أبو سلمة الخلال
وكانت الشمس قد مالت نحو الأصيل، وتذكَّر أنهم لا يزالون على مقربة من مرو بحيث تكاد تمسهم يد أبي مسلم، وتصور أن أبا مسلم علم بمكانهم، فبعث من يتبعهم، فاقشعر بدنه لاعتقاده في دهاء ذلك الرجل، وقدرته العجيبة على كشف المخبآت، وشدة بطشه، فإذا عثر عليهم لا يبقي على أحد منهم. ويا لها من خيبة! ولكنه رأى نفسه عاجزًا عن مواصلة السير في تلك الساعة؛ نظرًا لما تشكوه جلنار من التعب بعد الجهد الذي بذلته، وشدة حاجتها إلى النوم، فعزم على السفر حالما تستيقظ ولو في نصف الليل.
وبينما هو في تلك الهواجس سمع أجراسًا تدق عن بُعد، فاختلج قلبه ونهض مذعورًا؛ لعلمه أنها أجراس قافلة مارة من هناك، وأصاخ بسمعه ليتبين جهة المسير، فأدرك أنها قادمة من الشمال فترجَّح عنده أنها من القوافل التي تتردد بين العراق وخراسان، فخرج من خيمته لعله يراها عن بعد من جهة الصوت، ولكنه لم ير القافلة؛ لأنها كانت لا تزال متوارية وراء التلال، فأسرع إلى ثيابه وتنكَّر بملابس حاجب أبي مسلم وقلنسوته، وأصلح من شأنه وذهب إلى سعيد وأبي العينين وسليمان وأخبرهم بمجيء القافلة، وأنه عازم على استطلاع الأخبار منها، وأوصاهم أن يكونوا على حذر لئلا تبدر منهم كلمة أو إشارة تدل على حقيقة أمرهم.
ثم ركب فرسًا وساقه نحو الجهة التي سمع منها دق الأجراس، وبعد قليل أطل على القافلة فإذا هي سربٌ من الجمال يقودها حمار عليه شيخ كأنه الدليل، وإلى جانبي القافلة فرسان مدججون بالسلاح لحراسة القافلة، فعلم أنهم يحملون أموالًا لأبي مسلم، فضلًا عن المئونة ونحوها، فوقف يعترض القافلة كأنه صاحب الأمر والنهي، فأسرع إليه أحد الفرسان، فابتدره صالح قائلًا: «لماذا هذا التباطؤ في المسير؟»
فلما سمعه الفارس يخاطبه بسلطان، ورأى عليه ثياب حجَّاب أبي مسلم، ظنَّه قادمًا من عنده لاستعجالهم فقال: «أتعدون مسيرنا بطيئًا وقد جئنا من الكوفة إلى مرو في عشرين يومًا ومعنا هذه الأثقال. هل أنت قادم لاستعجالنا؟»
قال: «إني ذاهب ببشارة لشيعتنا في الكوفة، ولكنني سمعت الأمير يذكر إبطاءكم، فأسرعوا حفظكم الله.»
فلما سمع الفارس قوله إنه ذاهب ببشارة تشوَّق للاطلاع على البشارة فقال: «وما هي تلك البشارة؟»
قال: «ألم تعلموها بعدُ؟ ألم تروا نصر بن سيار؛ صاحب مرو، تائهًا في هذه الأودية؟»
قال الفارس: «كلا. وهل فتحتم مرو؟»
قال: «فتحناها منذ بضعة أيام وأعلام الحق تخفق الآن فوق دار الإمارة، ولو عجلتم قليلًا لشهدتم الفتح واشتركتم في الغنيمة. كيف فارقتم شيعتنا في الكوفة؟»
قال الفارس: «هم في خير، وستشتد عزيمتهم بخبر الفتح، ولا سيما أبو سلمة، رعاه الله.»
قال صالح: «وكيف أبو سلمة؟»
فتذكر صالح حال أبي سلمة هذا، وأنه من كبار الأغنياء، وقد بذل ماله في سبيل نصرة الشيعة، وأنه كان قبل ظهور أبي مسلم يفعل ذلك في نصرة شيعة عليٍّ، كما كان يفعل سليمان بن كثير، فلما تحولت الدعوة إلى العباسيين ورأسها أبو مسلم أذعن كما أذعن ابن كثير، وصار يبذل أمواله في نصرتهم. ومرت القافلة وهما واقفان يتكلمان، وصالح ينظر إلى الأحمال فإذا هي كثيرة، وفيها صناديق الأموال، فلما خطر له أمر أبي سلمة الخلال تظاهر بالإسراع، وودع الفارس وأوصاه بالإسراع وقال له: «واصلوا السير إلى مرو، ولا تقفوا في هذه المحطة؛ فتصلوا إلى مرو في العشاء.»
فأشار الفارس إشارة الطاعة وافترقا، فأظهر صالح أنه يسير نحو الكوفة حتى إذا توارت القافلة عن بصره، رجع الهوينى في أثرها بحيث يرى أطرافها، ولا يراه أحد من أهلها، فرآها عند وصولها إلى المحطة لم تقف إلا قليلًا ثم أقلعتْ، فسرَّه ذلك وسار إلى خيمة الدهقانة فرآها لا تزال جالسة عندها، فسأل الخدم عن القافلة فقالوا: «أنهم مشوا مسرعين ولم يقولوا شيئًا.» فذهب إلى خيمته وبدَّل ثيابه وهو يفكر في أبي سلمة الخلال والسبيل إلى تحويله عن نصرة أبي مسلم، وإذا بسعيد الصقلبي قد جاءه مسرعًا وناداه بلهفة فقال له: «ما وراءك؟»
قال: «أدرك مولاتي الدهقانة، فإنها استيقظت من نومها وهي تبكي وتنتحب، ولا نعلم ما بها.»
فعلم أنها تبكي لأنها يتيمة وغريبة، وقد أخذت تحس بمصيبتها وتتبين ضخامتها، فأسرع إلى خيمتها فلقي ريحانة بالباب وهي تشير إليه أن يسرع، فدخل الخيمة فرأى جلنار جالسة في الفراش، وشعرها مرسل على كتفيها، وقد احمرت عيناها، وتكسرت أهدابها من كثرة البكاء، فلما أطل صالح صاحت به: «آه يا صالح، بل يا ضحاك؛ لأني هكذا كنت أناديك في أيام سعادتي، وأنا الآن يتيمة مقهورة شاردة هاربة.»
فجثا صالح عند فراشها وقال: «ما الذي جرى يا مولاتي؟ هل حدث شيء جديد؟»
قالت وهي لا تستطيع أن تمسك نفسها عن البكاء: «آه يا صالح! كنت نائمة فرأيت في منامي أن ذلك القاسي جاءني وفي يده خنجر، وكأنه يهم بقتلي، فصحت فيه: ويلك يا ظالم! أهذا جزاء المحبة؟! ووبّخته وعنفته وعاتبته عتابًا شديدًا وهو واقف لا يتكلم، وكان غيظي يتعاظم عليه، وحنقي يشتد، وأشعر رغم ذلك بشيء يتحرك في قلبي وينعطف نحوه، وكأن بين ناظريه وعروق قلبي رباط لا أدري ما هو، فقلت له: لا يغرنَّك ضعف هذا القلب؛ فإني سأغلبه وأغلبك، وأنتقم لقتل والدي شر انتقام.»
فقطع صالح كلامها بلهجة المجون وقال: «احذري أن تذكري اسمي، أو تخبريه إني مشجعك على هذا الانتقام؛ لئلا يرسلني إلى خوارزم.» قال ذلك وضحك كما كان يفعل في أيام مجونه.
فلم يسع جلنار إلا الضحك رغم ما بها، ثم أمسكت نفسها ونظرت إليه شزرًا، فابتدرها قائلًا: «لا ذنب لي في ذلك، فإنك ناديتني باسمي القديم وتمنيتِ أن أتسمَّى به، فتقمصت شخصيته؛ لأن الضحك على كل حال خير من البكاء. ومع ذلك لم أكن أحسبك تهتمين بأضغاث الأحلام، وتستسلمين للضعف النسائي. وقد طلبت إليك منذ أول خطوة خطوناها أن تخلعي عنك هذا الضعف، وتتخلقي بأخلاق الرجال؛ لأن الأمر الذي نحن بسبيله يحتاج إلى دهاء وتعقُّل وسعة صدر.»
قالت: «لا أزال غير قادرة على فكر أو عمل.»
قال: «لا أُكلِّفك أن تقومي بعمل؛ فقد شرعت في العمل منذ الآن، فكتبت كتابًا إلى سليمان بن كثير (وأخبرها فحواه)، وإنما أطلب إليك الصبر والدعاء وأنا ضامن أنك ستنسين كل هذه المتاعب. اصبري؛ إن الله مع الصابرين.»
فأحست جلنار بثقل أزيح عن صدرها وقالت: «صدقتَ؛ لا حيلة لي غير الصبر.» ثم مسحت عينيها والتفتت إلى ريحانة، فرأتها تذرف الدموع بلا بكاء ولا شهيق حتى كادت تختنق من ضيق صدرها، وحبس عواطفها. فلما رأت مولاتها تنظر إليها ووجهها منبسط، ابتسمت والدمع ملء عينيها وقالت: «تجلدي يا مولاتي. ولا بد من الصبر، والفرج قريب، بإذن الله.»
فرأى صالح أن من الحكمة أن يشغلهما عن ذلك الحديث النسائي فقال: «أخبريني يا مولاتي: هل تعرفين أبا سلمة الخلال؟»
فظلت جلنار صامتة مطرقة كأنها تستحث ذاكرتها وهي تتذكر أنها سمعت هذا الاسم قبل الآن، فبادرت ريحانة إلى الجواب قائلة: «أظن مولاتي لا تذكره، ولكنني أعرف هذا الاسم جيدًا؛ فإنه لرجل فارسي من أكبر أرباب الثروة في العراق وفارس، وكان بينه وبين مولاي — رحمه الله — علاقات قديمة، وكثيرًا ما كان يزوره وينزل في داره أيامًا، وكانت مولاتي الدهقانة لا تزال صغيرة.»
فابتسم صالح وبدا السرور في وجهه وقال: «إن هذا الرجل من أكبر دعائم هذه الدعوة؛ فهو يؤيدها بماله كما يؤيدها أبو مسلم بسيفه ودهائه، وحكايته مع أبي مسلم مثل حكاية ابن كثير، فإن أبا سلمة كان مع ابن كثير يدعوان للعلويين، ثم أطاع أبو مسلم في الدعوة الجديدة رغم إرادته، فإذا استطعنا تحويل أبي سلمة عن تأييد هذا المشروع، غلَّت أيديهم عن العمل، ولا سيما بعد القبض على إبراهيم نزيل الحميمة.»
فقالت جلنار: «تذكرت هذا الاسم الآن، وأذكر أيضًا أنه جاءنا مرة ومعه الهدايا والأحمال، وفيها الحلي والجواهر. وكان والدي — رحمه الله — يحبه.»
فقالت ريحانة: «وأنا أعرف امرأة من نسائه أصلها من مرو، بينها وبين والدة مولاتي الدهقانة — رحمها الله — قَرابة، وسيدي الدهقان والدك زوَّجه إياها، وكنتُ واسطة بينهما.»
فقال صالح: «لقد هان الأمر الآن. فالذي أراه أن نحمل مولاتنا إلى الكوفة ننزلها في مكان تقيم فيه في أمان ريثما أذهب لقضاء المهمة الأولى في الشام، ثم آتيكم إلى الكوفة ظافرًا غانمًا.» ثم التفت إلى الدهقانة كأنه يستطلع رأيها، فرآها صامتة وفي وجهها ملامح الاستسلام، فقال لها: «كوني مطمئنة؛ فإني لا أتركك حتى أتحقق من راحتك وسلامتك، وأترك عندك ريحانة وسعيدًا وأبا العينين، واصطحب الحلبي فقط؛ لأنه يعرف الشام؛ لعليَّ أحتاج إليه في شيء. والآن لا بد لنا من الإسراع في الرحيل؛ لئلا يعرف أبو مسلم مكاننا، فيذهب كل سعينا هباءً، ولا غرابة في اطِّلاعه على سرنا وهو يكاد يطلع على خفايا القلوب.»
فتنهدت جلنار ولم تجب، فأدرك صالح أنها تتأسف على خيبة أملها في أبي مسلم، لكنه تجاهل ووقف لتدبير أمر السفر إلى الكوفة.