أرسله إلى خوارزم
أما أبو مسلم، فكان ساهرًا في قصر الإمارة ينتظر نتيجة ما دبَّره على ابن الكرماني والضحاك معًا بواسطة إبراهيم الخازن؛ فقد رأيت أنه أوعز إلى الضحاك أن يستعين بإبراهيم المذكور على قتل ابن الكرماني، فسار إليه واتفقا على أن يلبس إبراهيم جلد دبٍّ ليتمكن من دس السم في القدح، على ما تقدم، ولكنَّ أبا مسلم أوصى إبراهيم أن يقتل الضحاك أيضًا بالسم. وكان قد كلَّفه قبلًا كشف حقيقة الضحاك ليلة ذهابه إلى شيبان، فرافق ذلك القصاص، وحمل الطنبور، وتظاهر بالرمد، وأسدل طرف العمامة على عينيه لئلا يفطن له أحد. ولما كان شيبان وشبيب يتسارَّان كان إبراهيم وراء خيمة شيبان يتظاهر بالنعاس، وقد سمع كل ما دار بينهما ونقله إلى أبي مسلم في تلك الليلة. فلما عاد الضحاك ليلتئذٍ خادعه أبو مسلم برغبته في محالفة شيبان ريثما يتمكَّن من قتل ابن الكرماني على يده ثم يقتله. ولمَّا وصَّاه باصطحاب إبراهيم تلك الليلة أمَر إبراهيم بقتله، كما تقدم، فسقاه السم في قدحه كما فعل بابن الكرماني، ولكن الضحاك ساقه طول أجله إلى استفراغ معدته، وهو إنما فعل ذلك لتنطلي حيلته على ابن الكرماني، ويدفع التهمة عنه، فنفعه ذلك؛ إذ أخرج السم من جوفه قبل أن يؤثِّر في معدته. أما إبراهيم فظنَّ أنه قام بمهمته وأمات الاثنين، فهرول مسرعًا وطرح عنه جلد الدب وجاء أبا مسلم ليبشره بذلك، فوجده ساهرًا في انتظاره، فأخبره بما كان، فسُرَّ أبو مسلم وأثنى عليه ووعده خيرًا.
وأما الضحاك فقد كان متفقًا مع إبراهيم على دس السم في قدح ابن الكرماني، وأن يخرجا فيلتقيان في طرف المعسكر، ثم يذهبان معًا إلى أبي مسلم، فلما رأى إبراهيم أفلتَ ظنَّه فعل ذلك عمدًا على أن ينتظره في الموعد، فأسرع في أثره، فشعر في أثناء الطريق بطعم غريب في فيه، وأحس بانحطاط في قواه، فنسب ذلك إلى تأثير الشرب، وخطر له أنه ربما أصابه شيء من السم غلطًا، فعوَّل على الاستفهام من إبراهيم، فوصل في الموعد فلم يجده، فساء الظن فيه، ووقف هناك وأطرق مفكرًا فيما مرَّ به في هذين اليومين، فانتبه لنفسه، فترجَّح عنده أن أبا مسلم خدعه وسايره حتى نال مراده بقتل ابن الكرماني، ثم أراد قتله هو ليتخلص منه، لكنه لم ير سببًا يدعو إلى ذلك؛ لزعمه أن أبا مسلم لا يعلم أنه من أمراء الخوارج، فرأى أن يذهب إلى أبي مسلم ويُلاقيه على حذر، فسار إلى قصر الإمارة، حتى إذا أقبل على باب القاعة سأل الحارس عن الأمير، فقيل له إنه في غرفته، فأراد أن يستأذن في الدخول عليه ثم توقف ليُعمل فكرته. وكان الحارس قد عرفه من الأمس، ورأى ما كان من احتفاء أبي مسلم به، فجلس الضحاك إليه وأخذ يضاحكه ويسايره حتى اطمأن إليه، فسأله عن الأمير ومن عنده، قال: «عنده خازنه اليهودي.»
قال: «وهل هو يهودي حتى الآن؟»
قال: «يتظاهر بالإسلام والإسلام بريء منه؛ فإن هؤلاء اليهود قد فرحوا بالإسلام لأنه نجاهم من ظلم الأكاسرة والقياصرة، وأكسبهم الأموال من دولة العرب؛ لأنهم يعدون أنفسهم من أقاربهم.»
قال: «وهل إبراهيم مع أبي مسلم الآن أم خرج من عنده؟»
قال: «أظنه لا يزال عنده؛ إذ لم يمضِ على دخوله زمن طويل.»
قال: «فإذن هو مشغول الآن.»
قال: «وهل تريد مقابلته؟»
قال: «كلا، ولكنني لما جئتُ لمقابلته في أثناء النهار، فبعد أن جلست في القاعة حينًا دخل بي إلى غرفة أخرى، ثم أخرجني من باب آخر، كما علمت، وقد نسيت في القاعة كتابًا كان معي، فوضعته قرب مجلسي، ولما نهضت نسيته؛ فهل تظنه لا يزال مكانه؟»
قال: «ينبغي أن يبقى هناك. هل أبحث لك عنه؟»
قال: «لا يجوز لك وأنت حارس أن تترك هذا الباب. أما إذا أذِنت لي دخلتُ وبحثت عنه لحظة ثم أعود؛ لأني أعلم بمكانه منك.»
قال: «تفضل، واحذر أن تُحدث صوتًا يشعر به الأمير؛ لئلا يغضب.»
قال: «كن مطمئنًا.» وخلع نعليه فتأبطهما ودخل القاعة وهي مظلمة، فمشى وهو يتلمس الحائط نحو الغرفة التي علم أن أبا مسلم فيها مع إبراهيم، فلما دنا من بابها سمع أبا مسلم يقول: «هل أنت على يقين من إرسالهما إلى خوارزم.»
قال إبراهيم: «قد أرسلتهما حسب أمر الأمير، وأظنهما الآن في عالم الأموات.»
قال: «أخشى أن تكون أخطأت الرسالة ونسيت ذلك الحروري الذي يزعم أنه يخادعنا — عليه لعنة الله — بقي عليَّ أن أعهد إليك بأمر يهمني ولك منه نفع كبير، وكسب كثير.»
وكان الضحاك واقفًا بالباب يمسك أنفاسه؛ لئلا يُسمَع صوت تنفسه، ويوشك لعظم اضطرابه أن يسمع دقات قلبه في أذنه، فتجلَّد، وأحس بارتعاش قدميه فقعد القرفصاء، وأصاخ بسمعه فإذا إبراهيم يقول: «يأمر مولاي بما يريد.»
فقال: «بقي عليَّ أن أتخلص من شيبان؛ أمير الخوارج، فإذا قتلناه تبعثر جند العرب وخلصت الدولة لنا.»
قال: «رأيك هو الصواب. هل تريد أن أرسله إلى خوارزم كما أرسلت ابن الكرماني وشبيبًا الملعون؟»
قال: «أخاف ألا تنطلي عليه الحيلة؛ إذ ليس لنا في داره فتاة مثل الدهقانة تهوِّن علينا العمل، والأحسن أن نستقدم شيبان إلينا بحيلة المحالفة أو المخابرة ونقتله، ويخلو لنا الجو.»
قال: «ذلك هيِّن عليَّ إذ شئتَ فعلتُه.»
وساد السكون لحظة، فخاف الضحاك أن يكون أبو مسلم عازمًا على الخروج، فأصاخ بأذنيه فلم يسمع حركة، فعلم أنه يفكر، ثم سمعه يقول: «امضِ الآن، وسأخبرك ماذا ينبغي أن تفعل.»
فعلم الضحاك أنهما سيخرجان، فهرول القهقرى وودَّع الحاجب وهو يُثني عليه — وما صدَّق أنه نجا — وسار مسرعًا حتى خرج من مرو، ومشى نحو معسكر الخوارج وهو يلعن ذلك اليهودي الذي كان سببًا في فشله، فمر في طريقه بمعسكر ابن الكرماني، فخطر بباله خاطر انشرح له صدره؛ لما توهمه فيه من السداد؛ ذلك أنه قال في نفسه: «لأذهبنَّ إلى أمراء اليمنية أصحاب الكرماني وأُطلعهم على مكيدة أبي مسلم، وأنه قتل أميرهم غيلة، وأُحرِّضهم على الاتحاد معنا.» فلما خطر له ذلك اختلج قلبه فرحًا، فبدل ثيابه وأسرع يطلب فسطاط أمير من اليمنية كان يعرفه، فلما وصل الفسطاط اعترضه أحد الخفراء، فسأله عن الأمير، فقال: «إنه دخل مرو منذ ساعة.»
قال: «ولماذا؟»
قال: «لأن أبا مسلم دعا أمراء اليمنية جميعهم إليه.»
قال: «وهل ذهبوا جميعًا؟»
قال: «نعم.»
فبهت الضحاك لذلك الدهاء، وتحقق أن أبا مسلم بعث إليهم ليكونوا في قبضته، فإذا أصبح الصباح وعلموا بموت ابن الكرماني كان هو في مأمن من عصيانهم، فأحس بعظم دهاء ذلك الخراساني وسهره على مصلحته، ووقف برهة يفكر في ماذا يجب أن يفعله، فلم ير له حيلة غير الفرار بالخوارج ريثما يجد سبيلًا للانتقام، فأسرع نحو معسكرهم وهو يخاف أن يكون أبو مسلم قد دبَّر عليهم حيلة، وقد غلب على وهْمه أن هذا الرجل قادر على كل شيء، فسار إلى شيبان حتى إذا أقبل على فسطاطه دخل عليه وقص عليه ما وقع، وقال له: «لم يبق لنا فائدة من البقاء هنا؛ فانصرف برجالك إلى مكان نتربص فيه ريثما ندبر حيلة أخرى.»
فتردد شيبان في الأمر مدةً، ثم اقتنع بوجوب التنحي فأمر بالإقلاع، وطلب من الضحاك أن يصحبه، فقال: «دعني أتدبر الأمر؛ فإني غير تارك هذا الخراساني حتى أنتقم منه شر انتقام.» قال ذلك وخرج، وأخذ شيبانُ في الاستعداد للرحيل.