شيبان وشبيب
فلما خلا شيبان بشبيب ومَن ظل في الفسطاط مِن خاصته، انطلق لسانه بالترحاب وهشَّ له، واستدناه حتى تماسَّتْ رُكبتاهما، وشيبان يقول: «بورك في الأمير شبيب. أرجو أن تكون قد نجحت وآنَ لنا الظهور.»
قال: «النجاح لا ريب فيه، بإذن الله، وببركة الأمير شيبان.» قال ذلك وأخرج خاتم أبي مسلم ودفعه إليه.
فبُغت شيبان وتناول الخاتم وتفرَّس فيه، فلما عرفه تبسَّم والتفت إلى أمير بجانبه وقال: «هذا خاتم الشاب الخراساني، فما قولكم فيمن تمكَّن من الحصول عليه؟»
فأجاب أحد الأمراء قائلًا: «ما الذي ينفعنا من خاتمه وهو مُعسكِرٌ أمامنا وقد اتحد مع هؤلاء اليمنية، وقبض على زمام أميرهم الكرماني بعد أن قتل أباه؟ فإذا اتَّحدا على صاحب مرو غلباه ولا فائدة مِن مقامنا هنا.»
فضحك شبيب غير ضحكة الضحاك ووجَّه خطابه إلى الأمير شيبان وهو يتربع في مجلسه، ويده اليمنى على ركبة شيبان، واليسرى يحكُّ بها ذقنه، وقال: «لم أخطُ خطوة إلا وأنا حاسب لها حسابًا، وأظنني أحسنت التدبير، وسأوضح لكم رأيي، فإذا بدا لكم تعديله أطعتكم فيه.» ثم التفت يمينًا ويسارًا كأنه يتأكد من خلو المكان من الغرباء أو الخدم، فابتدره شيبان قائلًا: «قل. إننا في مأمن من العيون، وليس حولنا أحد نخشى منه على إفشاء سرنا.»
فقال شبيب: «لا يهمنا هذا الخاتم إن لم نقتل به ابن الكرماني الليلة أو غدًا!»
فقال شيبان وهو يظهر الإعجاب والدهشة: «الليلة؟»
قال شبيب: «كنت أتوقع قتله الليلة، ولكنه في حال لا يبقى بها إلى ما بعد الغد.»
فقال أحد الأمراء: «وكيف نقتله وهو محاط بالحرس والحاشية؟»
فاعترضه شيبان قائلًا: «نقتله بالدهاء والذكاء، وإذا كنتم تعرفون دهاء الأمير شبيب فلا تستغربوا ذلك منه.» ثم التفت إلى شبيب كأنه يلتمس منه إتمام الحديث، فقال شبيب: «إذا قُتل ابن الكرماني فإن رجاله يكونون معنا على أبي مسلم؛ لأنهم عرب مثلنا، وكلهم يمنية، وهم طبعًا يكرهون عرب خراسان ومضر ومرو، ولم يجمع كلمتهم علينا الآن إلا أميرهم المذكور، فمتى قُتل فعلَيَّ (وأشار بإصبعه إلى صدره) أن أجمع كلمتهم تحت قدم الأمير شيبان، فإذا فعلنا ذلك تكاتفنا أولًا على قتل أبي مسلم وتشتيت جمعه. ولا ريب في أن نصرًا؛ صاحب مرو، يساعدنا على ذلك أو يلزم الحياد على الأقل.»
فقطع شيبان الحديث بقوله: «بل هو يساعدنا؛ لأنه بعث إليَّ في صباح هذا اليوم يطلب محالفتي.»
فقال شبيب: «ولو لم يطلب هو نصرتنا لطلبنا نصرته، وإنما الغرض الأول أن تتخلَّص من ابن الكرماني، ولا تحسبن التخلُّص منه هينًا، بل هو يستحيل على سواي؛ ولذلك حديث يطول شرحه، والأمير شيبان يعرف معظمه.»
فأجاب شيبان بإحناء رأسه وإطباق جفنه أنْ نَعَم.
فقال شبيب وهو ويوجه حديثه إلى شيبان: «لقد زهقت روحها قبل الوصول إلى الغرض المنشود؛ فالفتاة المفتونة بحب ذلك الخراساني جعلتها تعتقد أنه مفتون بها، وأنه لا سبيل لها إليه إلا بقتل خطيبها ابن الكرماني؛ وهذا أكثر تفانيًا في حب هذه الفتاة من تفانيها في حب أبي مسلم، وأرجو أن يهلكوا جميعًا نتيجةً لهذا الحب. وقد بذلت كل ما في وسعي لتحريضها على قتل ابن الكرماني، أو مساعدتي في قتْله بالسم أو نحوه؛ إرضاءً لحبيبها، وهو — في الحقيقة — لا يحبُّها، ولكنه مالأني على إظهار الحب لتحقيق غرضه، كما خدعته باستماتتي في سبيل دعوته لتحقيق غرضي، وهو يحسب نفسه يُخادعني ويُسايرني ويظنني مخدوعًا مغرورًا، وهو المخدوع المغرور. والخلاصة أني خدعته حتى دفع إليَّ خاتمه علامةً منه لتلك الدهقانة أنه يحبها، وأنه يريد منها أن تفتك بخطيبها. وأعترف لكم أني آنستُ منها مقاومة في بادئ الأمر، ولكني سأُعيد الكرَّة في الغد، بحيث لا ينقضي اليوم إلا وقد نفذت الحيلة.»
فظهرت أمارات الإعجاب على وجوه السامعين وهم يتطاولون بأعناقهم نحوه، ويرقبون حركات شفتيه وعينيه لاستيعاب أقواله، فلما رأى منهم ذلك تنحنح وسكت وهو مطرق كأنه يفكر في أمر خطير، فسكتوا وأصبحوا يتوقعون منه قولًا، فإذا هو يقطب حاجبيه ويرفعهما كما يفعل الحائر، ثم التفت إلى شيبان وقال: «بقي أمر لا بد من الرجوع فيه إليكم، والاعتماد عليكم.»
فتجمعت أنظارهم عليه وقال شيبان: «وما الذي تريده؟»
قال: «لا بد لنا من تمهيد السبيل لجمع كلمة هؤلاء اليمنية معنا؛ بحيث إذا قُتل أميرهم انحازوا إلينا، وتم الأمر لنا.»
فقال شيبان: «وهل تفعل ذلك قبل مقتل الرجل أو بعده؟»
قال: «يجب أن نمهد السبيل قبلًا؛ خوفًا من الفشل، وأرى أن يكون ذلك بمخاطبة كبار الأمراء سرًّا. ولولا انشغالي فيما هو أهم من ذلك لما تكلَّفت المشقة في تبغيض أبي مسلم إلى اليمنية أكثر من إطلاعهم على حيلته في إلقاء الفتنة بينهم وبين المضرية. وهو الرأي الذي أشرت به وعرضته عليه يوم وصوله، كما تعلمون، فإذا اطلعوا على هذا السر مع ما في قلوبهم من الكره الطبيعي للفرس اتحدوا معنا لا محالة، فما قولكم؟»
فلم يتمالكوا أن صاحوا بصوت واحد: «هذا هو الرأي الصائب.»
فوقف شبيب وهو يتوكأ على كتف الأمير شيبان ويقول: «دعوني أذهب الآن.»
فصاح شيبان: «إلى أين؟»
قال: «إلى أبي مسلم.»
قال: «إلى أبي مسلم؟ ولماذا؟»
قال: «لأُعيد إليه خاتمه؛ فقد وعدته بذلك، وينبغي أن أفي بالوعد لتتمَّ لنا الحيلة، ولكي أستمهله ريثما أقتل ذلك المغرور.»