كشف المُعمَّى
أما هو فسار مسرعًا حتى خرج من المعسكر وقد ذهب نصف الليل، وأطلَّ القمر من وراء الجبال عن بعد، فانفرد الضحاك في مكانٍ نزع فيه جبته، وغيَّر قيافته، وحلَّ عمامته، ثم تعمم تعميمًا خاصًّا ومشط لحيته وشد منطقته في وسطه، وأصلح من شأنه حتى ذهبت عنه هيئة المجون، واتجه نحو معسكر شيبان الخارجي.
وكان معسكر الخوارج وراء معسكر الكرماني في منبسط من الأرض، والخوارج — كما لا يخفى — يذهبون إلى نزع السلطة من كل مسلم، ويرون أن الحكم لله وحده. يقولون ذلك ويطلبون السلطة لأنفسهم، فغرضهم مثل أغراض سائر طلاب الخلافة في ذلك العهد، ولو اختلفت الأسباب. وكان زعيمهم شيبان قد جاء برجاله وحاصروا مرو قبل مجيء أبي مسلم — كما تقدم — وجاء الكرماني فتنازعا على مرو.
وكان نصر بن سيار؛ صاحب مرو، من أهل الدهاء والحزم، فكان إذا خاف أحد العدوين استعان عليه بالعدو الآخر، فلم يستطع أحدٌ منهما أن يتغلَّب عليه.
وكان الضحاك من أمراء الخوارج، شديد التمسك بمذهبهم، فلما تحقق من امتناع مرو على أصحابه، وبلغه سعي الكرماني في زواج ابنه من ابنة دهقان مرو منذ أشهر، رأى أن يحتال في قتل الكرماني غيلة، وخطَر له أن يتنكر ويدخل في خدمة ذلك الدهقان، ويحبب نفسه إلى الدهقانة حتى تستأنس به، ويكون في جملة مَن يُحمل معها من الخدم والعبيد إلى بيت زوجها، فيتقرب من الكرماني، ويغتنم غفلته واطمئنانه ويقتله، فيشتد أزر الخوارج وينفردوا بمحاربة مرو؛ فيتم لهم النصر، فاحتال حتى بِيع للدهقان في جملة مماليك بيعوا له، وبذل جهده بالتقرب من الدهقانة بواسطة ريحانة بما كان يبديه من المجون ونحوه، حتى وثقت الدهقانة به كل الثقة، وصارت تعهد بأسرارها إليه. وكان يحرض ريحانة على تحبيب ابن الكرماني إلى سيدتها.
وبينما هو يسعى في ذلك جاء أبو مسلم إلى الدهقان ونزل عنده، فاطلع الضحاك على مقاصده، وعرف قوته، فأعمل فكرته في تدبير الحيلة، ثم كلفته ريحانة مخابرة أبي مسلم بشأن زواجها به، كما تقدم، فرأى أن يستعين بأبي مسلم على قتل الكرماني وابنه بواسطة جلنار، فشجعه على الإفادة منها، ونقل إليها خبر رضاه بها من عند نفسه، وأراد أن يستخدم الدهقانة لقتل الكرماني وابنه، وغيرهما إذا اقتضت الحال، ثم يتمكَّن من قتل أبي مسلم إذا ساعدته الأحوال، وإلا فيكتفي بقتل ابن الكرماني فيبقى اليمنيةُ بلا أمير، فيُحضهم على الاتحاد مع شيبان؛ لأنهم من العرب، وهم بالطبع يفضِّلون العرب على الخراسانيين، فينصرون شيبان، فينفرد أبو مسلم برجاله الخراسانيين، وهم قليلون، فيَغلبه الخوارج ويفتحون مرو لأنفسهم، ويتم لهم ما كانوا يأملونه من إخراج بني أمية من خراسان والاستقلال بها.
فلما جاء أبو مسلم إلى مرو، وعلم الضحاك أن أبا مسلم لا بد له من الاستعانة بالكرماني على شيبان ونصر، تظاهر بأنه على رأيه، وأشار عليه بالتفريق بين الأميرين، كما رأيت، وزعم أنه استنبط هذا الرأي من نفسه ليكتسب ثقة أبي مسلم؛ توصلًا إلى إغرائه بقتل ابن الكرماني بواسطة جلنار. وكان في خلال إقامته عند دهقان مرو، وبعد مجيئه إلى معسكر الكرماني، يتردد سرًّا إلى معسكر الخوارج، ويُطلع شيبان على تدابيره؛ ولذلك ظل شيبان بعد قدوم أبي مسلم إلى مرو هادئًا لا يحارب؛ عملًا بمشورة الضحاك بالانتظار؛ فإما أن يحارب أبو مسلم الكرماني فيفني أحدهما الآخر، فيخلو الجو لشيبان، أو أن يحتال الضحاك في قتل ابن الكرماني.