قصر الإمارة والبيعة
فاطمأن الضحاك وعلم أنهم قبضوا عليه خطأ، فأركبوه فرسًا وساروا به إلى مرو، فدخلوها من باب بالين، فشاهدوا الناس في حركة وأكثرهم فرحون بذلك الفتح؛ لأن جمهور أهلها من الفرس وكانوا يقاسون العذاب في سلطة العرب المضرية. وكان نصر قد أراد إصلاح ما أفسده أسلافه فلم يستطع، وذهب سعيهُ عبثًا، وخرجت مرو من يده رغم إرادته. وكان الخراسانيون قد ملوا حكومة العرب منذ تولاهم بنو أمية؛ لأنهم كانوا يسومونهم سوء العذاب؛ يولون عليهم العمال ويُوصُونهم بجمع المال بأي وسيلة كانت. وكان أهل مرو قبل الإسلام مجوسًا وعليهم الجزية، فرغبوا في الإسلام غير مرة، وأسلم كثيرون منهم، فكان بعض العمال يعدون إسلامهم حيلة للتخلص من الجزية، فلا يرفعونها عنهم، فيطالبونهم بالجزية وهم مسلمون، فيرجعون عن الإسلام. وقد فعلوا ذلك غير مرة حتى تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز — وكان مسلمًا حقًّا — فبعث إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم. ومن أقواله من كتاب كتَبه إلى الجرَّاح؛ عامله على خراسان، وقد شكوه أنه يأخذ الجزية ممن أسلم: «انظر مَن صلى قِبَلك فضعْ عنه الجزية.» فسارع الناس إلى الإسلام فقلَّت الجزية، فكتب الجراح إلى عمر بذلك، فأجابه: «إن الله بعث نبيه محمدًا داعيًا ولم يرسله جابيًا.»
على أن هذه النعمة لم تدم على أهل خراسان؛ لقصر خلافة عمر، فلمَّا قتلوه وولوا مَن خلفه عادت الأحوال إلى ما كانت عليه. وأهل خراسان، وخصوصًا مرو، يودون التخلص من حكومتهم؛ ولذلك كان فرحهم بأبي مسلم عظيمًا، وتهافتوا إليه يهنئونهُ ويبايعونه.
فوصل الضحاك إلى قصر الإمارة والناس قد تزاحموا عند بابه، وفيهم الدهاقين والتجار والمشائخ والعلماء والصناع وغيرهم، وقد تزاحمت الأفراس وعلت الضوضاء. فلما رأوا فرسان أبي مسلم عرفوهم من قيافتهم فوسعوا لهم، فترجلوا ودخل اثنان ومعهما الضحاك حتى قطعوا صحن الدار إلى الباب الداخلي الكبير، فرأوا الناس يتسابقون إليه والحرس يوقفونهم، وبالباب حرسي من رجال أبي مسلم، فحالما رأى الرجلين وسع لهما وأدخلهما ومعهما الضحاك.
فلما وقف الضحاك بالباب إذا هو في قاعة واسعة جلس في صدرها أبو مسلم وفوق رأسه راية سوداء، وعليه عمامة سوداء، وثياب سود، وإلى جانبه خالد بن برمك في مثل لباسه وبين يديه اثنا عشر أميرًا باللباس الأسود، عرف منهم سليمان بن كثير وطلحة بن رزيق، وعلم أنهم النقباء الاثنا عشر الذين اختارهم الإمام من السبعين نقيبًا الذين قاموا بالدعوة العباسية في أوائلها. فلما دخل الضحاك وقع نظر أبي مسلم عليه، فابتسم له وأشار إليه أن يدخل ويجلس على كرسي في بعض جوانب القاعة، فدخل وحده وانصرف الحرسيان، فشاهد في بعض جوانب القاعة وهو داخل ركامًا من البرابط والعيدان وآنية الخمر والمزامير؛ تركها الأمويون في ذلك القصر عند فرارهم، فقال الضحاك في نفسه: «تلك آثار الترف الذي يذهب بأهله إلى الدمار.»
مضى معظم النهار في أخذ البيعة ثم وقف أبو مسلم وأشار إلى طلحة أن يأخذ البيعة عنه بين يدي خالد بن برمك، وتنحَّى إلى بعض الغرف وأومأ إلى الضحاك فتبعه. فلما خلَوا قال أبو مسلم: «لقد ساءني ما أصابك من التأخير بسبب جهل أحد رجالي، وقد كنت عازمًا على الانتقام منه بين يديك لو لم يتفق لنا ما يسرُّنا في هذا النهار على غير انتظار … ولعلك تستغرب فتح هذه المدينة بمثل هذه السرعة على حين أنني كنت عازمًا على التأجيل بضعة أيام؛ ريثما نتم اتفاقنا مع الأمير شيبان كما افترقنا بالأمس، ولكن سنحت لي في هذا الصباح فرصة خِفتُ ضياعها فاغتنمتها، وقد نجحت فيها.» قال ذلك وتنحنح وتشاغل بقبض ذقنه.
وكان الضحاك جالسًا على ركبتيه احترامًا لأبي مسلم، ومع ما آنسه من انعطافه وإقباله نحوه في أثناء الحديث، فإن هيبته ما زالت غالبة عليه، ولكنه كان يُظهر إصغاءه واهتمامه بمراعاة حركة فمه؛ لأنه لم يكن يستطيع التفرُّس في عينيه لحدتهما، ولما ينبعث من نورهما الباهر وقوتهما الغالبة على الأبصار والعقول. فلما تشاغل أبو مسلم بالنحنحة أظهر الضحاك رغبته في استتمام الحديث، فقال أبو مسلم: «أما سبب هذه العجلة، فإن ابن الكرماني بعث إليَّ في صباح هذا اليوم بعد ذهابك مع رسول مستعجل يقول لي: «لقد آن فتح مرو فادخل أنت ورجالك من ناحية، وأدخل أنا ورجالي من ناحية أخرى، فنستلم المدينة على أهون سبيل.» فظننته يقول ذلك مخادعةً، فبعثت إليه: «لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر بن سيار على محاربتي، ولكن ادخل أنت فانشب الحرب مع أصحاب نصر، ثم أدخل أنا.» وقلت في نفسي: «إذا كان قد فعل ذلك حيلة فلا يطيعني، وإلا فليكن الخطر عليه.» فنهض برجاله وأنشب الحرب، فأرسلت أنا بعض رجالي دخلوا المدينة من ناحية أخرى، ففُتح علينا، فدخلت هذا القصر وأمرت ابن الكرماني ورجاله بالخروج منها إلى معسكرهم؛ لكي نتمكن من مشروعنا الذي تعلمه.»
فذهل الضحاك لشدة ذلك الرجل ودهائه، ونسي ما كان يتكلفه من الضحك في أثناء تماجُنه، ثم انتبه لذلك وخاف أن يشك أبو مسلم في شأنه فتضاحك وقال: «إن المشروع — يا مولاي — عظيم الأهمية، فهل أنت مصر عليه؟»
قال: «أين كتابي إلى شيبان؟»
فمد يده واستخرجه ودفعه إليه، فقال أبو مسلم: «إني لا أزال مصرًّا على ذلك، وربما زاد إصراري الآن بعد فتح مرو على يد ابن الكرماني؛ لأنه ارتفع في عينَيْ نفسِه، فربما توهَّم له الفضل علينا، فتُحدِّثه نفسه أن يغلبنا؛ ولذلك فإني لا آمنه، ولا بد من قتله؛ لئلا يكون حجر عثرة لنا. وقتله هيِّنٌ عليك بواسطة تلك الفتاة المفتونة. فإذا قتلْتَه خلسةً سعينا في ضمِّ رجاله إلى رجال الأمير شيبان، ثم أسلم إليه قيادة هذه المدينة وأمضي في عملي، إلا إذا كنتَ لا تثق بهذا الحروري وتخاف أن يخوننا إذا سلَّمنا الأمر إليه.»
قال: «لا خوف منه؛ فإذا عاهد وفى، وخصوصًا بعد أن ملكتَ ناصية الأمر وبايعك الناس.»
فقطع أبو مسلم كلامه وقال: «وهل لحظت أن البيعة لأهل بيت النبي عامة، وليست لبني العباس؛ لأن الناس لم يعرفوا لبني العباس الحق في الخلافة بعدُ، وإنما هم يعرفونه لآل أبي طالب؛ ولذلك جعلنا البيعة مشتركة، فمن فاز من الرهطين كانت الخلافة لهم. فلا أظن ذلك يؤخر الأمير شيبان عن القبول بمحالفتنا.»
قال: «كلا يا مولاي.»
فقال: «فعلينا إذن أن نبدأ بقتل ذلك الأعور كما وعدتني، ولا تظن أحدًا ينال من المقام في أمرنا ما ستناله أنت، وسأُطلع الإمام على فضلك.»
قال: «إني لم أفعل غير ما يجب عليَّ، ولا أتوقع منك جزاءً غير رضاك.»
قال: «هل تقتله الليلة؟»
قال: «أبذل جهدي في ذلك.»
قال: «أنت تعلم طبعًا أن قتله يجب أن يكون سرًّا، فلا يدري رجاله إلا أنه مات موتًا طبيعيًّا.»
قال: «كن مطمئنًا يا مولاي.» قال ذلك ونهض وحيَّا أبا مسلم متأدبًا وهمَّ بالخروج، فوقف أبو مسلم لوداعه وقال له: «عرِّج بإبراهيم الخازن لعله ينفعك في هذه المهمة.» فلما سمع اسمه تذكَّر الليلة التي لقيه بها في بيت الدهقان، وهو يعلم مكره وضعف ذمامه، فقال: «أين هو؟» فأشار إلى مكانه في غرفة أخرى، فسار الضحاك إليه على أن يتعاونا في الأمر.