الوسيلة
فخرجت ريحانة، وظل صالح مع جلنار فقال لها: «أريد منك — يا مولاتي — أن تتحلي بأخلاق الرجال، وتخلعي عنك ضعف النساء؛ فإننا مقبلون على عمل عظيم يتطلب الصبر والدهاء، فإذا كنت لا تصبرين على التعب أو لا تريدين الانتقام؛ فأخبريني منذ الآن ولا تتعبي نفسك بالأسفار.»
فقالت: «إذا كنت لا أريد الانتقام؛ فما الحيلة وأنا لا أستطيع الإقامة في هذه الديار؟ وكيف لا أحب الانتقام من رجل سلبني أهلي ومالي، وأخرجني من بيت أبي طريدة شريدة، وخان عهدي وهددني بالقتل؟ فإذا كنت أنت تريد الانتقام لأنه أراد قتلك، فكيف بي وأنا موتورة بقتل والدي؟! ولا تحسب خيانة العهد أخفَّ وقعًا في نفسي من اليُتم. ولا لومَ عليَّ إذا أردت قتله وأنا فتاة؛ فهو الذي علمني قتل الرجال، وأنت تعلم كم ترددت يوم أن اقترح علينا قتل ابن الكرماني! وكم استفظعت تلك الجريمة! ثم ارتكبتها التماسًا لقربه، وتضحية لحبه، فكافأني بالخيانة والغدر؛ فلا غرو إذا انقلبت عاقبة سَعْيه عليه.»
قال: «إذا كنت مصممة على ذلك، فأنا طوع إرادتك في كل ما ترين، وسنتباحث في الطرق اللازمة، وأما الآن فلا بد لنا من معرفة الخطة التي يجب أن نسلكها في العمل؛ لأننا لا نستطيع أن نتغلب على هذا الرجل بالسيف وهو صاحب القوة، ولا نستطيع ذلك بالدهاء والبطش وهو أدهى الناس وأشدهم بطشًا؛ فلا بد من حيلة نحتالها عليه.»
فأحست جلنار بقصر باعها في هذا الشأن، وظهر الارتباك في وجهها.
فابتسم صالح وقال: «لا تيأسي يا مولاتي، ولا تظني أني أسألك لقلة الوسائل عندي، ولكنني أستطلع رأيك.»
فانبسطت نفسها وقالت: «كيف أعرف الوسائل وأنا لم أخرج من بيت والدي قبل تلك المرة المشئومة؟! فدبِّر أنت ما تراه وأنا أسير معك.»
قال: «ذلك ما كنت أرجوه من تعقُّلك وحزمك؛ فاعلمي — يا مولاتي — أننا لا نقدر على الكيد لأبي مسلم إلا في الشام عند الأمويين؛ فهم أعداؤه الألداء، وهم الذين ينتقمون لنا منه.»
قالت: «وكيف ينتقمون لنا؟ هل يجردون عسكرًا لمحاربته؟ وهبْ أنهم يفعلون ذلك، فهل تضمن أنهم يُفلحون والرجل مُحصَّن في مرو؟»
قال: «لا أعني أن يجردوا لذلك جيشًا؛ لأنهم كما قلت لا يفعلون ذلك من أجلنا، وإذا فعلوه لا يفلحون، ولكنني أهديهم إلى جذر الشجرة، فإذا قطعوه سقطت الشجرة ميتة.»
فلم تفهم جلنار ماذا يعني فقالت: «وأية شجرة تقصد؟»
قال: «أعني صاحب هذه الدعوة الذي قام أبو مسلم وأصحابه يدعون الناس إليها باسمه.»
قالت: «أظنك تعني إبراهيم الإمام؟»
قال: «إياه أعني.»
قالت: «وكيف تصل إلى ذلك الجذر؟ وأين هو؟»
قال: «هو في جهات الشام؛ في مكان لا يعرفه إلا نفر قليلون.»
قالت: «وهل تعرفه أنت؟ وأين هو؟»
قال: «نعم، إنه في الحميمة في أرض البلقاء بالشام.»
قالت: «وما الذي ذهب به إلى هناك؟ وما قصته؟»
فقال: «إن الوقت قصير لا يأذن لي بسرد القصة مطولة، ولكنني أقول باختصار: إن النبي ﷺ لما مات لم يوص بالخلافة إلى أحد، فاختلف أصحابه عليها، وكانوا فئتين: المهاجرين والأنصار؛ فالمهاجرون هم الذين هاجروا معه من مكة إلى المدينة يوم هاجر فرارًا من ظلم أهلها، والأنصار هم الذين نصروه لما جاء المدينة. وبعد جدال طويلٍ أقروا على أن الحق في الخلافة للمهاجرين، فتولاها واحد منهم، ثم الثاني، والثالث بالانتخاب فيما بينهم، ولم يكونوا يعرفون توريث الملك، كما كان الفرس يفعلون، ولكن أهل النبي الأقربين كانوا يرون التوريث، ويعدون خروج الخلافة من بين أيديهم حيفًا وظلمًا.
وأقرب الأقربين من النبي عمه العباس وابن عمه علي بن أبي طالب، فبعد الخلفاء الثلاثة تولاها علي ابن عمه، لكنها لم تستمر في نسله، فأخذها منهم بنو أمية بالدهاء والعصبية، وتوارثوها نحو مائة سنة إلى مروان بن محمد الذي يحاربه أبو مسلم الآن. وكان أولاد العباس في أثناء هذه المدة يسعون في إرجاع الخلافة لهم، وهم الذين يعبرون عنهم بأهل البيت، وكل منهم يطلبها لنفسه.
«آل علي يريدونها لأنفسهم، وآل العباس يزعمون أنهم أحق بها من سواهم. ثم إن آل علي الذين يطالبون بالخلافة فئتان: إحداهما نسل ولده من امرأته فاطمة بنت النبي، والثانية نسل ابنه من امرأة أخرى، واسمه محمد بن الحنفية. وكان كلٌّ من هؤلاء أيضًا يطلبها لنفسه، فاتفق أن ابن محمد بن الحنفية هذا، واسمه هاشم، جاء دمشق وافدًا على سليمان بن عبد الملك الأموي، فرأى سليمان منه فصاحة وقوة فخافه، فأوعز إلى رجل سمَّه بلبن، فأحسَّ أبو هشام بقرب الوفاة وهو راجع إلى المدينة، فخاف أن يموت قبل أن يعهد بالخلافة لأحد من أهله، ولم يكن أحد منهم معه لكي يبايع له، فعرج إلى بلد في البلقاء يقال لها الحميمة. كان بنو العباس يقيمون فيها، ويدعون الناس إلى أنفسهم سرًّا، وكان صاحب الدعوة منهم يومئذ محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فنزل عنده أبو هشام وأوصى إليه، وكان معه جماعة من شيعته سلَّمهم إليه، وأوصاه بهم، ثم مات، فأخذ محمد المذكور في بث الدعاة، ثم مات وخلف أولادًا كثيرين من جملتهم إبراهيم الذي يُسمُّونه الإمام، فأقام إبراهيم بعد أبيه بالأمر واستكثر من بث الدعاة إلى الأطراف، وخصوصًا خراسان؛ لأن الشيعة كانوا أشد وثوقًا بأهل خراسان من غيرهم.»
فقطعت جلنار كلامه وقالت: «لماذا لم يسعوا في غير هذه البلاد؟»
قال: «لأن أهل الشام ومصر متفقون مع بني أمية وفيهما أهل الدولة، وأما الحجاز فأهله قليلون لا يستطيعون القيام بالدعوة، وأما أهل البصرة والكوفة فكان أهل البيت مذعورين منهم؛ لأنهم خانوهم غير مرة. وفضلًا عن ذلك، فإن أهل خراسان كانوا ناقمين على بني أمية؛ لاحتقارهم إياهم، وعسفهم فيهم، كما تعلمين، فرأوا منهم أذنًا صاغية. وكان أهل خراسان من قبل يبايعون لآل عليٍّ ضد بني أمية، ووُفِّق إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم هذا، فبعثه قائدًا لدعاته ونقبائه، فتمكن بدهائه وشدته وقسوته من فتح مرو كما رأيت، وهو يتظاهر بالمبايعة لأهل البيت على العموم — أي أهل بيت النبي — فالناس يبايعون الآن لإبراهيم الإمام باسم أهل بيت النبي، على أن يتناوبها العباسيون والعلويون، ولكنني لا أظن العباسيين إلا سيخرجونها من أيديهم. والخلاصة أن إبراهيم الإمام هو مركز الدائرة التي تدور عليها هذه الدعوة، وهو مقيم في الحميمة، ولا يعلم به مروان بن محمد؛ صاحب دولة بني أمية. فالذي أراه أن نسعى في كشف هذا السر لمروان، فيبعث من يقبض عليه بسهولة، ومتى حبسه أو قتله ذهبت مساعي أبي مسلم هباءً، فيشتد أمر بني أمية. وهذا أشد انتقام نقدر عليه.»
فلما سمعت جلنار قوله أحست بارتياح لرأيه وقالت: «إنه رأي صواب. والآن ماذا نعمل؟»
قال: «لا بد لنا من مغادرة هذا المكان سريعًا بما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، ثم نسافر إلى العراق فالشام ونسعى في الأمر.»
فقالت: «ولمن نترك هذا القصر وهذه الجنات؟»
قال: «نتركها لذلك الظالم الذي بيده السلطة الآن وهو يطلب حياتنا، فإذا نجونا بها غلبناه، ولا يغنيه البنيان ولا الأشجار شيئًا عما سندبِّره لهلاكه، بإذن الله.»