أين المحب من الخلي
وكانت المائدة التي أعدها سليمان في فسطاط كبير بجانب المعسكر، فجلسوا حولها مستبشرين، وأبو مسلم في صدر المائدة ساكت يفكر كعادته، يتناول اللقمة في أثر اللقمة على مهل، وعيناه تنظران إلى ما وراء الباب من السهل الواسع الذي لا يقف البصر في آخره على غير الأفق، وحوله النقباء والأمراء، وكلهم يتهيب منظره، وفيهم من يفكِّر فيما يهددهم من الحرب العظيمة.
وبعد الفراغ من الطعام، وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة، نهضوا لتدبير شئونهم وكلٌّ في شاغل من أمر نفسه أو أهله إلا أبا مسلم؛ فلم يكن همه إلا تدبير شئون من اجتمع إليه من الناس — وهم كثيرون بالنظر إلى قصر المدة التي اجتمعوا فيها — ولكنهم قليلون بالنسبة إلى رجال نصر في مرو، ورجال الكرماني وشيبان خارجها. وكان أبو مسلم لا يخلو إلا ومعه خالد بن برمك؛ فقد كان موضع ثقته ومستودع أسراره. فلما خرجوا من فسطاط المائدة انصرفا معًا إلى جانب من المعسكر على مرتفع يشرفان منه على مرو وضواحيها، وعلى معسكرهما.
فلما رأى أبو مسلم قلة جنده بالنسبة إلى أولئك التفت إلى خالد — وهو يزيح عمامته إلى الوراء — وتبسَّم — وذلك نادر منه — فأقبل خالد نحوه بجوارحه كأنه يتأهب لتنفيذ أمره، فقال أبو مسلم: «ألا يُخيفك قلة جندنا وكثرة عدونا؟»
فبشَّ خالد وقال: «لا يخيفني شيء وأنت أميرنا، وإليك قيادنا. وقد استبشرت اليوم بكثرة من جاءنا من الشيعة على قصر مدة ظهورنا.»
فقطع أبو مسلم كلامه وقال: «صدقت، ولكن الغلبة ليست بالكثرة، وإنما هي بالتدبير والاتحاد. نعم إن أعداءنا كثيرون، ولكنهم أحزاب متفرقة قد يفني أحدها الآخر قبل خروجنا إليهم، وربما كان لنا منهم عون عليهم. أليس اليمن مع الكرماني، ومضر مع ابن سيار، والخوارج على الاثنين؟ سأريك مصير هؤلاء جميعًا.» ثم رفع نظره وهو يتكلم على سواد قادم من عرض الأفق وغبار متصاعد، فتفرَّس فيه واستبشر، فابتدره خالد قائلًا: «أظن أن جماعة من شيعتنا قادمون لنصرتنا.»
فلم يجبه أبو مسلم وظل متفرسًا هنيهة ثم قال: «لا أرى أعلامًا سوداء؛ ولذلك لا أظن أن القادمين من أنصارنا.» ولبثا هنيهة أخرى فانكشف الغبار عن قبة على فيل أبيض كبير، وحول القبة بضعة فرسان يسير في ركابهم جماعة من العبيد، ووراء الفيل جمال عليها أحمال الآنية والفرش وغيرها، فاستغربا ذلك، وزادت دهشتهما حين رأيا الركب متجهًا نحوهما، فجعلا ينظران إليه لعلهما يتبينان شيئًا من أمره، فإذا بتلك القبة مصنوعة من الديباج الأحمر وقد تدلَّت أستارها حتى لا يظهر شيء مما في داخلها، وحول عنق الفيل وعلى جبهته وفي مقدم صدره عقود وأوسمة مرصعة بحجارة كريمة مختلفة الألوان تتلألأ بنور الشمس، وقد كسي ظهره وجوانبه بالديباج الأصفر الزاهي. ويقود الفيل رجل طويل القامة عليه عباءة وعمامة ما لبث أبو مسلم أن عرفه حين رآه؛ وهو الضحاك، فتذكر حكاية جلنار وخطبتها إلى ابن الكرماني، وما كان من حديثه في أمرها، فأجفل لأول وهلة؛ لأنه ظنها قد زُفَّت إليه، فإذا بالضحاك قد عهد بمقود الفيل إلى عبدٍ كان بجانبه وأسرع نحو أبي مسلم متأدبًا، حتى إذا وقف بين يديه حياه تحية الأمراء وهمَّ بتقبيل يده، فمنعه أبو مسلم وابتدره قائلًا: «ما شأنك؟»
فضحك الرجل وقال بصوت ضعيف: «لا تخف؛ ليست مزفوفة إليك.» ثم رفع صوته وقال: «أليس هذا معسكر ابن الكرماني؟!»
فصاح فيه خالد: «قبَّحك الله! ألا ترى الأعلام السوداء؟»
فتظاهر الضحاك بالدهشة وقال: «لقد أخطأنا الطريق. أظن أن معسكر الكرماني ذاك!» وأشار بيده إليه ثم تشاغل بحكِّ قفاه، وظل واقفًا مطرقًا.
فقال خالد: «نعم.»
وأدرك أبو مسلم مما بينه وبين الضحاك في شأن جلنار أنه لم يأت إليه إلا لغرض، فمشى وتبعه الضحاك، وظل خالد في مكانه، فلما انفردا قال الضحاك: «إن هذه المسكينة مزفوفة إلى ابن الكرماني رغم إرادتها، وقد أوصتني أن أحتال لها في الدنو من معسكرك لكي تراك؛ لأن قلبها.» وتنحنح ثم قال: «وإذا أرسلت نظرك إلى القبة رأيتها تنظر إليك من خلال الستائر خلسة؛ فانظر إليها من باب العلم بالشيء.» وضحك.
فرفع أبو مسلم نظره إلى القبة، وكانت قد صارت على نحو خمسين خطوة منه، فرأى وجهًا مطلًّا من خلال الستائر، إذا شبهناه بالقمر ظلمناه؛ لأن القمر صحيفة لا ماء فيها ولا حياة. ولو كان لأبي مسلم قلب يهوى ما استخفَّ بعواطف تلك الفتاة المستهامة، ولكنه خُلق من عقل ودهاء وطمع وكبرياء، وابتعد قلبه عن محبة النساء. ولا نظن أن قلبه قد عرف نوعًا من أنواع المحبة، وإنما هو قلب يهوى العُلَى، ويهوِّن سفك الدماء، ولا يتحكم في نفسه إلا عقله من حيث الدهاء؛ التماسًا لما يتوقعه من الظفر القريب.
أما تلك الفتاة المفتونة فقد خلقت بقلب كبير، ولم تتحرك عواطفها قبل أن تعرف أبا مسلم. والحب كله رجاء، والمحب واسع الأمل. وقد زادها الضحاك أملًا بما نقله إليها من حب أبي مسلم، فاستسهلت كل صعب في سبيل مرضاته، فقبلت أمر أبيها ورضيت بالزفاف إلى ابن الكرماني تقرُّبًا من معسكر حبيبها، وعملًا بإرادته، وأوصت الضحاك أن يحتال في الوقوف هناك ليعلم أبو مسلم أنها جاءت إلى الكرماني صورة، وأن قلبها مع أبي مسلم. فلما رأته ينظر إلى قبتها اختلج قلبها في صدرها، وتوهمت أنها رأت أبا مسلم يبتسم لها ويحييها، فدمعت عيناها وأرخت الستائر وتحوَّلت إلى الداخل، وريحانة معها ولم يخفَ عليها شيءٌ من أمرها.
أما الضحاك فإنه أحنى رأسه بين يدي أبي مسلم وقال: «ثق بعبدك، وكن على يقين بأني سأخدمك بما يسرُّك.»