أبو مسلم في خلوته
تركنا أبا مسلم في معسكره فرِحًا بما أُوتيه من نجاح حيلته بالكرماني، فلما تفرَّق عنه النقباء إلى خيامهم بعد العشاء، ظل هو في غرفته وحده يُعمل فكرته في إتمام مشروعه للتفريق بين تلك الجيوش المحيطة بمرو. وكان إذا خلا إلى نفسه ربض كالأسد وأخذ في تدبير الأمور بدهاء يندر مثاله بين الناس، فإذا ملَّ الجلوس وقف وتمشى ذهابًا وإيابًا كأنه نمرٌ كاسر حُبس فى قفص من حديد، وقد جاع وفريسته على مقربة منه، وهو يتحفز للوثوب عليها. ولو نظرت إلى أبي مسلم في تلك الساعة لرأيته عابسًا يكاد يزمجر غضبًا، ويخيَّل لك أنه لو أراد الابتسام لعصَتْه غضون وجهه، ولو أمكنك الاطلاع على ما في نفسه تلك الليلة لرأيته يخوض بأفكاره في بحور من الدم، فيقضي على هذا بالقتل وذاك بالأسر؛ لا يبالي إذا حالَ أحدٌ دون غرضه أن يقتله ولو كان أخاه أو أباه. وكان وهو يتنقل في تدابيره يرى شبح الضحاك نُصب عينيه، ويتوقع أن يراه قادمًا إليه بحيلة يُظنها الضحاك فتحًا جديدًا، وهي عند أبي مسلم قديمة. وأبو مسلم يظهر إعجابه بفطنته تشجيعًا له على خدمة أخرى، والضحاك يتوهَّم أنه يخفي حقيقة مساعيه عن أبي مسلم، وما علم أن هذا الخراساني يقرأ كل ما يجول في خاطره، وقد يدرك ما سيأتي به إليه، أو يشير به عليه، وأنه إنما يظهر له استحسانه وإعجابه دهاء ومكرًا، ولا يسايره إلا على شكٍّ، وقد أضمر سوء الظن به؛ لأن الناس أعداء بعضهم لبعض، كلٌّ منهم يترصد من صاحبه غفلة يغتاله، وبخاصةً في ذلك العصر، وقد اختلفت العناصر، وتباينت المقاصد، وصدرت وصية الإمام إبراهيم بالقتل لمجرد الشكِّ.
وبينما كان أبو مسلم غارقًا في عالم الخيال وهو يتمشى وبيده قضيب يلاعبه بين أنامله إذ جاءه الحارس قائلًا: «إن بالباب رجلًا يطلب مقابلتك.» فأدرك أنه الضحاك، فأذِن له فدخَل وقد تنكَّر بقلنسوة من قلانس الفرس فوقها عمامة صغيرة كأنَّه من كهنة المجوس. فلما أقبل عليه رحَّب به وبشَّ له؛ تخفيفًا لرعبه، ولكن الضحاك قرأ في احمرار عينيه وتغضُّن جبينه ما دله على أهمية الأمر الذي يفكر فيه، فوقف متأدبًا، فخاطبه أبو مسلم قائلًا: «أهلًا بصديقنا الضحاك.»
فأعظم الضحاك هذا التنازل من أبي مسلم، وبالغ في التأدب في موقفه وقال: «إني لا أستحق هذا الإكرام — يا مولاي — وإنما أنا عبدك وأبتغي رضاك.»
قال أبو مسلم: «ومتى كان العربي يُستعبد للفارسي؟»
فوجم الضحاك لحظة ثم قال: «إن المسلمين أخوة، وإنما يفضلون بالتقوى والجهاد. وقد ذهبت الدولة التي تحسب أن للعرب مزيدًا على غير العرب، وكانت عصبيتهم للعرب سببًا في ذهاب سلطانهم، وكيف لا أكون عبدًا لبطل خراسان؛ صاحب دعوة الإمام؟!»
فضحك أبو مسلم وهو يجلس، ثم أشار إلى الضحاك فجلس جاثيًا على ركبتيه وقد أطرق وسكت، فابتدره أبو مسلم قائلًا: «ما وراءك يا ضحاك؟»
قال الضحاك: «ما ورائي إلا الخير، وقد جئتك مهنئًا بما أُوتيت من الفوز الباهر. وإنني على استعداد لتلقي الأوامر لعليَّ أنفذ لك أمرًا.»
قال: «إنما نحن مدينون بهذا الفوز لتدبيرك وسعيك، وإذا تمَّ لنا النصر جعلناك في منصب يليق بأمثالك.»
قال الضحاك: «لا ألتمس إلا رضا مولاي الأمير؛ فمرني بما تشاء.»
قال: «قل ما الذي تراه الآن. لقد أعجبني سداد رأيك بالأمس.» فأطرق الضحاك هنيهة كأنه يُعمل فكرته ثم قال: «ألا ترى، بعد أن قُتل الكرماني، أن تتخلص من ابنه فيخلو لك الجو؟!»
قال: «وشيبان.»
فضحك الضحاك وهو يقول: «شيبان؟ وما شأن هذا الخارجي أمام سطوتك؟ إنه ليس ممن يحسب لهم حساب.»
قال: «كيف لا وهو صاحب جند وعصبية مثل الكرماني.»
قال الضحاك: «إذا قتلت ابن الكرماني، فعليَّ تدبير أمر شيبان.»
وكان أبو مسلم في أثناء حديثه ينظر إلى قلنسوة الضحاك وفي نفسه أن يعلم ما تحتها، وقد لحظ من وراء حافتها أن رأس الضحاك حليقًا، فأومأ بقضيب إلى القلنسوة وقال: «ومن أتاك بهذه القلنسوة؟» وأظهر أنه غمَزها بالقضيب سهوًا فسقطت، فبان رأسه حليقًا، فوثب الضحاك وقد بُغت وتظاهر بالمجون، وبادر إلى القلنسوة فأعادها إلى رأسه حالًا وهو يقول: «وقد انتظمت في سلك المجوسية من عهد قريب.»
فتجاهل أبو مسلم ما استطلعه من حلق رأسه وتضاحك وقال: «إن الكهانة خليقة بالفرس وليس بالعرب.»
فأصلح الضحاك قلنسوته وقد امتقع لونه من تلك المفاجأة، ولكنه صدَّق أن أبا مسلم إنما فعل ذلك سهوًا، فقال: «إن الرجل يغير زيَّه في سبيل تحقيق هدفه، ولو لم ألبسها ما استطعت الوصول إلى خيمتك.»
فتظاهر أبو مسلم بتصديقه وقال: «إنك لتعجبني بجدك وهزلك! فلنَعُد إلى الجد. قل لي إذا أردنا التخلص من ابن الكرماني؛ فما الحيلة؟»
قال: «إن قتل هذا الرجل هينٌ وصعب في نفس الوقت.»
قال أبو مسلم: «وما معنى ذلك؟»
فقال الضحاك: «إذا أطعتني فيما أشير به كان قتله وقتل كل من في معسكره أهون من قطع الخيط.»
قال أبو مسلم: «وكيف ذلك؟»
قال: «ألا تذكر — يا مولاي — جلستنا في منزل دهقان مرو؛ إذ قلت لك إن إظهارك الرضا لهذه الفتاة المفتونة سيكون عونًا لك في تنفيذ مأربك؟»
فأدرك أبو مسلم غرضه، ولكنه تجاهل وقال: «نعم أذكر ذلك، ولكنني لم أفهم مرادك.»
قال: «مرادي أنه يكون لك بها نصير في خيمة ابن الكرماني وعلى فراشه.»
قال: «أتظنُّها تساعدنا على قتله؟»
قال: «نعم — يا سيدي — أنا أضمن ذلك على شرط.»
قال: «وما هو ذلك الشرط.»
قال: «ذلك شرط هين؛ تُرسل إلى هذه الفتاة علامة تؤكد لها رضاك عنها، وأن قتل ابن الكرماني يُرضيك، وأنا أُتمم الباقي.»
قال: «وما هي العلامة التي تعنيها؟»
قال الضحاك: «علامة تعرف أنها منك.»
فنظر أبو مسلم إلى الضحاك نظرةً كشف بها أسرار قلبه كما يكشف أصحاب أشعة «رونتجن» ما وراء الجوامد وقال: «لا أظنها تقنع منك بغير خاتمي.»
قال: «تلك خير علامة نحقق بها ما نهدف إليه.»
فأطرق أبو مسلم كأنه يتردد في عزمه ثم قال: «أتعلم أهمية هذا الأمر؟ أتعلم أني إذا دفعت إليك خاتمي أكون قد سلَّمتُ إليك أمري؟»
قال: «أعلم ذلك يا مولاي، ولو علمت أن الأمر يُقضَى بدونه لفعلته.»
فأخرج أبو مسلم الخاتم من إصبعه ودفعه إليه وهو يقول: «هذا هو. خذه وامض مسرعًا، وعد إليَّ به الليلة؛ فإني لا أبيتُ بدونه.»
فوقف الضحاك إجلالًا، وتناول الخاتم وقبَّله ووضعه على رأسه وهو يقول: «ربما لا أستطيع لقاء الدهقانة الليلة؛ فآتيك في الصباح ومعي الخاتم، بإذن الله.»
قال: «سر في حراسة الله.»
ثم استأنف الكلام قائلًا: «انتظر هنا ريثما أعود إليك.» قال ذلك وخرج من باب سري في تلك الغرفة، وظل الضحاك واقفًا وقلبه يفيض سرورًا لما توهَّمه من نجاح أمره، وأصاخ بسمعه لعله يشعر بحركة أو يسمع صوتًا يستدلُّ به على شيء، فلم يسمع شيئًا، ثم عاد أبو مسلم وهو يقول: «سر يا ضحاك، وإذا وُفِّقت في خدمتنا كافأناك، ولكن (وخفض صوته) متى استوثقت من موافقة الفتاة لك، دعْها لا تتعجل الأمر، بل تنتظر منا إشارة أخرى. فهمت؟»
قال: «سمعًا وطاعة.» وخرج واحتذى نعله في الخارج ومضى.