضيوفنا الليلة؟»
قال: «أيهم تعنين؟ هل تعنين أبا مسلم الخراساني الذي لا يعرف أباه، أم خالد بن برمك المجوسي؛ صاحب النوبهار، أم خازن أبي مسلم إبراهيم اليهودي؟»
فضحكت ريحانة من توسعه في تلك المعرفة، ولكنها استغربت قوله إن أبا مسلم لا يعرف أباه، فقالت: «وماذا تعني بقولك إن أبا مسلم لا يعرف أباه؟»
قال: «إذا كنت لا تصدقيني فاسأليه.»
قالت: «صدقتك، ولكنني أسألك عن كيفية ذلك.»
قال: «لو سألته هو عن نسبه ما عرفه. أما أنا فأخبرك أن والده فارسي؛ بعضهم يسميه مسلمًا، وبعضهم يسميه عثمان، وهو يزعم أن نسبه يتصل ببزرجمهر؛ الحكيم الفارسي المشهور. وهذه عادة كبار القوم عندنا؛ فمن كان منهم دنيء الأصل رفع جاهه إلى طبقات الأشراف، فإذا كان عربيًّا أوصل نسبه إلى أبي بكر أو عمر أو الحسين، وإذا كان فارسيًّا جعل نسبه من نسل بزرجمهر أو أزدشير أو كسرى أنوشروان. وأما الذي نعلمه من أمر أبي مسلم فهو أن أباه المذكور كان من أهل قرية ماخوان، التي تبعد عن مرو ثلاثة فراسخ. وكانت هذه القرية له مع عدة قرى، وكان في بعض الأحيان يجلب إلى الكوفة المواشي، ثم أنه ضمن خراج رستان فريدين على عادة الدهاقين في أيام هذه الدولة (بني أمية) فإنهم يقاسمون الحكومة أموالها بنفوذهم. فلما حان وقت الوفاء عجز عن تأدية ما عليه، فقبض عليه العامل وأرسل معه من يذهب به إلى الديوان في الكوفة. وكان عنده جارية يحبها فأخذها معه وهي حامل، واحتال في الطريق وفرَّ من الحرس نحو أذربيجان، وتوجهت معه، فمرَّا برجل اسمه عيسى بن معقل، فتركها عنده وذهب إلى أذربيجان حيث مات بها.
ثم ولدت الجارية صاحبنا أبا مسلم هذا، فرُبِّي في بيت عيسى المذكور وهو يحسب نفسه من أولاده. وكان عيسى هذا وأخوه إدريس في ضمان الخراج أيضًا، كما تقدم، فأصابهما ما أصاب ذاك من تأخير الخراج، فقبض عليهما عامل أصبهان وشكاهما إلى أمير العراقين يومئذٍ خالد القسري، فبعث من حملهما إلى الكوفة وسجنهما فيها. وكانا قد أنفذا أبا مسلم قبل القبض عليهما في مهمة، فلما رجع وعلم بسجنهما جاء إلى الكوفة وجعل يتردد عليهما في السجن.
فاستغربت ريحانة هذه الحكاية، ولكنها عادت إلى المهمة التي هي فيها، فقالت للرجل: «آمنَّا وصدَّقنا. والآن لا تخرج عما أحدِّثك فيه. انظر (ومدت يدها وأخرجت الصرة ودفعتها إليه) هذه هدية من مولاتك جلنار (فتناولها وهو يضحك) وأنا أريد أن أُكلِّفك بمهمة سياسية.»
فوضع الصرة في جيبه وهو يقول: «السمع والطاعة.»
قالت: «أنت تعلم أن مولاتنا الدهقانة مخطوبة لابن الكرماني؛ أمير الجند المحاصر لمرو، وستُزفُّ إليه قريبًا بإرادة والدها، ولكنني رأيت الليلة أن أجَلَ الكرماني قصير؛ لأن هذا الخراساني على ما يظهر سيغلبه. ولقد لحظت أنا منه أنه يميل إلى مولاتنا، وأظنه يريد أن يتزوجها، ولكنه لم يصرح بذلك. فالمطلوب الآن أن تبحث عن صحة هذا الأمر بدهاء وحسن أسلوب، بدون أن يشعر أحد بك، وأخبرني. ولا بد من معرفة ذلك الليلة.»
قال: «هذا أمر هين عليَّ. وإذا فرضنا أنه لم يحبها بعدُ؛ فإني أجعله يحبها. فما رأيك؟»
قالت: «إذا كان ذلك في إمكانك؛ فإن مكافأتك ستكون عظيمة جدًّا. وهذا سر عميق.»
فأطرق الضحاك برهة وقد بدا الجد في وجهه، ثم التفت إلى ريحانة وقال: «إني ذاهب الساعة؛ فادعي لي بالتوفيق.»
قالت: «امض. وفَّقك الله.»
فقال: «أمهليني ريثما أصلح من شأني أمام مرآتك.» ووقف أمام مرآة من النحاس معلقة على الحائط وحلَّ عمامته وجعل يلفُّها على نظام مضحك، وعبث بشعر لحيته وشاربه حتى تشعثَّ وانتفش، وخلع جبته وقلَبها، ولبسها بقفاها، ونزع نعليه وثبتهما في منطقته وسار حافيًا وهو يضحك كالأبْلَه وخرج.
أما أبو مسلم فإنه سار مع خالد والخدم يسيرون أمامهما بالشموع بين الأشجار والرياحين حتى وصلوا إلى بيت بجانب السور قد أضيء بالمصابيح، فدخلا وقد سبقهما الخدم فدلوهما على الأسرَّة المعدَّة للنوم ورجعوا، فأسرع أبو مسلم بنزع ثيابه وسلاحه، وأخذ يتأهب للنوم وهو لا يتكلم. وكان خالد في شُغلٍ من أمر جلنار وما شهده من جمالها، وما لحظه من نظرها إلى أبي مسلم، وما كان من جمود أبي مسلم بشأنها، وكان يتوقع أن يسمع منه شيئًا عنها، فإذا هو لم يَفُه بكلمة، فظل خالد ساكتًا وأخذ في خلع ثيابه وسلاحه، ولم يستغرب سكوت أبي مسلم؛ لعلمه أنه كثير السكوت لا يتكلم إلا قليلًا، ويندر أن يضحك.