حقيقة الموقف
وخرج أبو مسلم وخالد، والغلمان بالشموع بين أيديهما، حتى بلغا البيت المخصص لهما، وظلت جلنار في مكانها تنتظر الخلوة بوالدها لعله يبدي ما يطمئنها. فلما عاد من وداع الرجلين ورآها ابتسم لها، ودنا منها حتى جعل يُمناه على كتفها وهو يتبع أبا مسلم بنظره ويقول: «طالما قلتم ولم تفعلوا.»
فلم يعجبها قوله؛ لأنه يدل على إنكاره أمر أبي مسلم، فتجاهلت وقالت: «ومن هؤلاء يا أبي؟»
قال: «هؤلاء أهل بيت النبي، فإنهم ما زالوا منذ تولَّى بنو أمية زمام الملك وهم يبثون الدعاة ويدعون الناس إلى أنفسهم، فيأتينا هؤلاء — كما أتانا أبو مسلم اليوم — فنحسن وفادتهم، وندفع إليهم المال، وننصرهم جهدنا، ثم لا نلبث أن نسمع بذهاب دعوتهم، وأن الأمويين قتلوا صاحب الدعوة أو صلبوه، فيقوم سواه وهكذا. وكانت الدعوة قبلًا لأبناء بنت النبي، وأما اليوم فإنهم يدعون لأبناء عمه. ولا ريب عندي أن هذه الدعوة ساقطة لسببين مهمين؛ الأول: لأن نقل هذه الدعوة من آل أبي طالب إلى آل العباس يثير غضب الطالبيين كافة؛ وهم أصحاب هذه الدعوة، وأهل خراسان لا يعرفونها لسواهم، والسبب الثاني: أن هذا الغلام مغرور بنفسه؛ يريد أن يحارب هذه الدولة بسبعين رجلًا أو مائة رجل.»
وكانت جلنار ترهف السمع لكلام والدها وتدهش له — ولو انتبه وهو واضع يده على كتفها لشعر بقشعريرة اعترتها عند سماع قوله — وخشيت أن يدرك ذلك منها، فتظاهرت بإصلاح شعرها، وتخلصت من يده وتجلدت وقالت: «سمعتك تُطريه وتعدُه بالمساعدة وتؤمِّله بالنصر.»
قال وهو يضحك: «وما الذي خسرته؟! أليس ذلك أفضل من أن أُعاديه أو أعترض على رأيه، وهو كما علمت شديد الوطأة لا يبالي بالعواقب، وإذا عادانا لا نكون في مأمن من أذاه. وزيدي على ذلك أني لا أقطع بفشل هذه الدعوة؛ إذ لا آمن أن ينقلب الأمر إلى عكس ما أراه، فيكون لنا عند أبي مسلم شفاعة؛ لاعتقاده بأننا على دعوته، وإذا كانت الغلبة للكرماني كنتِ لنا شفيعًا عنده.» قال ذلك وتشاغل هنيهة بالسعال وتنحنح، ثم أتم كلامه قائلًا: «أما نصر ابن سيار فإنه مغلوب في كل حال؛ لأن سلطان بني أمية ذاهب لا محالة، وستنقسم مملكتهم الواسعة إلى دول صغيرة يملكها أمراء مستقلون، كما حدث لمملكة الفرس بعد الإسكندر؛ إذ ملكها ملوك الطوائف. وفي اعتقادي أن خراسان ستكون إحدى تلك الممالك، وسيملكها الكرماني، كما قلت لك غير مرة. والعاقل من اغتنم الفرص.» وكأنه تذكر وصية ريحانة ألا يلح على ابنته في شأن ابن الكرماني، وأن يترك أمره إليها فقال: «هلم بنا إلى المائدة؛ فقد حان وقت العشاء.»
قال ذلك ومشى وهو يجر مطرفه ويخطر في مشيته، والخدم يقفون له إذا مرَّ بهم، وجلنار تسير في أثره، حتى وصلا غرفة المائدة، وقد أعد فيها الطعام على خوان فوق البساط وعليه أصناف الطعام والشراب والفاكهة. وكان الدهاقين أهل ترف وتأنق شأن أهل الثروة والنفوذ في تلك العصور. وكانت جلنار لا تتكلم في أثناء الطعام، وإنما تتلهى به عن غير قابلية، وأفكارها تائهة في أبي مسلم وهي تتصوره خارجًا من القاعة وعليه تلك الحلة السوداء، بعد أن نظر إليها النظرة الأخيرة، فلما تذكرت أنه ذاهب في الفجر ولن تراه إلا إذا قدِّر لها لقاؤه — وهي تحسب ذلك بعيدًا صعبًا — وقفت اللقمة في حلقها، ودمعت عيناها رغم إرادتها، فأشارت إلى أحد الغلمان الواقفين للخدمة بالماء، فجاءها بكأس من الفضة فيه ماء، فشربت وهي تتظاهر بأن عينيها دمعتا من الغصة، وودت الفراغ من الطعام والذهاب إلى غرفتها للاجتماع بريحانة؛ كي تبث لها شكواها، وتتداول في أمرها. ولم تكن ريحانة تأكل معهما على مائدة واحدة، فتظاهرت جلنار بأنها تألمت من تلك الغصة وانزعجت، والتمست الذهاب إلى فراشها قبل الفراغ من المائدة؛ لأن التأنق يدعو إلى المطاولة في الطعام والشراب، فأذِن لها، فأسرعت إلى غرفتها، فوجدت ريحانة في انتظارها هناك، فجلستا للمداولة.