مجلس أبي مسلم
وفي صباح اليوم التالي، ركب في كوكبة من الفرسان، وجعل الهدايا في حملة تسير في أثره ومعها هودج جلنار وريحانة، ومشى صالح مع الخدم. وفي الضحى وصل الموكب إلى مرو يتقدمه رسول أبي مسلم، فدخلوا المدينة وساروا حتى أقبلوا على دار الإمارة، فأمر الدهقان أن يُنزلوا جلنار في قصر صديقه بقرب تلك الدار، فأنزلوها، وترجّل هو ورجال حاشيته يمشون بين يديه وعليهم الملابس الفاخرة، وبمناطقهم السيوف المحلاة بالذهب كأنهم بين يدي ملك، فمشوا على هذه الصورة في فناء الدار، والناس يوسِّعون لهم، حتى أقبلوا إلى باب القصر وعليه الحراس، فاستأذنوا للدهقان بالدخول، فأذن له أن يدخل وحده، وأن ينصرف رجال حاشيته إلى دار الضيوف، فدخل الدهقان وعليه قلنسوة حولها عمامة موشاة بالذهب، وقد تزمَّل بجبة من الخز فوقها مطرف من الحرير المزركش يساوي مالًا كثيرًا. وكان قد نزع سيفه وسلَّمه إلى أحد الخدم السائرين بين يديه.
دخل القصر ومشى في الصحن الداخلي حتى وصل إلى القاعة التي ينعقد فيها مجلس أبي مسلم ومعه نقباؤه وقواده، فدخل الدهقان القاعة وفي صدرها أبو مسلم على كرسي، وإلى جانبه خالد بن برمك وسليمان بن كثير وجماعة من النقباء، فلما أقبل على أبي مسلم رحَّب به فحيَّاه وتقدَّم، فأمر له بالجلوس بين يديه، فجلس متصدرًا وأعاد التحية، فقال له أبو مسلم بالفارسية: «نشكرك على هداياك أيها الدهقان.»
قال: «إني لم أُهدِ شيئًا، وإنما قدَّمت ما يجب عليَّ؛ لأن المصلحة واحدة.»
قال أبو مسلم: «بل أنت تفضلت، ولا ننسى ضيافتك يوم نزلنا عندك.»
فانشرح صدر الدهقان لذلك الثناء وقال: «كل ذلك واجب، وقد فعلته لأن الدعوة التي قمتم بها ينبغي على كل خراساني أو فارسي أن ينصرها؛ لأنها هي نقمة الفرس على العرب.»
فنظر أبو مسلم إلى خالد فرآه ينظر إليه، ثم حوَّلا نظرهما إلى الدهقان فإذا هو يزداد تصدُّرًا ويده في لحيته يمشطها بأنامله، فقال له أبو مسلم: «هل كنت تعلم بذلك قبل الآن؟»
فاستغرب الدهقان هذا السؤال وأوجس منه خيفة؛ لعلمه أن أبا مسلم قليل الكلام، كثير المعاني، فقال: «كيف لم أكن أعرفه؟ ألا تذكر مجلسنا تلك الليلة يوم تلوت علينا وصية الإمام، وتعاقدنا على نصرة هذه الدعوة؛ لأنها دعوة يجب على كل فارسي نصرتها؟»
قال أبو مسلم: «أتذكر نص تلك الوصية؟»
قال: «أذكر فحواها.»
قال أبو مسلم: «وما فحواها؟»
فتعجب الدهقان من تدقيقه، وازداد خوفًا مما وراء ذلك، ولكنه تظاهر بالاستخفاف وقال: «أذكر أنه يوصيك ألا تُبقي في خراسان لسانًا عربيًّا، وأن تقتل كل مَن شككت فيه.»
فنظر أبو مسلم إلى الدهقان نظر المتفرِّس، فلم يطق الدهقان صبرًا على تلك النظرة خوفًا من عواقبها فأطرق، فقال له أبو مسلم: «وهل عملتَ بهذه الوصية؟ هل سعيت معنا على العرب أعدائنا؟» قال ذلك بنغمة المرتاب وتجاهل العارف.
فتجلد الدهقان وقال: «كيف لا وأنا لم أدخر وسعًا في بذل الأموال واستنهاض الدهاقين لنصرة هذه الدعوة؟!» وكان الدهقان يظن أن أبا مسلم لا يعلم بزفاف جلنار على ابن الكرماني، كما تقدم.
فقال أبو مسلم: «أمن نصرة العجم على العرب أن تزفَّ ابنتك إلى ابن الكرماني ومعها الهدايا من الرقيق والمال؟»
فوقع الرعب في قلب الدهقان ولم يعلم بماذا يجيب، وبدت البغتة في وجهه، ورقصت لحيته، وارتعشت أنامله، ولكنه تجلد وقال وهو يضحك: «إن زفاف ابنتي إلى ذلك العربي إنما كان قبل الاجتماع المذكور.»
فقال: «ألا تذكر أن الفتاة كانت في بيتك ليلة ذلك الاجتماع وقد جالستنا؟»
فارتبك الدهقان في أمره وأخذ يتشاغل بإصلاح قلنسوته ومطرفه، ويبلع ريقه ويتنحنح وقد امتقع لونه، ولم يسعه السكوت فقال: «أعني أننا عقدنا قبل تلك الليلة، ورأيت من الفتاة رغبة إلى ابن الكرماني، فسايرتُها فيما ترضاه؛ لأنها وحيدتي.»
فقال أبو مسلم: «أصحيح ما تقوله.»
قال: «هذا هو الصحيح ورأس الأمير.»
فقال أبو مسلم: «وإذا كنت كاذبًا؟»
فلما سمع الدهقان ذلك زاد رعدة حتى صار ينتفض، والتفت إلى مَن حوله من القواد والنقباء لعله يجد بينهم من ينصره، فرآهم مطرقين لا يستطيع أحد منهم أن يتفوه بكلمة، فلم ير بدًّا من الجواب؛ لأن السكوت إقرار بالكذب — ولم يكن يخطر له أن أبا مسلم مطلع على سر ابنته — فقال: «حاشا لي أن أكذب بين يدي الأمير.»
فقال أبو مسلم: «إن العقد لم يتم إلا بعد زيارتنا، وابنتك لم تكن راضية بذلك العربي، وإنما أنت رضيتَه لها؛ استخفافًا منك بدعوتنا، وتزلُّفًا إلى العرب، وقد جادلتك هي في شأنه في الليلة التي كنا فيها عندك وأنت عازم على زواجها منه.»
فلم يبق أحد من الحضور حتى خالد بن برمك إلا وقد دهش لاطلاع أبي مسلم على هذه التفاصيل مع اشتغاله بمهام القيادة العامة، وتدبير شئون تلك الدعوة، وجعلوا يتلفتون بعضهم إلى بعض والدهقان يكاد يموت خوفًا، وقد جمد الدم في عروقه، وود لو خسفت الأرض وابتلعته في تلك اللحظة ولم يحر جوابًا.
وساد الصمت على تلك الجلسة هنيهة والجميع هادئون لا يتحركون كأن على رءوسهم الطير، لو داهم أحدهم السعال لبلع ريقه تسكينًا لما يحتك في أعلى الصدر، ثم قطع أبو مسلم السكوت وقال وقد وجه خطابه إلى النقباء: «فما قولكم في هذا الخراساني الذي سمع وصية الإمام بإبادة العرب فنصرهم وصاهرهم، ثم يقول إنه ينصرنا؟»
فلم يجب أحد منهم بكلمة؛ لعلمهم أنه لا يستشيرهم، وإنما هو يهدد الدهقان، ثم قال له: «فأنت إذن لم تحفظ وصية الإمام، فبدلًا من أن تنصر الخراسانيين نصرت العرب، وقد نصرتهم وهم أعداؤنا. أما أنا فلا يمكنني إلا حفظ تلك الوصية، وخاصةً آخر فقرة منها. أتعلم ما هي؟»
فأدرك الجميع مراد أبي مسلم حتى الدهقان نفسه، وفهموا أنه يشير إلى قول الإمام: «من شككت فيه فاقتله.» فنظر الدهقان إلى أبي مسلم نظر المستغيث، فقال أبو مسلم: «إن طاعة الإمام أولى من طاعة كل إنسان، وهو أوصاني أن أقتل كل من أشك فيه، وقد شككت فيك؛ فلا يمكنني سوى قتلك.» ثم نظر نحو الباب فدخل أربعة، على كلٍّ منهم درع من الجلد إلى أسفل الركبة عليها رشاش من الدم، وعلى رأسه قلنسوة طويلة ذات شعبتين عليها شيء من آثار الدماء، وحول الدرع منطقة من جلد علق فيها سيف.
فلما دخلوا علم الدهقان أنهم الجلادون، وسمع أبا مسلم يقول لهم: «خذوا هذا الخائن إلى خوارزم.»
فعلم الدهقان أنه يأمر بقتله، فنهض وترامى على قدمي أبي مسلم، وجعل يتضرع ويتوسل وهو يبكي ويقول: «اصفح يا مولاي عن ذنبي فأعطيك كل ما أملك.»
فأجابه أبو مسلم وهو ينظر إلى سقف القاعة، وقال بصوت ضعيف: «إن مالك لنا، سواء قتلت أو بقيت حيًّا.» فلما لم ير الدهقان إصغاء من أبي مسلم تحوَّل إلى خالد بن برمك وترامى عند قدميه واستشفعه، فرقَّ خالد له، ولم يكن أحد يجرؤ على مراجعة أبي مسلم في شيء غيرُه، فهمس في أذنه كلامًا، فقال أبو مسلم: «قد أجَّلنا قتله الآن. خذوه إلى السجن لننظر في أمره.»
فتقدم الأربعة وساقوا الدهقان بين أيديهم حتى خرجوا من باب سري يؤدي إلى غرفة مظلمة جعلوه فيها ولا سبيل لأحد إليه.