إبراهيم الخازن
أما إبراهيم الخازن فإنه رجع بالأكياس إلى غرفة من ذلك المنزل بعيدة عن غرفة أبي مسلم وخالد. فلما دخل الغرفة أمر الغلمان أن يضعوا الأكياس وينصرفوا. وكان إبراهيم يهودي الأصل، وقد أسلم أبوه لا رغبةً في الإسلام، ولكن لأنه رأى في الإسلام سبيلًا إلى الكسب، وشبَّ إبراهيم هذا وهو أطمعُ من أبيه، وتزلَّف وتملَّق حتى تقرَّب من النقباء رجال الدعوة. وكان محاسبًا ماهرًا، فجعله أبو مسلم خازنًا له، وكان يقبض الأموال ويُقيِّدها رغبة في الكسب من ذلك. ولم يكن كسبه من التلاعب في عد النقود أو سرقة شيء منها؛ لأنه لم يكن يستطيع ذلك إلا نادرًا، ولكنه كان يكسب باستبدالها؛ لأن النقود كانت في ذلك الحين أنواعًا كثيرة، ومنها ناقص الوزن وكامله باختلاف ضاربيها.
وكان الضحاك يعرف إبراهيم هذا، ويعرف أباه من قبله، فلما كلفته ريحانة بتلك المهمة اعتزم أن يستعين بإبراهيم في تيسيرها عن طريق إغرائه بالمال؛ لعلمه بأنه يتفانى في سبيله. أما إبراهيم فلم يكن يعرف الضحاك، ولا فهم من أمره إلا أنه رجل مهذار خليع أو مجنون.
فمشى الضحاك في الحديقة والقمر قد تكبد السماء، وجعل يخطو الهوينى وهو يتطلع إلى النجوم كأنه يعدها، أو كأنه يقرأ صحيفة مكتوبة فيها، حتى دنا من غرفة إبراهيم وهو حافٍ، فوقف ببابها وتظاهر بالبَلَه وأذناه مُصغيتان، فتنسَّم حركة فأرهف سمعه، فسمع خشخشة ضعيفة. وكان أبو مسلم وخالد قد ناما، وانصرف الخدم، ولم يبق في الحديقة أحد، ولم يعُد يُسمع غير صوت الجمال خارج المحلة عن بُعد. وظل الضحاك واقفًا بباب إبراهيم حتى ظنَّه فرغ من عمليته، فطرح كيس النقود الذي معه على بلاطة هناك، فكان لوقعه طنين وخشخشة ظهرا قويين لهدوء الليل.
وكان إبراهيم يشتغل في إبدال النقود ويحاذر أن تُسمع حركته أو احتكاك النقود، فأصبح لشدة حذره يخاف أن يكون لتنفسه صوت. وكان يتوهم كل شيء ساكتًا هادئًا، فلما سمع وقع كيس الضحاك على البلاط أجفل وبُغت، وظل هنيهة جامدًا ينصت لعله يسمع صوتًا آخر، فلم يسمع، فأقبل إلى الباب ففتحه رويدًا رويدًا؛ خوفًا من صريره، وأخرج رأسه وتلفَّت فرأى الضحاك على بُعد بضع خطوات من غرفته واقفًا مقنعسًا ويداه على فخذيه، وقد ولَّى وجهه نحو السماء ينظر إلى غيوم تتسابق إلى القمر، فتفرس إبراهيم في المكان الذي سمع منه الخشخشة، فرأى كيسًا حريريًّا ملونًا، فحدَّثته نفسه أن يخرج لالتقاطه، ولكنه خشي أن ينتبه له الضحاك، ثم تذكَّر أنه أبْلَه لا يفقه شيئًا، وأنه لو كان ممن ينتبهون لما سقط منه الكيس على تلك الصورة، فتقدم خطوتين حتى تناول الكيس وهمَّ بالرجوع، وإذا بذلك الأبْلَه يقهقه بصوت عالٍ، فارتعدت فرائص إبراهيم وانتفض انتفاض الطير حتى كاد الكيس يسقط من يده، ولكنه تجلَّد وتظاهر بأنه خرج من الغرفة لغرض له ونظر إلى الضحاك، فرآه يمشي نحوه وهو يخطر ويطيل خطاه كأنه يتخطَّى قنوات، فابتدره إبراهيم بالكلام وهو يُظهر أنه خالي الذهن من كل شيء وقال: «هل أنت تذرع الأرض أم تعد نجوم السماء؟»
قال وهو ينظر إلى السماء: «بل أنا أفتش عن نقودي؛ فقد كان معي كيس وأظنُّه وقع هنا.» وأشار إلى القمر.
فضحك إبراهيم وتأكد من بَلَه الرجل، واعتزم أن يخفي الكيس وقال: «يحتمل ذلك.» وتحوَّل إلى غرفته. ولم يصل إلى الباب حتى أدركه الضحاك وقبض على رقبته بشدة ودخل به إلى الغرفة. وكان إبراهيم لقِصَر قامته وجُبنه لو أراد الضحاك أن يقبض عليه ويرمي به من فوق السور لفعل، على أنه لو كان شجاعًا ما استطاع غير السكوت خشيةَ الفضيحة؛ لأنه لو صاح لأيقظ النائمين، وربما استيقظ أبو مسلم أو خالد أو غيرهما ممَّن يخشى الفضيحة على يده؛ لأن الأكياس كانت لا تزال مفتوحة، والنقود مبعثرة. وزِدْ على ذلك أن الذنب يصغِّر النفس ويذلُّها، ويجعل السيد عبدًا. ولكن إبراهيم لم يكن ليفتح باب غرفته في تلك الساعة لو لم يسمع طنين الدراهم، فلما رأى الكيس على الأرض بدا له أن يلتقطه ويرجع حالًا، فلما رأى نفسه بين يدي الضحاك وقد دخل معه الغرفة ارتبك في أمره، ولكنه فضَّل السكوت ثم أظهر الممازحة وقال له: «هذا كيسك قد سقط لي من السماء فخُذْهُ!»