الرحيل وإظهار الدعوة
فتحدثوا في ذلك مليًّا ثم نهضوا إلى خيامهم، وأصبحوا في الفجر وقد تأهبوا للرحيل. وكانت مياه المطر قد جفت واعتدل الطقس، ولكنهم لم يستغنوا عن الالتفاف بالعباءات والفرو دفعًا للبرد.
وصلوا (فنين) في الضحى وقد أشرقت الشمس فأرسلت الدفء في الحياة، فنزلوا هناك على عيسى بن أعين فنصبوا الخيام للرجال، ونزل أبو مسلم وخاصته الذين ذكرناهم في بيت عيسى المذكور في شعبان سنة ١٢٩ﻫ. وعند وصولهم عقدوا جلسة اتفقوا فيها على إنفاذ النقباء إلى الأطراف؛ لإظهار الدعوة وجمع الرجال للحرب.
وكانت تلك الجلسة في قاعة كبيرةٍ غصَّت بأصحاب اللحى من الشيوخ، وكلهم ينقادون لرأي أبي مسلم — وهو شاب كأحد أولادهم — ولكنهم كانوا لا يرون مفرًّا من الامتثال لأمر الإمام؛ لأنهم إنما قاموا يدعون له، ويؤمنون بصدقه، ويعملون برأيه. فلما اجتمعوا وتداولوا، أخذ أبو مسلم في توجيههم، فوجَّه أبا داود النقيب ومعه عمر بن أعين؛ أخو عيسى، إلى طخارستان فما دون بلخ، ووجَّه نصر بن صبيح وشريك بن غضبى التميميين إلى مرو الروذ (غير مرو المحاصرة) ووجَّه عبد الرحمن بن سليم إلى الطالقان، ووجَّه الجهم بن عطية إلى خوارزم، وأرسل غيرهم أيضًا، وأوصاهم جميعًا أن يُظهروا الدعوة في رمضان لخمسٍ بقين منه، إلا إذا أعجلهم عدوهم قبل ذلك بالأذى والمكروه، فعندئذٍ يحل لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ويجردوا السيوف، ويجاهدوا أعداء الله، ومن شغله منهم عدوهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت، وأوصاهم بالصبر والثبات، فنهضوا.
فلما نزل أبو مسلم سفيذنج استقبله سليمان بن كثير ورحَّب به وبرفاقه، وأنزله هو وخالدًا عنده. ونزل الباقون في الخيام، ولبثوا ينتظرون اليوم المُعين لإظهار الدعوة يوم ٢٦ رمضان؛ أي لخمس بقين منه، وهو اليوم الذي أمَر قواده بإظهارها فيه.
وفي اليوم الثاني من وصوله هناك، وقف هو وسليمان وخالد في مكان يشرفون منه على مرو وما حولها، فرءوها محاطة بسور من طين، وفي وسطها بناء هائل هو قهندزها؛ أي قلعتها، وهي في الكبر مثل مدينة عالية يراها القادم عن بُعد، فقال أبو مسلم: «إني لأستغرب أمر هذا القهندز؛ لضخامته وكبره وعلوه.»
فقال سليمان: «وأغرب من ذلك أنهم ساقوا إليه الماء من النهر بقناة على قناطر، وقد دخلته مرة فرأيتهم قد زرعوا على سطحه البطيخ والبقل وغير ذلك، فإذا مشيت هناك توهمت أنك في بستان على قمة جبل.»
ورأى أبو مسلم خيامًا خارج السور برايات مختلفة الألوان والأشكال، فتذكر ما سمعه من صاحب خبره عن الكرماني وشيبان، فقال لسليمان: «هذان المعسكران للكرماني وشيبان؟»
قال: «نعم، وهما يحاربان نصر بن سيار، ورجالهما كثيرون في المعسكرين.»
فقال أبو مسلم: «كأنك تخشى من قلة عددنا. سترى أننا كثيرون بإذن الله. ألا ترى أن نبث دعاتنا في هذه القرى حول مرو؟»
قال: «تفعل حسنًا أيها الأمير؛ لأن أهل هذه القرى ملُّوا اعتداء العرب على ما يزرعون، وهم لا يفرقون بين اليمنية والمضرية، وإنما يعرفون أن العرب يظلمونهم، وأن الفرس خير منهم، فإذا بثثنا الدعاة على هذه الصورة استجابوا لدعوتنا.»
وفي ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان من سنة ١٢٩ﻫ، احتفل أبو مسلم بذلك احتفالًا رسميًّا، فجمع كبار الدعاة في ساحة من ساحات سفيذنج. وكان أول علامات الإظهار أنه عقد اللواء الذي جاءه من عند الإمام، واسمه «الظل»، على رمح طوله أربعة عشر ذراعًا، وغرسه أمام المنزل الذي يقيم فيه، وجاء برمح آخر طوله ١٣ ذراعًا عقد عليه الراية التي سماها السحاب. فعل ذلك في مشهد موقَّر حضره النقباء وهو يتلو: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
ولما فرغ من تلاوة الآية التفت إلى النقباء وقال: «أتعلمون لماذا سمى مولانا الإمام هذه الراية السحاب؟»
قالوا: «لا.»
قال: «إشارة إلى أن السحاب يطبق الأرض. وهل تعلمون لماذا سمَّى هذا اللواء بالظل؟»
قالوا: «لا.»
قال: «لأن الأرض لا تخلو من الظل، وكذلك الأرض لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر.»
ثم جاءوا بالملابس السوداء — ويسمونها السواد — فلبسوها رسميًّا، وأول من لبسها أبو مسلم، وسليمان بن كثير، وإخوة سليمان ومواليه، ومَن كان قد أجاب الدعوة من أهل سفيذنج وسائر الدعاة، ثم أوقدوا النيران على حسب الاتفاق مع الشيعة الذين بايعوا، فتجمعوا إليه حين أصبحوا. وكان أول من قدِم عليه أهل التقادم مع أبي الوضاح في تسعمائة راجل وأربعة فرسان، ومن أهل هرمزفره جماعة. وقدِم أهل التقادم مع أبي القاسم محرز بن القاسم الجوباني في ألف وثلاثمائة راجل، وستة عشر فارسًا، فيهم من الدعاة أبو العباس المروزي، فجعل أهل التقادم يُكبِّرون من ناحيتهم، ويجيبهم أهل التقادم بالتكبير، فدخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج بعد ظهوره بيومين، وحصَّن أبو مسلم حصن سفيذنج ورمَّه، وسدَّ دروب المحلة.