أمر شاقٌّ
وفي إحدى غمضاتها توهمت أنها تسمع ضحكة الضحاك فذُعرت وفتحت عينيها، فإذا هو واقف بإزاء عمود الخباء وكأنهما عمودان، فهمَّت بأن تصيح فيه، ولكنها فطنت لنوم سيدتها، فخشيت أن توقظها وترعبها، فاقتربت منه وقالت بصوت منخفض: «سامحك الله على هذا الغياب.»
فمشى وهو يشير إليها بيديه أن تتبعه، فتبعته حتى خرجا من تلك الغرفة إلى غرفة أخرى ليس فيها نور. وكانت تبطئ في مشيتها، فأمسكها من يدها وشدَّها وهو يقول: «لا تخافي. لا بأس عليك.»
قالت: «دعني أحمل إليك السراج؛ لأرى وجهك وأسمع حديثك معًا.»
فضحك وقال وقد ترك يدها: «ما أشد شوقك لرؤية هذا الوجه! حسنًا، هاتي السراج.»
فعادت وهي تمشي على أطراف أصابعها حتى حملت السراج من غرفة جلنار وجاءت به إلى تلك الحجرة، فثبتته بجانب العمود وجلست، فجلس الضحاك — وكان قد أبدل القلنسوة بالعمامة التي يعرفه بها أهل ذلك المعسكر — فابتدرته قائلة: «لقد طال غيابك الليلة، ونحن في قلق، ومولاتي الدهقانة نامت منقبضة النفس على أثر ما رأته من نُصرة أبي مسلم لجند الكرماني.»
فقطع الضحاك كلامها وقال: «ألم يُقتل الكرماني؟ تلك هي نتيجة تأييده له، وإذا طالت مساعدته لهذا البيت أجهز على أهله واحدًا بعد واحد.»
فلم تفهم ريحانة ما قاله، فقالت: «بالله لا تكلمني بالألغاز؛ أفصِحْ.»
قال: «قبَّحك الله ما أقل فهمك! إلى متى أُفهمك وأنت لا تفهمين. إن هذا الخراساني ما تقرَّب من قوم إلا أبادهم في سبيل مصلحته. لقد أظهر أنه نصير للكرماني حتى يستعين به على صاحب مرو، ولم يكن قصده أن يُقتل بسرعة، ولكن الأقدار عجلت به.»
قالت: «إن مولاتنا الدهقانة في قلق شديد بسبب غيابك بعد ما علمته من مقتل الكرماني، فهل أوقظها لسماع حديثك؟»
قال: «سأوقظها بعد قليل، وإنما أريد أن أبوح إليك بأمرٍ أرجو أن تساعديني عليه خدمة لمولاتنا.»
فقالت: «ماذا تريد؟»
قال: «إن مقتل الكرماني إنما كان بمسعاي أنا توطئةً لمقتل ابنه؛ كي يرضى علينا أبو مسلم، فتنال مولاتنا ما تتمناه.»
قالت: «أنت سعيت في قتل الكرماني؟ لله ما أقدرك! والآن تريد أن تقتل ابنه! وكيف تستطيع ذلك؟»
فضحك وقال: «لا أستطيع ذلك إلا بمساعدتك.»
فبُغتت وقالت: «لعلِّي من أهل السيف؟»
قال: «إن القتل لا يكون بكثرة الجند يا ريحانة، وإنما ينال الإنسان ما يريد بالدهاء والصبر، وأنا الآن آتٍ من عند أبي مسلم، وقد وعدتُه بقتل ابن الكرماني؛ لأنه أصبح يتوقع ذلك منَّا منذ لقيته للمرة الأولى وخاطبته بشأن مولاتنا الدهقانة؛ إذ أخبرته بأنها ستكون عونًا له في نجاح مهمته، وليس ثمة ما يسهِّل عليه تلك المهمة أكثر من قتْل آل الكرماني؛ لينفرد هو بالقوة ويتغلب على من بقي من جنود العرب. ولا يتم له ذلك إلا بهذه الطريقة.»
فأجفلت ريحانة لذلك الطلب، وسكتتْ ولم تُحِر جوابًا.
فلما رآها ساكتة وقف وقال: «دعيني أذهب إلى مولاتي جلنار؛ فإنها أعلم منك بأهمية هذا الطلب.»
فوقفت وهي تقول: «لا أظن أن الدهقانة توافق على قتل رجل يتفانَى في حبها إلى حدِّ العبادة بلا ذنب اقترفه نحوها، ولا هي تعوَّدت القتل. امكث هنا ريثما أوقظها ثم أدعوك.» وتركته ومضت، ثم عادت ونادته فتبعها والسراج بيدها حتى دخلت غرفة جلنار؛ وكانت قد جلست في الفراش والتفَّتْ بالمطرف، فدخلتْ ريحانة وكانتْ قد أخبرتها بمجيء الضحاك، فلما دخَلتْ سألتْها عنه فنادته، فدخل ووقف متأدبًا، فأمرته بالجلوس فجلس على طنفسة صغيرة عليها رسوم فارسية ملونة، وجعل ركبتيه تحته؛ وهي جلسة التأدُّب عندهم.