جلنار
وذات ليلة من ليالي رجب المقمرة من سنة ١٢٩ﻫ، كان الدهقان جالسًا في تلك القاعة بين تلك الأعمدة، وقد فرشوا المكان بالسجاد وفوقه الوسائد المزركشة بالذهب، وفي وسط القاعة شبه منضدة من خشب الصندل المرصع بالأصداف الملونة، وعلى المنضدة تمثال صغير من الذهب يشبه فارسًا فارسيًّا عليه الدرع، وعلى رأسه الخوذة، وإلى جنبه السيف. وعينا الفارس وعينا الجواد من الحجارة الكريمة. وقد علقوا في سقف القاعة عدة مصابيح بينها مصباح كبير في وسطها، فأضاءوا المصابيح في تلك الليلة كالعادة، ولكن القمر أغناهم عن نورها.
وكان الدهقان جالسًا في صدر القاعة على وسادة من الحرير، وعليه قباء من الديباج الأحمر، وعلى رأسه قلنسوة من الجلد الملوُّن، وحول القلنسوة عمامة صغيرة من نسيج الكشمير يغلب فيها اللون الأبيض. وكان القباء مُبطَّنًا بالفرو؛ لأنهم كانوا في فصل الربيع. وكانت تلك الليلة باردة، فالتف الدهقان بقبائه وبالغ في الالتفاف حتى غطى الفرو عنقه ومعظم لحيته. وكان كبير الوجه، جاحظ العينين، ضخم الأنف، أشقر الشعر، وقد خالطه الشيب قليلًا، فيحسبه الناظر إليه في الخمسين من عمره وهو فوق الستين. وبعد أن جلس هناك وحده ساعة، نهض بغتةً ودخل يطلب غرفة ابنته، فبُغت الخدم لقيامه وتفرقوا من بين يديه، ثم وقفوا احترامًا له. وكانت جلنار قد ذهبت إلى غرفتها بعد العشاء وبعثت إلى ماشطتها الخاصة، فجاءتها وأعانتها على خلْع ثيابها ونزْع حُلِيِّها، ثم جلست إلى جانب فراشها لتُحادثها ريثما تنام وقد آن وقت النوم، ولكن جلنار احتالت في الذهاب إلى الفراش؛ لتخلو بماشطتها وتحدِّثها بما في نفسها.
وكانت جلنار على جانب عظيم من الجمال، مستديرة الوجه، ممتلئة الجسم، معتدلة القامة، بيضاء البشرة مع حمرة تتلألأ تحت ذلك البياض، سوداء الشعر مسترسلته، نجلاء العينين كحلاءهما، مع جاذبية وحلاوة يندران في البيض؛ لأن الجاذبية تغلب فى السُّمر. وكان لها في مقدم الذقن فحصة، وإذا ابتسمت ظهر لها إلى جانب الفم فحصتان هما الغمازتان.
فلما فرغت الماشطة من تبديل ثيابها، ألبَسَتْها قميصًا من الحرير الناعم وردي اللون، وحلت شعرها وسرَّحته بمشط من العاج، فاسترسل إلى كتفيها، ثم ضفرته ضفيرة واحدة لئلا يضايقها أثناء النوم. وكانت الماشطة من أهل الذكاء والعقل، وأصلها سُرِّيَّة ابتاعها الدهقان في جملة جوارٍ بيض من بعض تجار الرقيق الذين يتَّجرون بالمماليك من بلاد الترك والخز، ولكنها تمكَّنت بذكائها وأسلوبها من اكتساب ثقة الدهقانة جلنار حتى جعلتها ماشطتها. والماشطة من أصحاب النفوذ الأكبر في بيوت الدهاقين؛ لأن نساءهم يُفضين بأسرارهن إلى الماشطة، ويعتمدن عليها في المهام العظام. فإذا كانت من أهل الذكاء والدهاء ملكت زمام القصر، وسيطرت على الدهقان والدهقانة.
وكانت ماشطة جلنار، واسمها ريحانة، قد ملكت ثقة سيدتها، وتمكنت من محبتها، ولا سيما بعد وفاة والدتها، فأصبحت ريحانة مركز آمالها وخزانة أسرارها، فلما فرغت من تبديل الثياب استلقت جلنار على فراش أنيق من ريش النعام، غطاؤه سماوي اللون، فغرقت فيه، واتكَأَتْ بذراعها اليسرى على وسادة مزركشة، وأسندت خدها على كتفها، وتغطت باللحاف إلى أسفل الكتف، وأرسلت يدها اليمنى فوقه. وقد نزعت من معصمها أكثر الحلي إلا الأساور، وانحسر الكم عن زندها فظهر بضًّا أبيض. فتوسدت على تلك الصورة ووجهها نحو ريحانة. وكانت ريحانة قد لفت رأسها وحول عنقها بخمار من نسيج الكشمير، ولبست دراعة مستطيلة تحتها سراويل منتفخة على نمط ملابس الفرس في تلك الأيام، وليس عليها شيء من الحلي.
جلست ريحانة إلى جانب جلنار وقد تملكتها الدهشة لما آنسته من سكوتها وانقباضها أثناء تبديل الثياب، وكانت عادتها أن تغتنم مثل تلك الساعة للممازحة والمضاحكة. فلما رأت ريحانة سكوتها جارتْها في السكوت تأدبًا، وصبَّرت نفسها حتى تبدأ هي الحديث، مع علمها ببعض ما يجول في خاطر سيدتها من الهواجس. فلما اتكأت جلنار أشارت إلى ريحانة أن تغلق باب الغرفة، ففعلت وعادت إلى مكانها، ومدَّت يدها إلى شعر جلنار وجعلت تلاعبه بين أناملها، ثم مرَّت بيدها على رأسها وهي تنظر إلى وجهها وتبتسم كأنها تستفسر منها عن سبب ذلك السكوت. فقالت جلنار باللغة الفارسية — وكانت تعرف العربية مثل معظم أهل فارس في ذلك العصر؛ لأنها لغة الفئة الحاكمة، لكنهم كانوا يتفاهمون فيما بينهم بالفارسية لغة آبائهم — فقالت جلنار: «ما قولك في أبي …»
قالت ريحانة: «إنه يريد لك الخير.»
قالت: «صدقتِ، ولكني أراه شديد الرغبة في زواجي.»
فقالت ريحانة: «أتلومينه على ذلك؟ وأي أبٍ لا يريد أن يزوج بناته؟ وأنت — مِن نِعَم المولى — في رغَدٍ وسعادة، وأبوك أكبر دهاقين خراسان، وليس له سواك، وكلما جاءك طالب رفضْتِه، أفيُلامٌ أبوك إذا غضب.»
فتنهدت جلنار وكأنها أرادت السكوت، ولم يطاوعها قلبها فقالت وهي تتشاغل بإصلاح قميصها عند العنق: «وهل تظنين أني أكره الزواج؟ لكني أرى أن والدي لا يهتم في زواجي إلى غير مصلحته. وأنت تعلمين ذلك.»
فتجاهلت ريحانة وقالت: «لا أراه كما تقولين — يا مولاتي — لأنه إنما أراد زواجك بأكبر أمراء العرب في خراسان. ولا يخفى عليك أن هذا الأمير لا يطلب فتاة إلا نالها؛ لأنه الحاكم النافذ الكلمة، ومن تقرب منه اكتسب مثل هذا النفوذ.»
فقطعت جلنار كلامها قائلة: «وهذا ما أقوله. إن أبي يريد تزويجي بابن الكرماني؛ أمير هذا الجند؛ ليكتسب النفوذ عنده، وليكثر دَخْله من جباية الخراج. ثم إن الكرماني هذا لم يتم له الأمر؛ فهو ليس الأمير الحاكم، وإنما هو يطلب الحكم لنفسه، وما أدرانا أنه سوف يناله؟!»
قالت ريحانة: «أما ظفره بالإمارة فإنني واثقة من ذلك لمَا علمته من قوة جنده؛ فهو الآن يحاصر مرو؛ عاصمة خراسان، وقد ضيَّق على أميرها نصر بن سيار حتى فرَّ نصر من بين يديه، ولا يبعد أن يعود نصر إلى التسليم، فيصير الكرماني صاحب الأمر والنهي في خراسان، فتكونين حينئذ أميرة خراسان.»
قالت: «أراك تخلطين وتتخبطين. أَأَتَزوَّج ابن الكرماني على أمل أن أباه سيغلب أمير خراسان ويقوم مقامه؟ وما أدرانا أن الخليفة في الشام سيرسل جندًا ليحارب الكرماني هذا ويقهره. فكيف تكون حالنا؟»
فابتسمت ريحانة وقالت: «أما من ناحية الخليفة في الشام، فكوني على يقين من أنه لن يحرك ساكنًا لاشتغاله بما حوله عما هو بعيد عنه؛ فقد علمت من خادمك الضحَّاك أنه لما تولى الخليفة الحالي مروان بن محمد قامت الناس عليه، حتى أهله ورجاله، وقد قضى زمنًا وهو يحارب ويغالب في بلاد الشام، ولم يستطع إخضاع تلك البلاد إلا بشق الأنفس، فهو لا يطمع في استرجاع خراسان إذا تغلب عليها رجل مثل الكرماني.»
قالت جلنار: «لقد ذكرتني بذلك المضحك. إنه خفيف الروح، وأراه — برغم أنه عربي — يعرف اللغة الفارسية جيدًا، ومع ما يظهر من بَلَهِهِ وضحكه المتواصل، وخفة روحه، فإنه بعيد النظر، ذو دهاء، ويمكن الاعتماد عليه. ومن الغريب أنه عربي وقد دخل في خدمتنا على هذه الصورة. أين هو الآن؟ استدعيه لعلنا نستفيد شيئًا من حديثه.»