أبو مسلم والضحاك
وبعد هنيهة جاء الخدم بالطعام فأكلا وغسلا أيديهما ولم يتكلما إلا قليلًا؛ لأن أبا مسلم كان قليل الكلام جدًّا. وفي نحو الضحى، دخل أحد غلمان أبي مسلم وأومأ أنه ينقل رسالة، فقال أبو مسلم: «ما وراءك؟»
قال: «إن في الباب رجلًا يطلب مقابلة الأمير.»
قال أبو مسلم: «ألعله من رجالنا؟»
قال: «كلا، بل هو من رجال الدهقان.»
فقال أبو مسلم: «فليدخل.»
فدخل الضحاك وهو يحمل خريطة قد أثقلت كاهله، فوضعها بجانب الموقد وأغلق الباب ودخل وهو يتأدَّب في مشيته حتى وقف بين يدي أبي مسلم.
فصاح به أبو مسلم: «من أنت؟ وما غرضك؟»
قال: «إني من موالي الدهقان، ولي مع الأمير شأن، إذا سمح بخلوة بثثته إياه.»
وكان الضحاك يتكلم وهو يحاول إخفاء أمارات المجون من وجهه، ولم يتم كلامه حتى نهض خالد وخرج، فأشار أبو مسلم إلى الضحاك أن يجلس، فأكبَّ على يد أبي مسلم يُقبِّلها وهو يقول: «قد أتيت مولاي الأمير بمهمة سرية أرجو أن يكتمها لوجه الله، وأنا رسول، وما على الرسول إلا البلاغ.»
قال: «قل ولا خوف عليك.»
فمد الضحاك يده وأخرج من تحت عباءته سيفًا مُرصَّعًا دفعه إلى أبي مسلم. ولما رأى أبو مسلم السيف أجفل لأول وهلة؛ مخافة أن يكون في الأمر دسيسة أو اغتيال، فقطب وجهه ونظر في وجه الضحاك وأمارات الغضب والحذر بادية في عينيه، فضحك الضحاك ضحكة يمازجها شيء من البَلَه وقال: «أيخاف صاحب هذا الجند من مهذار مثلي جاء بهدية؟ ومَن يجرؤ على أن يقدم على الأمير بغير الطاعة والخضوع. إني أرى الموت بين شفتيك، والقضاء المبرم في عينيك، فبالله إلا تبسمت قبل أن أقع قتيلًا.»
قال ذلك وهو يتظاهر بالذعر، أو هو ذعر فعلًا؛ لأن أبا مسلم كان شديد الهيبة لا يستطيع أحد التفرس في وجهه.
فتكلف أبو مسلم الابتسام وهو يتناول السيف بيده، وليس في ابتسامته ما يدعو إلى الاستئناس أو السكينة. ولما تناول السيف تأمله وقلبه بين يديه، ثم نظر إلى الضحاك — وكان لا يزال واقفًا — وقال: «اجلس.»
فجلس متأدبًا وهو يتلفت يمينًا وشمالًا، فقال له أبو مسلم: «ما شأنك يا رجل؟ إني أراك عربيًّا.»
فتراجع الضحاك وأظهر الخوف وقال: «وهل عليَّ بأس من وصية الإمام؟»
فلم يتمالك أبو مسلم عن الضحك من حركاته وهيئته — وكان يندر أن يضحك — ثم قال: «إن وصيته لا تجري على كل عربي؛ لأن الإمام نفسه عربي؛ فكن مطمئنًا وقل ما شأنك.»
فنظر الضحاك نحو الباب نظر الخائف المحاذر وقال: «أتوسل إلى مولاي أولًا أن يكتم ما سيدور بيني وبينه؛ فقد جئته بأمر أرجو أن ينفعه، وإذا ذاع أضرني.»
قال: «قل. لا بأس عليك. إننا كاتمون أمرك.»
قال: «اعلم يا سيدي أن مولاتي الدهقانة جلنار. هل تعرفها؟»
فوجم أبو مسلم لحظة ثم قال: «أليست هي ابنة الدهقان؛ صاحب هذه المحلة؟»
قال: «هي بعينها، أظنك تعرفها. فاعلم، يا مولاي، أنها شهدت مجلسك بالأمس، وقد سُحرت بما شهدته من حميتك، وأعجبها الأمر الذي أنت قائم به، وعلمت بما دفعه أبوها، وأحبت أن تخص نفسها بمال تدفعه هي من جيبها الخاص، فبعثت بجانب منه في هذه الخريطة (وأومأ نحو الخريطة) على شرط ألا يعلم أحد بذلك، وخاصة أباها، وهي لا تلتمس في مقابل ذلك إلا رضى الأمير — أعزَّه الله — ثم إنها بعثت إليك بهذا السيف المرصع على سبيل التذكار، وهو قديم فيه سر عظيم، ولم يحمله أحد إلا هزَم عدوه.»
فأعاد أبو مسلم نظره في السيف، وتناوله واستلَّه من قرابه وتأمَّل فرنده، فإذا هو يلمع كالزجاج وفيه تموج بديع، فقال: «يظهر أنه مسموم؟»
قال: «أظنه كذلك؛ لأن مولاتي قالت لي إنه لم يُصب به أحد إلا مات لساعته، ولو كان جرحه خفيفًا.»
فقال: «إنها هدية ثمينة، ثم ماذا؟»
قال: «عندي كلمة أخرى أحبُّ كتمانها حتى عن الدهقانة نفسها، فإذا عاهدني الأمير بذلك بحتُ له بها، وإلا لا يهمني لو قتلني بهذا السيف الساعة وأراحني من حياتي.»
فاستغرب أبو مسلم قوله وطريقة تعبيره، واستأنس بخفة روحه، فقال له: «قل ما تشاء ولا تخف.»
قال: «وهل تعدني أنك لا تغضب من جسارتي؟»
قال: «قلت لك لا تخف.»
قال: «إن مولاتي الدهقانة أجمل أهل عصرها، وما من أمير ولا دهقان إلا ويتمنى رضاها، ولكنها تمنع نفسها عن كل طالب، ولم يَملْ قلبها إلى أحد حتى الكرماني؛ أمير العرب المحاصرين مرو، فإنه طلبها لابنه ورضي أبوها، وأما هي فقلبها نافر منه، وقد تطيع أباها وتذهب إلى الكرماني، ولكنها إذا سارت إليه فقلبها لا يسير معها؛ لأنه متعلق برجل أعظم منه، وأعظم من كل رجل في خراسان. هل يأذن لي مولاي أن أذكر اسم ذلك الرجل؟»
فأدرك أبو مسلم أنه يشير إلى حبِّها إيَّاه، ولم يكن قد فاته ذلك من قبل.
فقال: «اذكُر اسمه، إلا إذا كان داخل هذه الغرفة.»
فقال: «كأنك تأمرني ألا أذكره؛ لأنه داخل هذه الغرفة، ولكنه ليس أنا.» وضحك، فلم يتمالك أبو مسلم عن الضحك ثم قال: «لقد أعجبني أسلوبك يا رجل؛ فإنك خفيف الروح.»
فقال: «وماذا ينفعني إعجابك، يا سيدي، وأنا أخاف أن أذكر اسمك؟»
قال: «قلت لك لا تخف، فما أنا ناقم على جسارتك؛ لأنك — على ما يظهر — لا تعرف عني كثيرًا..»
قال: «أنا أعلم عن مولاي الأمير أكثر مما يظن؛ ولذلك فإني لا أقصد برسالتي هذه أن أكلفه ما لا يريده، ولكنني تعهدت لصاحبة هذه الهدية برضى أبي مسلم عنها، ويجوز أن يكون ذلك الرضى ظاهريًا فقط. ثم لا أخفي عن حامِل عَلَم الإمام أن نظرة منه تشفُّ عن رضًا أو ارتياح تجعل هذه الفتاة المفتونة آلة في يده قد يستخدمها في أمور تنفعه، ولو كانت في فسطاط الكرماني نفسه، أو في قصر نصر بن سيار؛ صاحب مرو؛ إذ تكون أقدر على خدمته وهي هناك، وإن كان ما ترجوه من أبي مسلم أضغاث أحلام لا يصح منها شيء. وعهدي بالأمير لا يحتاج إلى تصريح.»
فأطرق أبو مسلم هنيهة وهو يعمل فكرته ويتدبر ما سمعه من الضحاك، فرأى قوله لا يخلو من النصيحة، ولكنه أمسك عن الخوض معه في ذلك، ثم رفع السيف من بين يديه ووضعه وراء الوسادة، ونظر نحو الباب فأدرك أنه يريد انصرافه، فوقف وهو يقول: «يأمر مولاي خازنه أن يستلم هذه الأكياس.» ومشى نحو الخريطة بقرب الموقد.
فصفق أبو مسلم فدخل حاجبه فقال: «إليَّ بالخازن.»
فخرج الحاجب وعاد ومعه إبراهيم الخازن، فلما دخل إبراهيم ورأى الضحاك في خلوة مع أبي مسلم أوجس خيفة، ولكنه ما لبث أن سمعه يقول: «خذ من هذا الرجل ما يعطيه لك وقيده في دفاترك.»
فتحول نحو الضحاك، ففتح الضحاك الخريطة وأخرج منها عشرة أكياس مختومة وقال له: «هذه عشرة أكياس، في كلٍّ منها ألف دينار يوسفية.» وأطال لفظ يوسفية.
فتناولها الخازن وقد فهم إشارته، ولكنه أدرك أنه يقول ذلك على سبيل المجون، فتناول الأكياس وهو يقول: «ممن هي؟»
فقال أبو مسلم: «قل هي مني، وكفى!»
فحملها إبراهيم وخرج وهو لا يصدق أنه نجا من شراك الضحاك، وبعد خروج إبراهيم عاد الضحاك نحو أبي مسلم وانحنى يقبِّل يديه ثم خرج.