ترقب وانتظار
أما ما كان من أمر جلنار، فإنها أصبحت في ذلك اليوم وقد تهيَّأ الجيشان للنزال، وهي تخاف أن ينتصر الكرماني، فإذا انتصر تعرقلت مساعيها وخابت آمالها، فوقفت مع ماشطتها بحيث ترى المعركة عن بُعد، فرأت ضعف جند الكرماني، ثم رأته عاد إلى معسكره ثم رجع وكاد ينتصر فخافت. وأخيرًا علمت بما كان من قتْله، كما تقدم في وصف المعركة، ثم شاهدت ضعف عسكره وهجوم ابنه عليٍّ واتحاده مع أبي مسلم، فاستغربت ذلك ولم تستطع تفسيره، فعادت إلى خبائها مع ريحانة وقد انقبضت نفسها، وقالت لها بالفارسية: «ما الذي أراه يا ريحانة؟ أليس أبو مسلم ينصر صاحبنا؟»
قالت: «لا يغرك ما تشاهدينه. إنها حيلة من أبي مسلم، ومتى جاء الضحاك يفسِّر لنا كل ذلك.»
فدخلتا الخباء وهما صامتتان لا تدريان كيف تفسران ما شاهدتاه، ولكنهما صبرتا ريثما يأتي الضحاك. فلما غربت الشمس ولم يأتِ، انقبضت نفس جلنار ولم تستطع طعامًا ولا شرابًا، وريحانة تخفِّف عنها وتُمنِّيها بالمواعيد، ثم سمعتا قرقعة اللجم وصهيل الأفراس بباب الخباء فأجفلتا وعلمتا أن عليًّا قادم برجاله، فمكثتا صامتتين، وإذا بباب الخباء قد انفتح ودخل علي وثيابه ملطخة بالدماء، وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا، فخافت جلنار من منظره ولم تعلم بماذا تخاطبه في تلك الحال وقد قُتل أبوه، فرأت أن تتجاهل فلبثت صامتة. أما ريحانة فتجلَّدت واستقبلت عليًّا وقالت: «أحسن الله عزاء الأمير. إن من يُقتل في ساحة الوغى ويخلف مثلك لم يمت؛ لأنك آخذ بثأره.»
فأعجبه قولها وقد سرَّى عنه، والتفت إلى جلنار وقال: «لنا ببقاء عروسنا الدهقانة أكبر عزاء. أما والدي فسوف نأخذ بثأره من أولئك الأنذال، وما هي إلا أن تطلع الشمس ونعود إلى القتال، فلا تغرب إلا ونحن في دار الإمارة، بإذن الله.» قال ذلك وهو يصلح خوذته على رأسه، وأشار إلى جلنار أن تجلس وهو يحاول الابتسام، رغم ما جاش في صدره من الأسف على قتل والده، وكأنه تسلَّى عن ذلك برؤية جلنار؛ لأنه أحبها كثيرًا. والحب خير ما يسرِّي عن الإنسان، وهو أيضًا أصل متاعبه؛ فلولا الحب لم تكبر النفوس، ولا اتَّسعت المطامع، وإذا كبرت نفس المرء فإنما يؤثر البقاء من أجل محبوبه. ولو تدبَّرت أحوال الناس لرأيت الحب محور معاملاتهم، وسبب ملذاتهم ومتاعبهم.
والإنسان إذا تجرد من الحب رأى الحياة من العبث، فتصغر نفسه وتنحصر مطامعه في الطعام والشراب، فيشارك الحيوان في الاقتصار على لوازم الحياة، فإذا ملأ جوفه أخلد إلى الخمول، ولا يتحرك حتى تنهضه لواعج الحب، فيطلب العُلى، ويرى الحياة ثمينة فيتحمل المشاق في سبيل البقاء. والحب ريحانة النفس ومهذبها، ورافعها من حضيض الحيوانية إلى أعلى مراتب السمو، ولكنه لا تتمكن عُراه إلا إذا تألفت القلوب، وتوافقت لُغاتها، وتم التفاهم فيما بينها. وقد تتفاهم في لحظة بلا لسان ولا بيان، فتنفتح للمحبين أبواب النعيم والشقاء معًا. وإذا لم تتفاهم القلوب بلسانها عجزت الألسنة وخابت المساعي في سبيل تآلفها؛ فلا لذة هناك ولا شقاء. وينفرد بالشقاء دون اللذة محب تقيَّد قلبه وظل قلب حبيبه مطلقًا؛ قلبه يتكلم وقلب حبيبه أصم، مثل حال ابن الكرماني لو علم بنفور جلنار منه وتعلُّقها بسواه. وإنما أخَّر شقاءه جهله بما في ضميرها، واعتقاده بأن الحب متبادل بينهما. ولو سمع مثل تلك التعزية من فمها لذهب حزنه، ونسي مصيبته، على أنه حمل سكوت جلنار عن الحديث معه محمل الحياء، فعذرها واكتفى بما سمعه من ريحانة.
أما جلنار فلم يسعها عند سماع ما قاله عليٌّ عنها إلا أن تجيبه قائلة: «إن العزاء ببقاء مولاي الأمير، حفظه المولى وأعانه على الأخذ بالثأر.»
فلما سمع قولها انشرح صدره وقال: «إني سأثأر لأبي بما يسرك.» ثم صفق فجاءت قيِّمة الخباء، فأمرها أن تحسن رعاية الدهقانة وتلبي مطالبها في كل ما تحتاج إليه، ثم تحوَّل وخرج للاهتمام بأمر الجند والاستعداد للحرب في الغد.
فلما خرج ظلت الدهقانة صامتة وقد تحرَّك خاطرها شفقة على ذلك الشاب لما تُضمره له من الشر، ثم خشيت أن يميل قلبها إليه فتمثلت صورة أبي مسلم في ذهنها، فهاجت عواطفها وذهب رسم عليٍّ من ذهنها، ولم تتمالك عند انفرادها بريحانة أن قالت بالفارسية: «متى يأتي الضحاك لنسأله عما شاهدناه في هذا النهار؟»
قالت ريحانة: «لا يلبث أن يأتي، وقد أوصانا بالأمس ألا نستبطئه إذا غاب.»
قالت: «إن لهذا الرجل لشأنًا؛ فقد جاء ليكون في خدمتي وأراه يقضي معظم وقته خارجًا!»
فقالت ريحانة: «إذا غاب يا مولاتي، فإنما يغيب في خدمتك أيضًا. هكذا فعل بالأمس؛ فلا تلومي الغائب حتى يحضر.»
فقطعت جلنار كلامها قائلة: «إني — والحق يقال — لم أر مثل إخلاص هذا العربي في خدمتنا. والغريب أنه عربي ولم يستنكف أن يكون من موالينا.»
فقالت ريحانة: «إن العرب ليسوا الآن كما كانوا من قبل؛ فقد انحلت عصبيتهم، وانقسموا فيما بينهم، ودالَتْ دولتهم. ألا تذهبين إلى المائدة؟»
فنهضت جلنار ومشت وهي تقول: «نذهب إلى المائدة نتلهى بالطعام ريثما يعود ذلك المهذار.»
فمشت ريحانة في أثرها وهي تتمتم قائلة: «لا أظنه مهذارًا.»
تناولتا الطعام وقضَتَا برهة تتشاغلان بالأحاديث، وكلما سمعتا وقع أقدام تظنان أن الضحاك قادم، حتى طال انتظارهما وغلب عليهما النعاس، فذهبت جلنار إلى الفراش وتوسدت، وظلت ريحانة جالسة بين يديها والنعاس يُغالبها والقلق يُنبهها، فانقضى هزيع من الليل ونام أهل المعسكر وساد السكوت، وسكت القصَّاصون والقُرَّاء ولم يأت الضحاك، ثم غلب النعاس على جلنار فنامت، وظلت ريحانة جالسة وعيناها مغمضتان من مقاومة النعاس، وقد ثقلت أجفانها وتطأطأ رأسها رغم إرادتها، ونامت نومًا متعبًا وهي منتبهة الحواس إذا سمعت خربشة استيقظت مذعورة؛ لشدة قلقها على غياب الضحاك.