عريس جديد
أما الدهقان، فقد عُرف أنه زوَّج ابنته بابن الكرماني طمعًا في الكسب على يده؛ ليقينه بقوة الكرماني وكثرة رجاله، ولاستخفافه بأبي مسلم؛ لقلة رجاله وصِغَر سِنِّه، وأضمر في نفسه أنه إذا انقلبت الآية ورَجَحتْ كفَّة أبي مسلم تقرَّب إليه بالأموال والرجال، فكان لا يغفل عن استطلاع أحوال الجنود المعسكرة حول مرو — وكانت الأخبار تأتيه تباعًا، وكلها تدلُّ على نجاح الخراسانيين وتغلُّبهم — حتى إذا جاءه الخبر بدخول أبي مسلم مرو، بمساعدة ابن الكرماني مع بقاء هذا في معسكره، تحقق من فوز الخراسانيين، ولبث يتوقع فرصة يتقرَّب بها من أبي مسلم وهو يظنه غير عالِمٍ بزفاف جلنار إلى ابن الكرماني، فلما وصَله نبأ دخول أبي مسلم إلى مرو بعث إليه بالهدايا والأموال، وكتب إليه يهنئه بالنصر، وأنه بذل جهده في جمع كلمة الدهاقين على نصرته.
كل ذلك وهو لا يعلم بموت ابن الكرماني، ثم جاءه الخبر بمجيء ابنته، فخرج لاستقبالها وقبَّلها، ورحَّب بها وبالغ في الترحاب وهو يعجب لمجيئها. ولما سألها عن سبب مجيئها لم تتماسك عن البكاء، فأجابت ريحانة أنها ستُخبره عن السبب في خلوة، فأخرج مَن في حضرته من الناس فقالت ريحانة: «إن مولاتي الدهقانة تبكي حرقةً على سوء حظها.»
قال: «ولماذا؟ ماذا جرى؟»
قالت: «إن خطيبها توفي في هذا الصباح فجأة.»
قال: «علي بن الكرماني مات؟»
قالت: «نعم يا سيدي. مات فجأة على غير انتظار.»
فأطرق وهو يحك ذقنه، وأعمل فكرته وقد تأكَّد من انتصار الخراسانيين وفشل العرب، فذهبت بقية آماله، ونظر إلى جلنار فإذا هي مطرقة تبكي، فظنها تبكي على عريسها، وهي إنما تبكي شوقًا لحبيبها، وخوفًا من ضياع آمالها؛ لأنها كانت تتوقع أن ترى منه اهتمامًا بأمرها، ولم تكن تنتظر انشغاله عنها إلى هذا الحد، فلما رآها الدهقان تبكي حنَّ لها وقال: «لا تبكي يا جلنار ولا بأس عليك.» ثم وجَّه خطابه إلى ريحانة وقال: «سمعتك تسمِّين ابن الكرماني خطيبًا، وأنت تعلمين أننا عقدنا له عليها وزففناها إليه.»
قالت: «نعم، ولكنه لم يتزوجها بعد.» وقصَّت له ما كان من اشتراطه على نفسه فتح مرو قبل الاقتران، وأنه مات في الغد بغتة.
فلما علم بذلك تبدَّد إحساسه بالفشل والندم، ورأى في عودة جلنار إليه على تلك الصورة بابًا جديدًا للتقرب إلى أبي مسلم؛ لاعتقاده أن أبا مسلم يرغب في مصاهرته، فنظر إلى جلنار وهو يبتسم ليزيل عنها اضطرابها وقال: «لا بأس عليك يا بنتاه، إني سأعوض عليك من ابن الكرماني من هو خير منه، وأقرب إلينا وطنًا ولغةً ومشربًا.»
فأدركت جلنار أنه يشير إلى أبي مسلم فانشرح صدرها، وعادت آمالها إلى الانتعاش؛ لأن أباها صار عونًا لها في الوصول إلى حبيبها، وأمِنتْ من الجهة الأخرى أنها إن تزوجت أبا مسلم بغير علمه فقد يغضب، ويعد عملها خروجًا عن طاعته. فلما سمعت قوله قالت: «إنك تعزيتي الوحيدة يا والدي، ومَن كانت لها أب مثلك لا بأس عليها، وأنت تعلم أني طوع إرادتك في كل ما تريد.»
فأشار إليها أن تذهب إلى غرفتها للراحة من تعب السفر، فنهضت وريحانة تسير بجانبها، فإذا بوالدها يقول: «وأين الضحاك؟ إني لا أراه معكم.»
قالت ريحانة: «لا ندري ماذا أصابه، فقد ذهب بالأمس ونحن في معسكر الكرماني ثم لم نره.»
قال: «لقد رأيت معكم رجلًا عليه القلنسوة والجبة؛ فمن هو هذا؟»
قالت: «هو رجل من أهل مرو اسمه صالح جاءنا به ابن الكرماني يوم الفتح وأضافه إلى الخدم بدلًا من الضحاك، ولا بأس به.»
وأخذ الدهقان يفكر في السبيل المؤدي إلى نيل الحظوة في عيني أبي مسلم، بعد أن أصبح له الأمر والنهي في خراسان، فصمم بعد طول تفكير أن يهديه الهدايا ويزوِّجه ابنته، ولكنه رأى أن ينتظر جوابه على تهنئته التي أرسلها إليه يوم الفتح.
لبث في الانتظار يومين، وفي اليوم الثالث جاءه رسول أبي مسلم ومعه كتاب يُثني فيه عليه ويستقدمه إليه ليقيم بين يديه، فلما تلا الكتاب لم يتمالك أن أسرع إلى جلنار وأطلعها عليه، فكان سرورها أعظم من سروره، ولكنها أحبت أن تثق من أمر مسيرها معه فقالت: «وهل أنت عازم على السفر إلى مرو؟»
قال الدهقان: «وهل أستطيع غير ذلك؟»
قالت جلنار: «ومتى تذهب؟»
قال الدهقان: «ربما ذهبت غدًا.»
قالت جلنار: «ألا تحمل إليه الهدايا والأموال؟»
قال: «لا بد من ذلك؛ لأن الرجل أصبح ملك خراسان، وأظن أن دعوته ناجحة لا محالة، فيجب أن نبذل كل جهدنا في التقرب منه. وأرجو أن تساعديني على ذلك.»
قالت جلنار: «إذا كنت أستطيع مساعدةً فإني فتاتك ورهن إشارتك.»
قال: «وأبو مسلم إذا أطعتني فيه لم يبق شك في فوزنا على يده؛ لأن النصر قد تقرر له. وقد أخبرني الرسول حامل الكتاب أن الخوارج أُجلوا عن مرو، ورجال الكرماني الذين بقوا أحياء بعد موت قائدهم انضموا إلى جند أبي مسلم، وهو الآن زعيم القوم وأمير مرو، ولا يلبث أن تذعن له سائر بلاد خراسان وما وراءها؛ لأن رجاله لم ينفكوا وهو مُحاصِر مرو يفتحون البلاد، ويضمون إليهم العباد، يبايعون لأهل البيت ويلبسون السواد؛ فالتقرب منه مفيد، ولا أظنك تخالفينني فيه؟»
فأدركت أنه يشير إلى أمر زواجها به، فقالت وقد أشرق وجهها سرورًا، رغم ما تكلفته من السذاجة: «إذا كنت لم أخالفك في ابن الكرماني وهو بعيد عنا جنسًا ولغةً، فكيف برجل خراساني وهو كما وصفته؟! فإذا أمرتني أطعتك.»
قال: «بورك فيك من ابنة مطيعة حكيمة.» وضمها إلى صدره وقبّلها ثم قال: «سأذهب إليه في الغد، وسأغتنم أول فرصة لمخاطبته في شأنك. ثم أبعث إليك فتأتي في موكب يليق بمقامنا.»
فعلمت أنه لا ينوي اصطحابها، فرضيت بما أراده، وانتعشت آمالها، فأظهرت الارتياح إلى رأيه، ولكنها كانت تفضل الذهاب معه فقالت: «وماذا يحدث لو أنني سرتُ معك فأدخل مرو وأتفرج على مناظرها ريثما يتم لك ما تريد؟»
فأطرق لحظة ثم قال: «لا بأس من ذهابك معي، فأُنزلك عند صديق لي من دهاقين مرو أعرف أنه يقيم في قصره بجوار دار الإمارة.»
ففرحت جلنار بذلك وظهر الفرح على وجهها، فأمر الدهقان خازنه أن يعد الأموال ليحملها معه إلى مرو، وأن يعدُّوا الهدايا من الرقيق والثياب وغير ذلك.