سليمان بن كثير
أما صالح فإنه عاد مع سعيد إلى الدهقانة وخدمها — وكانوا في انتظارهما — ثم أخذوا في السير حتى انتصف النهار، وقد بعدوا عن مرو، فترجلوا ونصبوا خيامهم بجانب عين ماء في ظل الأشجار، ومكثوا للاستراحة، فاغتنم صالح تلك الفرصة وذهب إلى الدهقانة — وعندها ريحانة — وقال لها: «ينبغي أن نُطلع خدمك الخصوصيين على الحقيقة، ونكتم الأمر عن الخدم الآخرين الذين هم في خدمة الدواب؛ كالسياس ونحوهم.»
قالت: «افعل ما تراه؛ فإني لا أدري ماذا أعمل.»
فخشي ضعفها فقال لها: «أراك قد ضجرت ونحن لا نزال في أول الطريق!»
قالت: «لم أضجر، ولكنني لا أزال أحسب نفسي في حلم من هول ما رأيته بالأمس، وأنا لم أذق نومًا.»
قال: «نحن هنا في مأمن؛ فنامي واستريحي؛ لأن سفرنا طويل، وأما أنا فلا أنام حتى أدبر الأمر الآخر.»
قالت: «وأي أمر تعني؟»
قال: «أتظنين صالحًا يغفل عن فرصة يغتنمها في سبيل ذلك؟» ثم حكَّ لحيته وأصلح قلنسوته وقال: «نحن ساعون في قطع الشجرة من جذرها، ولكنني سأدبر حيلة أُلقي بها الشقاق بين فروعها؛ أي بين أبي مسلم ونقبائه.»
قالت: «وكيف ذلك؟ وأي النقباء تعني؟»
قال: «أتعرفين سليمان بن كثير؟»
قالت: «أنت أخبرتني أنه كبير النقباء، وأنه قديم في هذه الدعوة.»
قال: «هو أقدم من أبي مسلم فيها، ولكنه كان يدعو أهل خراسان لولد علي بن أبي طالب، وكان هو زعيم هذه الدعوة، فلما توفي صاحب الدعوة العلوية وتحولت إلى بني العباس كما ذكرت لك، أرسل الإمام إبراهيمُ أبا مسلم من قِبله وجعله رئيسًا على سائر النقباء، وفي جملتهم سليمان بن كثير، وهو شيخ جليل، وأبو مسلم — كما تعلمين — شابٌّ، فشق ذلك على سليمان في بادئ الأمر، ولم يقبل أن يكون تحت قيادته، ثم قبل رغم إرادته، على أن أبا مسلم غيَّر صورة الدعوة فجعلها باسم «آل محمد»؛ أي أهل النبي، وهو اسم يشمل العباسيين والعلويين؛ لأن الأوَّلين من نسل العباس عم النبي، والآخرين من نسل علي ابن عمه. والذي أراه أن أبا مسلم فعل ذلك استعدادًا لنقل الدعوة إلى آل العباس، وإنى أعلم أن سليمان بن كثير لا يريد ذلك، بل هو يفضل بقاءها لآل علي؛ لأن هذا هو مشروعه الأصلي وبه فخرُه. وفي نيتي أن أكتب إلى سليمان كتابًا أستحثه فيه على حفظ البيعة لأولاد علي، وأُبيِّن له طمع أبي مسلم ونحو ذلك مما يهيج الضغائن بين هذين الرجلين، وهما دعامة الدعوة، فإذا اختلفا اختل نظامها.»
فأعجبت جلنار بسهره على هذا الأمر، وتجددت قواها وآمالها، وازدادت تسليمًا له وقالت: «بورك فيك. افعل ما تراه موافقًا. وهل بعد هذا السهر والاهتمام من حاجة إلى اهتمامي، ومع ذلك فإن السهر والتعب قد أثَّرا فيَّ كثيرًا وأنا لم أتعود ذلك.»
من دهقان يخاف أن يذكر اسمه إلى سليمان بن كثير
أما بعد، فإنك جئتنا منذ بضع سنين تدعونا إلى بيعة أهل النبي؛ لأنهم أقرب للتقوى والعدل — ولا يكون آل النبي إلا كذلك — فأطَعْنا وبايعناك؛ لنتخلص من ظلم بني أمية؛ لأنهم يكلفوننا دفع الأموال بغير حق، ويعاملون غير العرب باحتقار، فحمدنا الله على قرب نجاتنا من ذلك الظلم على يدك وأنت شيخ عاقل حكيم، ثم ما لبثنا أن رأينا الأمر قد تحوَّل وأصبحت أنت وسائر النقباء في قبضة غلام لا يعرف له أصل ولا نسَب، فاستبد بكم وتطاول عليكم، ونحن نحسَب طاعتكم له عن حكمةٍ أو حسن سياسة؛ لأن المسلمين إنما يفضلون بالتقوى، ثم علمنا أنه لا يمتاز عنكم إلا بسفك الدماء والقسوة وحب الأثرة، وأنه إنما يستخدمكم لمطامعه، ولا يبالي أن يقتل أيًّا كان التماسًا للسلطة، فيستخدم الناس لغرضه ثم يقتلهم، كما فعل بالكرماني وكما فعل بدهقان مرو، بعد أن بذل ما بذله من المال، فقتله شرَّ قتلة.
وهو يزعم أنه يفعل ذلك بأمر الإمام، وأي إمام يأمر بالقتل على الشك؟ فقد عرفنا الأئمة يحاسبون أنفسهم على حشرة يقتلونها، فكيف بقتل الناس؟! بل كيف بقتل كبار المسلمين الذين نصروا الدين بأموالهم وأنفسهم، ولا سيما الدهاقين الذين هم عُمُدكم في هذه النهضة؟ لأن خراسان في قبضتهم، وقد نصروكم وأيدوا دعوتكم. فكيف يقتلهم هذا الظالم بلا سبب غير الشك؟ فأصبح سائر الدهاقين في خراسان مهدَّدين بالقتل، وأنا منهم؛ ولذلك لم أجرؤ على ذكر اسمي، على أن الخطر يشمل كل من ينصر هذا الغلام من النقباء، وأنت في مقدمتهم؛ فلا بد من أن يأتي يوم يقتلك فيه وهو لا يحتاج في تحليل قتلك إلى أكثر من الشك فيك — وما أسرع الشكُّ إلى قلب الإنسان — ولا جناح على أحد سواك؛ لأنك جررتَ البلاء على نفسك بيدك. كنتَ رئيسًا على أهل الهدى تدعو الناس إلى بيعة خليفة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يقتل المسلمين ولا يظلمهم، فجعلت نفسك عبدًا لغلام يزعم أن إمامه أمره بقتل الناس على الشك. وأراه يتلاعب بكم جميعًا، فبعد أن كانت البيعة باسم أبناء عليٍّ جعلها باسم أهل البيت إجمالًا تمهيدًا لإخراجها من العلويين لبني العباس؛ ليستقل بها صاحبه ومولاه الإمام إبراهيم، وتذهب مساعي العلويين ونقبائهم هباءً منثورا، فإذا كنتم لا تزال فيكم بقية عقل وحمية، فاستدركوا الأمر قبل استفحاله، وأرجعوا البيعة لأصحابها الأتقياء، واعلموا أنكم إذا فعلتم ذلك، كان كل الدهاقين في خراسان وسائر أهل فارس من أنصاركم؛ فبادر يا ابن كثير إلى استدراك ما فات، وأرجع البيعة لأصحابها، وأنقذ المسلمين من أُناسٍ يقتلون على الشك لا يستثنون مسلمًا ولو كان نصيرًا أو نقيبًا أو إمامًا، وإلا فإن العاقبة تعود عليك، وأنت أول من تقع النقمة على رأسه. وهذا إنذار لك ولسائر النقباء الذين استسلموا لذلك الغلام، والسلام.
ولما فرغ من كتابة الكتاب لفَّه وجعله في أنبوب من القصب الفارسي وأقفل عليه، وحمل الأنبوب وخرج إلى خيمة الخدم، فلقي سعيدًا في الطريق عائدًا من خيمة جلنار، فناداه فوقف، فقال صالح: «كيف فارقت الدهقانة؟»
قال سعيد: «تركتها مستغرقة في النوم من شدة التعب.»
قال صالح: «عندي كتاب أريد إرساله إلى مرو، فهل تثق بأحد من أولئك السياس نبعثه في هذه المهمة على أن يحفظ ذلك سرًّا؟»
قال سعيد: «عندنا سائس أبكم سريع الفهم.»
قال: «إن البكم يلزم في هذه المهمة، ولكن الأبكم يكون أصم أيضًا؛ فكيف يفهم مرادنا؟»
قال سعيد: «إن هذا الأبكم غير أصم؛ فهو يسمع ولكنه لا يستطيع الكلام؛ لقد أصيب بالبكم نتيجة عقدة لسانه.»
قال صالح: «وهل اختبرت أمانته؟»
قال سعيد: «أنا على يقين من أمانته.»
قال صالح: «أين هو؟»
فصاح سعيد مناديًا أحد السياس وأشار إليه فأتى نحوه، وإذا هو قصير القامة، أسمر اللون، ممتلئ الجسم ودلائل الصحة بادية في استدارة وجهه، وغلظ عنقه، واتساع صدره، وكان جذعه عاريًا إلى الحقوين، فبان الشعر كثيفًا على صدره وكتفيه، وذراعاه مستديرتان ممتلئتان، وكذلك ساقاه وقدماه. وليس عليه من الكساء إلا سراويل قصيرة تغطي فخذيه إلى أعلى الركبة، فوقف وأشار برأسه إشارة التحية، فقال له صالح: «أتعرف مرو؟»
فأشار برأسه أن: «نعم.»
قال: «أتعرف أميرًا اسمه سليمان بن كثير؟»
فأشار بيديه وأصابعه أنه عرفه منذ نزل أبو مسلم عند الدهقان المرة الأخيرة، وتحقق صالح من إشارات أخرى أنه عرف الرجل حقيقةً، فقال له: «خذ هذه القصبة (وأخرج له الأنبوب) وامض سريعًا إلى مرو، واذهب توًّا إلى دار الإمارة، فتجد الرجل هناك؛ فادفع إليه هذه القصبة وأسرع راجعًا، وإذا سألك سائل لا تجبه. والأفضل أن تدفعها إليه وتنجو بنفسك سريعًا، وتعود إلينا فتجدنا في انتظارك هنا أو في المحطة التالية. خذ الدابة واركب عليها إلى مرو.»
فضحك السائس وأشار إلى قدميه الغليظتين وقبض يده بشدة كما يُعبِّر الخرس عن القوة؛ يريد أن يقول إن قدميه أسرع من الدابة، فربَّت صالح على كتفه تحبُّبًا وثناءً، فلامست أنامله الجلد فابتلت من العرق.
أما السائس فتناول القصبة وأشار برأسه إشارة الوداع، وتحوَّل نحو مرو مسرعًا سرعة الغزال، وصالح وسعيد ينظران إليه ويعجبان من سرعته حتى توارى عن أبصارهما، فتحوَّلا للاستراحة، فمضى صالح إلى خيمته واستلقى وأخذ يفكر فيما ينبغي له من السعي في مشروعه.