الحارث بن سريج والكرماني
وكان صاحب الخبر يتكلم وأبو مسلم صامت يحدِّق بعينيه، ويتفرس في الرجل كأنه يستنزل الكلام من صدره، وهو يتأثر من مطاولة نصر للكرماني، وتصور نفسه في موضع نصر قبل الانتظار. فلما بلغ الرجل إلى قوله: «وإن وجود الكرماني أصبح بلية على نصر.» صاح أبو مسلم: «ذلك جزاؤه على ضعفه وتردده — قبَّحه الله — لماذا لم يقتله ويكفي نفسه مئونة الحذر منه؟ أطال الله بقاء الإمام، وأيَّد دعوته. إن في وصيته ما يغنينا عن هذه المطاولة؛ مَن شككت فيه فاقتله، والسلام.» قال ذلك وهو يعبث بشعرات من لحيته وخالد قد تهيب لما ظهر من تحمسه، ثم قال أبو مسلم للجاسوس: «ثم ماذا؟»
قال: «وما زال الكرماني حتى حارب نصرًا وأخرجه من مرو قهرًا في العام الماضي، أو الذي قبله، ولكنه أنقذه من الحارث بن سريج.»
فقطع خالد كلامه قائلًا: «أنا أعرف الحارث هذا؛ فقد كان في بلاد الترك وأبلَى بلاء حسنًا، وكان بينه وبين نصر خلاف، فخالفه واشتد الجدال، ورضي نصر أن يحكم بعض الوجهاء، ولم يتم ذلك.» ثم التفت خالد نحو أبي مسلم وقال: «والحارث المذكور يزعم أنه صاحب الرايات السود.»
فنظر أبو مسلم إليه نظرة استغراب، ثم تكلم الرسول قائلًا: «ولكن نصرًا لم يصدقه، فأرسل إليه يقول: «إن كنت تزعم أنكم تهدمون سور دمشق وتزيلون ملك أمية؛ فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسِرْ. فلعمري لئن كنتَ صاحب ما ذكرت إني لفي يدك، وإن كنت لستَ ذلك فقد أهلكت عشيرتك.» فأجابه الحارث: «قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني.» فقال نصر: «فقد ظهر أنهم ليسوا على رأيك، فاذكر الله في عشرين ألفًا من ربيعة واليمن يهلكون فيما بينكم».»
فقطع أبو مسلم كلام محدثه وقال وهو يهز رأسه: «إنهم يخشون أصحاب الرايات السود، ويسيرونهم، ويرون بلاءهم فيهم، فهؤلاء لا يترددون في حكم، ولا يصبرون على ضيم، بل يقتلون كل من يشكون فيه.» وسكت.
فعاد الرجل إلى حديثه فقال: «ولم يكن ذلك ليثني الحارث عن عزمه.» فرأى نصر أن يضرب به الكرماني فقال له: «إن كنت تزعم ما تقول فابدأ بالكرماني، فإن قتلته فأنا في طاعتك.» فلم يفعل.
وبالاختصار، فإن الحارث تطاول على نصر حتى صاروا يقرءون سيرته في أسواق مرو، وفي المساجد يدعون الناس إلى بيعته، حتى قرءوها مرة على باب نصر نفسه، فهاج الناس والتحم الفريقان. وكانت معركة هائلة، فلم ير نصر إلا أن يستنجد بالكرماني، فبعث إليه فلم يُجبه. وكانت معركة معقدة؛ كلٌّ منهم يحارب الآخرين، وانتهت بفرار نصر من مرو، وتغلب الكرماني عليها. فلما رآه الحارث قد فاز بعث إليه يطلب أن يكون الأمر شورى بينهماأ فلم يقبل الكرماني، فاقتتلا، فقُتل الحارث وتفرقت قواته، وصارت قبائل اليمن كلها مع الكرماني، وقد انتصروا على المضرية؛ أصحاب نصر، فاستبدوا بهم، وانتقموا منهم، وهدموا منازلهم. وكان الحارث نفسه مضريًّا، فلما قُتل قال فيه نصر:
فقال أبو مسلم: «فالكرماني الآن صاحب مرو. وأين نصر؟»
قال: «لم تطل إقامة الكرماني في مرو؛ لأن المضرية اشتد ساعدهم بمقتل الحارث، وانضم إليهم جماعة كبيرة من رجال الحارث، فعاد نصر إلى مرو وخرج الكرماني منها وعسكر خارجها.»
فقال أبو مسلم: «فالكرماني الآن محاصر مرو؟»
قال: «وليس وحده.»
فقال أبو مسلم: «ومن معه؟ أظنك تعني شيبان الحروري؟»
قال: «نعم يا مولاي، وليس شيبان بالشيء القليل؛ لأنه يرى رأي الخوارج، فهو مخالف لنصر؛ لأنه من عمال مروان، والخوارج لا يعترفون بخلافة مروان. وقد اتفق مع الكرماني على قتال نصر؛ لأن الكرماني يمني ونصر مضري — كما تعلمون — فاتفق الاثنان على نصر.»
فقطع خالد كلام الرجل وخاطب أبا مسلم بالفارسية بما معناه: «ولا يخفى عليك — أيها الأمير — أن هذين لا يكرهان دعوتنا؛ لأننا ندعو إلى خلع مروان أيضًا.»
فأجابه أبو مسلم: «سأذيقهم طعم الحزم والعزم، وسأريهم كيف تؤكل الكتف.»
ثم التفت إلى الرسول وقال: «فالآن مرو محاصرة بجند الكرماني وشيبان؟»
قال: «نعم يا مولاي، وهما على وفاق.»
قال أبو مسلم: «وهل تعرف عدد رجالهما؟»
قال: «لا أعرف ذلك تمامًا، ولكنهم يزيدون على بضعة آلاف.»
فتحرك أبو مسلم في مجلسه كأنه يتحفَّز للنهوض، ففهم الرسول أنه يريد خروجه، فنهض وخرج.