الضحاك
ولم يمض قليل حتى جاء الرجل؛ وكان طويل القامة، رقيق البدن، محدودب الظهر قليلًا بسبب طوله، وكان لا ينفك ضاحكًا لغير سببٍ بما يُشبهُ البَلَه، وكان يعتمُّ بعمامة كبيرة جدًّا مع صغر وجهه، وغور عينيه وصغرهما، وخفة شعر لحيته وشاربه، فيصير منظره مضحكًا، ولا يكلمه أحد إلا أضحكه. وكان قد دخل في حوزة الدهقان على سبيل البيع فاشتراه من بعض تجار الرقيق. وقد احتفظ به؛ لأنه عربي. وكان يندر أن يباع العرب بيع الرقيق في تلك الأيام. وقد أعجبه ما كان فيه من خفة الروح، فكان كثيرًا ما يدعوه ويسأله بعض الأسئلة عن العرب، فيجيبه عنها إجابة خبير، ويخلط الجد بالهزل. فلما أَنِس الدهقانُ في ابنته الانقباض في تلك الليلة أراد أن يفرِّج عنها فاستقدمه. فلما دخل ألقى التحية، ثم غمز عمامته فانحرفت إلى جانب رأسه، فأصبحت بكبرها وانحرافها ذات منظر غريب، والضحاك مع ذلك يضحك ويقهقه بلا سبب ظاهر.
فلما رأته جلنار ضحكت؛ لأنها كانت تستأنس به كثيرًا، وكانت تتوقع أن تستخدمه في بعض مصالحها لما تحققته من جدِّه في معرض المزاح، فقال الدهقان: «متى يثبت سلطان بني أمية في خراسان؟»
فأجاب على الفور: «متى شاب الغراب يا مولاي!»
فالتفت الدهقان إلى ابنته وابتسم كأنه يقول لها: «ألم أقل لك ذلك؟» ثم التفت إلى الضحاك وقال: «كيف تقول ذلك والأمويون لا يزالون أهل سلطان، وخليفتهم في الشام عنده الجند والأعوان، ألا تظنه ينجد هذه المدينة وينقذها من أصحاب الكرماني؟»
فقهقه الضحاك قهقهة عظيمة وقال: «مسكين نصر بن سيار! لقد بحَّ صوته وهو يستنجد بني أمية وينذرهم بسوء المغبة، إن لم ينجدوه، وما من مجيب. وقد بلغني أنه استعان في إقناع الخليفة بالشعر، فنظم له قصيدة قال له فيها.
«أتدري بماذا أجابه الخليفة على ذلك؟»
قال الدهقان: «بماذا أجابه؟»
قال: «كتب إليه أن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.» وضحك ضحكة طويلة «ولم يسعفه بشيء.»
فنظر الدهقان إلى ابنته واكتفى بتلك النظرة تأييدًا لقوله. وكانت هي في الحقيقة لم تقتنع. ولم يكن تمنُّعها لسبب سياسي أو طمعٍ في سلطان، ولكنها كانت ذات قلب يحب ويبغض، فإذا سلَّمت قيادها إلى والدها لا تستطيع أن تُسلم قلبها لابن الكرماني؛ لاشتغالها بحب رجلٍ رأت أنه يستحق محبتها، وكانت قد شاهدته في مجلس والدها مرة، فأعقبت تلك النظرة ألف حسرة، ولكنها لم تكن تجرؤ على مخاطبة أبيها؛ لأنها لم تكن تعلم ما إذا كان عند الرجل مثلما عندها، فسكتت. فأشار والدها إلى الضحاك فخرج مهرولًا، فلما خلا الدهقان بابنته قال لها: «سأرد رسول الكرماني في الغد بجواب الرضا، وتوكلي على الله.» فلم تُجبْ، فلم يهمه سكوتها؛ لاعتقاده أنه سكوت الحياء.
وكانت هي في أثناء صمتها قد شغل ذهنها سماع أجراس عن بُعدٍ لهدوء الطبيعة في تلك الليلة المقمرة، ثم سمعت نباح الكلاب وهي لا تنبح إلا على طارق، فتشاغلت عن سؤال أبيها بالإصغاء إلى رنَّات الأجراس، فانتبه أبوها لذلك، فقال لها: «يظهر أن قافلة تسير ليلًا في ضوء القمر.» ثم أخذت أصوات الأجراس تقترب، ونباح الكلاب يشتد، والدهقان وابنته صامتان، وكلٌّ منهما في شغل. وقد فرح الدهقان بقبول ابنته؛ لاعتقاده بما سيكون من أمر الكرماني وسلطانه، وما سينال من النفوذ والكسب على يده، ولعلمه أنه إذا لم يقبل طلبه طوعًا، فسيضطر لقبوله كرهًا.