دهقان مرو
كانت بلاد فارس وخراسان وما وراء النهر قبل الفتح الإسلامي مؤلفة من المدن والقرى، وكان رجال الحكومة يقيمون في المدن ويجعلون فيها كل قوتهم. وأما القرى فقد كانت في حوزة جماعة من أشراف الفرس يُعرفون بالدهاقين، على نحو ما كانت عليه حال قرى أوروبا في عصر الإقطاع؛ إذ كانت البلاد في أيدي الأمراء الأشراف من الكونتية واللوردية، وكل أمير منهم يحكم مقاطعة تعرف باسمه، يحرسها جنده، ويزرعها رجاله، وهو فيهم مكان الحاكم المطلق. وكان الدهقان ورجاله يحكمون أهل القرى؛ سكان البلاد الأصليين، ويستخدمونهم استخدام الرقِّ. وكان السكان خليطًا من الشعوب الآرية يمتازون بضخامة البدن وبروز الصدر.
كذلك كان الدهاقين في خراسان وغيرها حينما فتح العرب تلك البلاد، فهم إنما فتحوا المدن وأقاموا فيها الحامية. أما القرى فأقروا فيها الدهاقين على نحو ما كانوا عليه في دولة الفرس، واستعانوا بهم في كثير من الأحوال؛ وبخاصة في جمع الخراج، بما كان لأولئك الدهاقين من النفوذ العظيم على أهل البلاد الأصليين. وكثيرًا ما كانوا يتجسسون بهم على أحوال الحكام وغيرهم. وكان الدهاقين من الجهة الأخرى ينتفعون بتقرُّبهم من الفئة الحاكمة، ويجتزئون مما كانوا يجمعونه من الخراج، فتضاعفت ثروتهم وزاد نفوذهم، على أنهم كانوا يتفاوتون ثروة ونفوذًا؛ فمن صاحب القرية الصغيرة أو المزرعة إلى صاحب الرساتيق العديدة والبلاد الواسعة. وكثيرًا ما كانوا يتولَّون الحكومة كالأمراء، لكن بني أمية كانوا يسيئون إلى أولئك الدهاقين أحيانًا في جملة إساءتهم إلى غير العرب. وكانت ديانة الدهاقين المجوسية ديانة الفرس القدماء، وانقضت أيام بني أمية ولم يسلم منهم إلا القليلون.
وكان أعظم دهاقين خراسان في أوائل القرن الثاني للهجرة دهقانًا كانت ضياعه أكثرها بجوار مدينة مرو؛ عاصمة خراسان في ذلك العهد؛ ولذلك غلب عليه الانتساب إلى تلك المدينة، فكان يسمى «دهقان مرو». وكان لهذا الدهقان ابنة اسمها جلنار غلبت شهرتها على شهرته بالجمال والعقل، وقد ذاع ذكرها بين الناس حتى أصبحت مضرب أمثالهم بالأنَفة والإمساك عن الزواج مع كثرة الخطاب من كبار الدهاقين والأمراء. وكان إذا طلبها طالبٌ عرض أبوها عليها أمره ورغَّبها فيه، فإذا أبتْ جاراها في الرفض.
وكان الدهقان المذكور يقيم في مزرعة له على بضعة أميال جنوبي مرو في قصر فخم تأنَّق في بنائه، وأنشأ حوله الحدائق غرس فيها الأشجار المثمرة، وأصناف الرياحين والأزهار، وسرَّح فيها الطيور الداجنة، وفي جملتها الطاووس، والديك الهندي، وأصناف الدجاج. وقد ابتنى لها أقفاصًا في بعض جوانب الحديقة، وأقام حول القصر والحديقة سورًا عاليًا منيعًا كأسوار القلاع. وخارج السور منازل رجال الحاشية والأعوان، وبينها أعشاش يقيم فيها الحرَّاثون والخدم.
ولم يكن يقيم في القصر إلا الدهقان ونساؤه وخدمه وبنته، ولم يكن له أبناء سواها. والقصر المذكور مبني على نمط خاص يحسبه المقبل عليه هيكلًا من هياكل النار التي كان الفرس يصلون فيها قبل الإسلام. والظاهر أن هذا القصر كان هيكلًا لعبادة النار، فلما أسلم أصحابه حوَّلوه إلى قصر للسكن، وأنشئوا حوله الحديقة والسور؛ ولذلك كان المقبل على القصر يرى في صدره أساطين من الرخام ضخمة، عليها نقوش فهلوية هي عبارة عن صور بعض الأبطال وبعض نصوص الأدعية أو الصلوات على اصطلاحهم. وتحيط هذه الأساطين برحبة أرضها من الرخام مرتفعة عن أرضية الحديقة وتشرف عليها، وفي سقفها نقوش ملونة تمثل بعض الخرافات القديمة عند المجوس، وفيها مواقع حربية أو حوادث دينية. وكانوا يسمون تلك الرحبة قاعة الأساطين أو القاعة الكبرى. ووراء تلك القاعة غرف كبيرة مفروشة بأثمن الأثاث من الديباج والإبْرَيْسَم على النمط الفارسي.