القصاص ورفيقه
وجلس شيبان في خيمته ينتظر مجيء الضحاك، فلما استبطأ مجيئه وقد مضى هزيع من الليل ضجر، وخشي أن يتغلب عليه النعاس وعلى أمرائه الساهرين معه لهذه الغاية، فأمر أحد غلمانه أن يأتيه بقصَّاص يتلو عليه بعض الأشعار أو القصص على سبيل التسلية، فذهب الغلام ثم عاد وهو يقول: «إنه سمع قصَّاصًا ينشد أشعارًا حماسية بصوت رخيم، ويضرب على الطنبور بأطرب الأنغام.»
فقال شيبان: «وأين هو؟»
قال الغلام: «هو بجانب فسطاط الأمير. ألا تسمع صوته؟»
فأصاخ شيبان بأُذنيه، فسمع نشيدًا مطربًا وصوتًا عاليًا يدوي في ذلك الليل الهادئ تتخلله أنغام الطنبور، فأمر الغلام أن يأتي به حالًا.
فخرج الغلام ثم عاد ووراءه شيخ طاعن في السن، طويل القامة، عريض المنكبين، عليه عمامة صغيرة، واسع اللحية والصدر، أبيض الشعر، وقد غطت لحيته معظم صدره، وعليه عباءة حمراء قصيرة، وبيده طنبور يضرب عليه بلباقة، ومعه رجل قصير القامة على رأسه عمامة كبيرة لها زائدتان عريضتان؛ إحداهما مرسلة إلى الوراء، والأخرى مدلاة على جبينه فوق عينيه؛ كأنه يشكو رمدًا فأصبح مغمض العينين، وإذا مشي تعلَّق برفيقه القصَّاص يلتمس الطريق في أثره، وبيده دف صغير ينقر عليه نقرًا جميلًا.
وكان شيبان في خيمة كبيرة قائمة على عدة أعمدة، في أرضها بساط كبير قد جلس هو في صدره على وسادة، وبين يديه بضعة أمراء من خاصته، فلما رأى القصَّاص داخلًا أمره بالجلوس والإنشاد وأجلس رفيقه، فبدأ هذا بالنقر على الدفِّ نقرًا محكمًا، وأخذ القصاص في الإنشاد بما يطرب الجماد، فأنشد بعض أشعار عنترة، ثم أمره شيبان أن يُنشد أشعار غيره من الجاهليين، فتلا أقوال زهير وطرفة وغيرهما وهو يضرب على الطنبور بما يثير الحماس في النفس. وكلما قال بيتًا حماسيًّا هاج الأمراء وتحمسوا واستعادوه، وطلب إليه بعضهم أن يقصَّ أخبار حرب البسوس، ويوم ذي قار؛ الذي انتصف فيه العرب من العجم، وغيرهما من مواقع الجاهلية المشهورة، فأجابهم في كل ما يطلبون سواء كان قصة أو شعرًا أو ضربًا على الطنبور، ورفيقه ينقر على الدف نقرًا حسنًا، ويساعد القصَّاص فى الإنشاد وهو مطرق إلى الأرض من ألم عينيه، فطرب الجميع ونسوا ما كانوا فيه من ملل الانتظار، وتجمع رجال الحاشية والخدم في الخيمة وحولها حتى تكاثروا واختلطوا.
وبينما هم في تلك الضوضاء دخل غلام تخطى رقاب الناس حتى وقف بين يدي شيبان وأسر إليه قولًا، فأشار شيبان إشارة تحرك لها كل من كان من الأمراء والحاشية، ووقفوا وعلت ضوضاؤهم وهمُّوا بالخروج، فوقف القصاص وتعلَّق به رفيقه وأرادا الخروج مع الخارجين، فجاءهما أحد الغلمان وأمرهما بالانتقال من الفسطاط إلى خيمته الخاصة بجوار ذلك المكان، فخرج القصاص ورفيقه ممسك بطرف ثوبه، فرأى القصاص وهو خارج رجلًا طويلًا دخل الفسطاط، فتنحى له الناس واستقبله شيبان بالترحاب وأجلسه إلى جانبه وهو يقول: «أهلًا بالأمير شبيب.»
ولم تمضِ بضع دقائق حتى خرج الناس من الفسطاط إلا الأمير شيبان والأمير شبيبًا، وبضعة أمراء آخرين، وتحول سائر الحاشية والأعوان إلى خيمة بالقرب من الفسطاط. وأراد القصاص أن ينصرف، فأمسكه أحد الخدم وأمره أن يدخل تلك الخيمة وينشد لبعض رجال الحاشية هناك، فدخل مع رفيقه وأخذا في الإنشاد والضرب والنقر، فبعث الأمير شيبان إليهم أن يسكتوا لئلا يشوشوا على حديثهم، على أن يستبقوا القصَّاص إلى ما بعد الفراغ من الحديث، ففعلوا.