الرؤيا
قال الشيخ: «بدأت رؤياي بصوت أيقظني وإذا برجل ينادي: «الحميمة، الحميمة، الحميمة!» فقلت: «وما الحميمة؟» قال: «في الحميمة أصل الشر ومنبع العداوة.» فقلت: «وأية عداوة؟» فزجرني الصوت وقال: «اذهب إلى إمامكم مروان بن محمد في هذه الساعة، وقل له إن عدوه الأكبر إبراهيم في الحميمة، وهو أصل متاعبه، فإذا قبض عليه وقتله فقد قطَع رأس الحيَّة؛ فاذهب إليه حالًا.» وأردت أن أستزيده بيانًا فاستيقظت من منامي وجئتُ إليك فبلَّغت الرسالة، وها أنا ذا راجع إلى مغارتي.» قال ذلك وهمَّ بالنهوض، فأقعده مروان وسأله عما يظنه من أمر هذه الرؤيا، فقال: «نحن لا نفسر الرؤيا، وإنما ننقلها كما أتتنا؛ فعليك الآن أن تسأل عن الحميمة، فإذا كانت بلدًا فابعث إليه مَن يبحث عن رجل اسمه إبراهيم.»
ففطن مروان للحال أن هذا الاسم هو اسم صاحب الدعوة العباسية، ولم يكن يعرف مكانه، فأدرك أن المراد بالرؤيا التنبيه إلى مكان صاحب تلك الدعوة للقبض عليه، وآمن بولاية الشيخ لأنها وافقت غرضه. والإنسان وإن أنكر السحر وكذب أقوال السحرة، فإنه إذا رأى في أقوال أحدهم قولًا يوافق ما في نفسه مال إلى تصديق السحر، حتى الطبيب إذا لم يطمئن أهل المريض ويؤكد لهم شفاء مريضهم اتهموه بالجهل بلا برهان، وإنما يدفعهم إلى تلك التهمة كُرههم لما يعتقده. وتذكر مروان أنه يعرف بلدًا بالبلقاء اسمها الحميمة، فعزم على إرسال جند يبحثون عن رجل اسمه إبراهيم؛ فإذا كان من نسل العباس كان هو المراد، فيقبضون عليه ويزجون به في السجن. أما الشيخ فظل متحفزًا للخروج، فقال له مروان: «امكث أيها الشيخ عندنا على الرحب والسعة.»
فقال الشيخ وهو يُنفِّض يديه: «أعوذ بالله من هذا الشر! أتريد يا مروان أن تحجب عني وجه الخالق، وتفصل بيني وبين أهل الغيب؟»
فقال مروان: «أخبرني إذن ما هو اسمك، وأين مقامك؛ حتى أبعث إليك عند الحاجة.»
قال: «لا أقدر على ذلك الآن، ولا حاجة لك بي؛ إذ لا أقدر على شيء غير ما أراه في الرؤيا أو أسمعه من الهاتف، فلو سألتني سؤالًا من عندك فلا جواب عندي، فإذا شئت أن تنتفع بي دعني أنصرف إلى مغارتي ولا تسألني عن اسمي، فإذا أتتني رؤيا أخرى أو خطر لي شيء يقال؛ أتيتك على عجل. وأرجو أن تأمر حاجبك ألا يؤخرني عنك، واحذر أن تطلع أحدًا على أمري؛ فإن حفظ هذا السر يحفظ خدمتي لك.»
فرأى مروان في كلام الرجل قوة، وكان يود إبقاءه عنده، فلما سمع عذره لم يشأ أن يرغمه على البقاء، فقال له: «فاصبر إذن لنأمر لك بالجائزة.»
فصاح: «الجائزة! الجائزة! ولماذا؟ إننا لا نأكل من طعامكم، ولا نشرب من شرابكم، ولا نمس أموالكم. هكذا أُمرنا، فأطلق سراحي يا مروان أو اقتلني، فإني بين يديك، ولا أرى سببًا لتأخيري سوى أنك تريد نفسي فخذها.» قال ذلك بلهجة شديدة، فاستغرب مروان غضبه بلا سبب، وقال في نفسه: «يظهر أن هذه أخلاق الأولياء وأهل الصلاح.»
فأخذ يخفف من غضب الشيخ ويسايره وقال له: «افعل ما بدا لك. وإذا شئت أرسلت من يحرسك حتى تصل مكانك.»
فقال الشيخ والغضب بادٍ على وجهه وفي صوته: «الذي أريد منك يا ابن الكردية أن تطلق سراحي قبل أن تزهق روحي.»
فحمل مروان قوله هذا أيضًا على البَلَه؛ لاعتزال أولئك الزهاد عن الناس، وانقطاعهم للعبادة آناء الليل وأطراف النهار في مغارة لا يرون فيها أنيسًا ولا يعاشرون غير الدواب، فقال له: «اذهب في حراسة الله، واعلم أن بابنا لا يغلق عنك ليلًا ولا نهارًا، فإذا رأيت رؤيا فتقدم بها إلينا.» وأمر الحاجب أن يطلق سبيله، وأوصاه ألا يذكر خبره لأحد. فخرج مهرولًا وخطواته واسعة وهو ينظر إلى السماء، وعاد مروان إلى مجلسه وقد اشتغل خاطره بما سمعه من قول ذلك الناسك، ولم يتمالك أن بعث إلى أحد الخاصة من أهل ثقته، وزعم أنه رأى رؤيا دلَّته على محل الإمام إبراهيم، وروى له ما قال الشيخ، فقال الرجل: «لا ريب إنها رؤيا صحيحة؛ لأن الحميمة في البلقاء، وفيها أناس من الشيعة، فابعث إليها من يقبض على الرجل الذي اسمه إبراهيم، فإنه الإمام المطلوب.»
فكتب مروان إلى عامله على البلقاء أن يذهب إلى الحميمة، فيقبض على رجل من العباسيين اسمه إبراهيم، وذكَر له صفته.