العريس
ثم سمعتا صهيل الخيل وضوضاء الناس فأجفلتا معًا، ولكن ريحانة تشجعت وقالت: «يظهر أن الفرسان قد رجعوا من المعركة.» ثم خرجت حتى أطلت من باب الخباء وعادت وهي تقول: «لقد أتى الأمير على فرسه وهو مخضب بالدماء، كما قلت لك، وسيأتي إليك؛ فلا تجزعي.»
فقالت: «والضحاك لم يأتي بعدُ. أين هو؟ لقد تركنا في ساعة الحاجة إليه.»
قالت: «لا تلومي الغائب حتى يحضر!»
ثم جاء بعض الخدم من رجال الكرماني يحملون الشموع مغروسة في أعواد نصبوها في جوانب الخباء، فأضاء المكان وجلنار لا تستطيع الوقوف من شدة التأثُّر، فجلست وقد اصطكت ركبتاها، وإذا هي بالضوضاء تقترب من الخباء، ثم سمعت رجلًا يتكلم قرب الباب بصوت عالٍ يقول: «أين خباء عروسنا الدهقانة.»
فلما سمعت جلنار صوته تحققت أنه عريسها، فارتعدت فرائصها، وازداد اضطرابها، فتشاغلت بمطرفها تلفُّ به منكبيها، ويداها ترتعشان وقد بردتا، فخرجت ريحانة لاستقباله بالباب وقالت: «أهلا بالأمير الجليل. إن مولاي الدهقان يوصيك بابنته خيرًا، ويقول لك إنه قد عهد إليك بفلذة كبده؛ فكن رفيقًا بها.»
فقال: «لقد أوصى حريصًا. إن الدهقانة تنزل عندنا في أرفع منزلة وأعز مكان.» ومشى نحو الغرفة وهو يقول: «وأين هي؟»
فقالت: «هي جالسة في حجرتها، وقد أنهكها التعب على أثر السفر في أثناء النهار.»
فأدرك مرادها وقال: «إني إنما أطلب راحتها، ولكنني أحببت لقاءها والترحيب بها.» ودخل وقد تنسَّم رائحة الطيب.
وكانت جلنار جالسة وقد سمعت قوله، فسكن روعها وأطرقت وهي ترقب دخوله بجوارحها، فلما دخل حجرتها وأقبل عليها ورأى جمالها أخذت بمجامع قلبه، ولكنه هابها وقال: «مرحبًا بعروسنا. لقد أتيت أهلًا ونزلت سهلًا، وأرجو أن يكون مقامك عندنا أمتع من مقامك في بيت أبيك.»
فرفعت جلنار بصرها إليه لترى وجهه والحياءُ يُغالبها، فرأت شابًّا في نحو الثلاثين من عمره، قصير القامة، عريض المنكبين، وقد توشح بعباءة من الحرير، وتقلد السيف، وغرس الخنجر في منطقته، وعلى رأسه عمامة حمراء، وكان مستدير الوجه واللحية، دقيق الشاربين، وقد ذهبت إحدى عينيه. فلما دنا منها جلس على البساط أمامها ووضع السيف على حجره وقال: «لا بأس عليك يا جلنار، أرجو أن يذهب عنك تعب السفر الليلة، وأن يكون مجيئك فأل خير على هذا المعسكر؛ فقد وصلتِ والحرب قائمة بيننا وبين صاحب مرو، وعدنا من هذه المعركة ظافرين بعون الله؛ فعسى أن يأتينا الفتح على يديك وببركة مجيئك.»
وكانت جلنار مطرقة حياء وتلعثمًا لا تدري بماذا تجيب. وفُتح على ريحانة برأي توسَّمت من ورائه فرجًا، فأجابت عنها قائلة: «ذلك ما نرجوه أيها الأمير البطل؛ فقد قدمنا ونحن نتوقع أن يكون مقامنا في مدينة مرو؛ فعسى ألا تطول إقامتنا في هذا المعسكر.»
فتحمس عليٌّ وقال: «لو تقدم مجيئكم يسيرًا لنزلتم توًّا في مرو، وقد كانت في قبضتنا فخرجت من أيدينا منذ أيام، ولكنها ستعود إلينا، بإذن الله.»
فأدركت جلنار غرض ريحانة من ذلك التعريض، فقالت والحياء يُغالب منطقها: «فكان مجيئنا شؤمًا عليكم؛ فكيف تتوقعون أن يكون بركة؟ ولو كان كذلك لما كان نزولنا في غير دار الإمارة في مرو.»
قال: «عفوًا أيتها الدهقانة. إن مجيئك بركة وفأل حسن، وأنا على يقين من ذلك، وسترين صدق قولي.»
قالت: «أنت صادق، ولكنَّا علِمْنا شؤم مجيئنا من النبال التى رأيناها تتساقط حولنا منذ أُنيخت المطايا بنا.»
فازداد عليٌّ حماسة وأريحية، وهان عليه كل صعب في سبيل رضاها، وقال: «إنك ستبيتين غدًا في دار الإمارة، بإذن الله.» قال ذلك إرضاءً لخاطرها، ولم يدرِ أنه قيد نفسه بوعد دون الوصول إليه خرط القتاد، فلم تغفل ريحانة عن اغتنام تلك الهفوة، فنظرت إلى مولاتها وهي تظهر الإعجاب بأريحية عليٍّ وقالت: «إن الأمير يا مولاتي قد قال — وقوله عهد — إنك لا تبيتين غدًا إلا في دار الإمارة.»
فقال علي وقد أخذ الهيام منه مأخذًا عظيمًا واستسهل الصعب: «نعم. لا تبيتين إلا في دار الإمارة.» ثم أدرك تسرُّعه فأراد أن يوسِّع على نفسه فقال: «وأعاهدك على الأقل أني لا أتمتع بهذا الوجه الجميل إلا في تلك الدار.»
فأطرقت جلنار حياءً وتشاغلت بالعبث بأهداب المطرف وسكتت، فأجابت ريحانة عنها قائلة: «بورك فيك من شهم حرٍّ. والحرُّ إذا عاهد وفى.»
فنهض وقد ثارت النخوة في رأسه وقال: «أستودعك الله، وسترين بلائي غدًا؛ فاذهبي الآن إلى فراشك واستريحي.» ثم خرج وهو يجر سيفه وراءه.
فلما توارى نظرت ريحانة إلى سيدتها وهي تبتسم، وقالت لها بالفارسية: «ما قولك في هذا العهد؟»
قالت جلنار: «لا بأس به، ولكني أخشى أن يتمكن من دخول مرو غدًا.»
قالت ريحانة: «لا أظنه يستطيع، وإذا تمكن من ذلك كان جديرًا بك؛ إذ لا يكون لأبي مسلم حينئذ شأن.»
فقطعت كلامها وقالت: «لا تقولي ذلك. إن أبا مسلم وهو مكبَّل بالأغلال أحب إليَّ من سواه ولو كان يتربع على عرش كسرى.»
فتأثرت ريحانة من تعلُّقها بأبي مسلم إلى هذا الحد وقالت: «دعي ذلك إلى تدبير العزيز الحكيم. وإن غدًا لناظره قريب. ولكن غياب الضحاك قد شغل خاطري، وهو إنما جاء معنا ليكون في خدمتك. قومي الآن لنتناول الطعام ثم ننظر ماذا يكون.»