الدب الرقاص
أما ابن الكرماني، فبعد أن فُتحت مرو عاد إلى معسكره بإشارة أبي مسلم، وعاد معه الأمراء اليمنية وقد سرَّهم الفتح بعد أن أبلَوا بلاءً حسنًا، وعاد ابن الكرماني توًّا إلى فسطاطه؛ ليبدِّل ثيابه ويستقبل المهنئين. وكان في خاطره أن يذهب حالًا إلى جلنار ليُريها نفسه عائدًا من ذلك الفتح، ويخبرها أنه انتقم لوالده كما وعدها بالأمس، ولكنه أجَّل ذهابه إلى ما بعد استقبال المهنئين والمنشدين في فسطاطه؛ لئلا يتبعوه إلى هناك، فجلس في صدر الخيمة وجلس أمراؤه بين يديه وهم يُطنبون ببسالته، وكلٌّ منهم يذكر ما لاقاه في أثناء المعركة من الوقائع الغريبة، ثم أذن للشعراء فدخلوا وأنشد كلٌّ منهم ما جادت به قريحته، فإذا فرغ أحدهم من الإنشاد يشير الأمير إلى كاتبه أن يدفع إليه الجائزة على جاري العادة. وفيهم من ينشد قصيدته على الأنغام الموقعة على الطنبور أو العود أو الدف. قضوا في ذلك بقية يومهم إلى قبل الغروب، وقد طربوا جميعًا إلا عليًّا؛ فقد نغصه غياب جلنار عن تلك الجلسة، وود لو أنها هناك لتسمع ما قيل فيه من المدائح.
وهو في ذلك إذ سمع ضجيجًا يتخلله دفٌّ ينقرون عليه نقرًا خاصًّا بالرقص، ثم دخل غلام يستأذن الأمير في راقص مضحك معه دبٌّ غريب الشكل. وكان الغلام يستأذن الأمير ولا يتمالك عن الضحك. كان أخرجه الإعجاب عن حد الاحتشام في حضرة الأمراء، فقال الأمير: «يدخل.»
فدخل رجل طويل القامة عرف الأمراء كلهم أنه الضحاك؛ خادم الدهقانة، وكانوا يستخفون دمه ويضحكون من مجرد رؤيته، فلما دخل ألقى التحية وتماجَن، فلم يتمالك الأمير عن الضحك وصاح فيه: «ويلك! أي متى صرت رقاصًا؟»
قال: «حالما فتح مولاي الأمير مرو؛ عاصمة خراسان؛ فقد نذرت منذ صرت من أتباعه أن أرقص يوم الفتح، وقد جئت لأفي نذري.»
فضحك الأمير وقد سره أن يسمع ذلك الإطناب من رجل ينتمي إلى الدهقانة؛ لأنه إنما يهمه إعجابها هي؛ فكم من بطل خاض المعامع، واستقبل النبال، وعرض نفسه لأشد الأهوال؛ التماسًا لابتسامة حبيب يحبه! تلك هي لذة النصر في أعلى درجاتها. وأراد عليٌّ أن يسأل عن الدهقانة فاحتشم بين يدي الأمراء، ولكنه استأنس بالضحاك كثيرًا وقال له: «هل أنت الرقَّاص حقيقة؟»
قال: «كلا يا مولاي، ولكن معي دبًّا يرقص رقصًا غريبًا.»
قال: «أين هو؟»
قال: «هو بالباب.» وصاح: «أدخل يا مبارك.»
فتوجهت أنظار الجميع نحو الباب، فسمعوا خشخشة الجلاجل والأجراس، ثم دخل الغلام وهو يقود رجلًا بحبل في عنقه، وعلى الرجل جلد دب يكسو صدره وظهره وساقيه إلى القدمين، ويغطي ساعديه إلى الكتفين، وقد ستر وجهه بوجه دبٍّ حتى لا يشك الناظر إليه أنه دبٌّ حقيقي، وشد برجليه ويديه أجراسًا، وجعل حول عنقه جلاجل.
فلما دخل الغلام سلم المقود إلى الضحاك، فتناوله وجر ذلك الدب بعنف، فدخل وأخذ في الرقص وهو يزمجر ويثب كما يفعل الدبُّ تمامًا، فلم يبق أحد من الجلوس إلا أغرب في الضحك، والضحاك يتفنن في أساليب المجون. فلما تمكَّن الطرب من الأمير احتال الضحاك في الدنو منه وقال بحيث لا يسمعه سواه: «إن هذا المجلس لا ينقصه غير الدهقانة.»
فلم يتمالك الأمير عند سماعه ذلك أن صاح: «يا ضحاك، خذ هذا الدب وأرقصه في الخباء وأنا قادم إليكم.» قال ذلك ووقف وقد استخفَّه السرور، وهاجت عواطفه، وأسكره النصر، فوقف سائر الأمراء احترامًا له، فمشى حتى خرج من الفسطاط والضحاك يسير بالدب أمامه، وقد أقبل الظلام ولم يجسر أحد من رجال ابن الكرماني أن يتبعه إلى الخباء، فمشى وحده وقد التفَّ بعباءة من حرير وعلى رأسه عمامة صغيرة مزركشة زركشة جميلة، وسار هو يتبختر بمشيته تِيهًا حتى إذا أقبل على الخباء تنحَّى الضحاك ودبُّه لمرور الأمير، فدخل وهو يقول: «أين عروسنا الدهقانة؟»
فتقدمت ريحانة وجلنار إلى جانبها وعليها مطرفها، وقد غطت رأسها بخمار من نسيج كشمير وردي اللون، وعيناها تتلألآن من خلال الخمار، والحياء يُغالبها ويزيدها رونقًا، فلما وقع بصره عليها حيَّاها بالانحناء وهو يقول: «لقد جئتُك ضاحكًا لأني انتقمت لأبي، وغلبت صاحب مرو على مدينته، ففر فرار الأنذال، وسوف أقتله، بإذن الله.»
فأجابته ريحانة وهي تبتسم قائلة: «لقد كنا على يقين من فوز الأمير على عدوه؛ لما نعلمه من بسالته وشدة بطشه، فنحمد الله على فوزه.»
ثم أشار الأمير إلى الدهقانة بالجلوس وهو يقول: «وغدًا ندخل قصر الإمارة حسب الوعد.»