أبو مسلم الخراساني
ولم يمض قليل حتى سمع صوت الجمال وصهيل الخيل وضوضاء الناس، ثم جاء بعض الغلمان مهرولين وهم يقولون: «إن قافلة كبيرة وقفت بجانب القرية تطلب النزول بدار الضيوف.»
فقال: «وهل هم كثيرون؟ ومن أين هم قادمون؟»
قالوا: «إنهم يزيدون على مائة نفس، ومعهم الجمال والخيل.»
فقال: «لا أظنهم يريدون الإقامة جميعًا عندنا، ومع ذلك فادعوهم للنزول.»
فعاد الغلمان، وبعد قليل جاء أحدهم وهو يقول: «إن رجال القافلة يطلبون مقابلة الدهقان.»
قال: «فليدخلوا.»
فوقفت جلنار تريد الرجوع إلى غرفتها، فأمسكها أبوها وقال: «لا بأس عليك. انتظري حتى نرى من هم القادمون.»
وبعد قليل أقبل رجلان قد تزمَّل كل منهما بقباء أسود، وتلثَّم بلثام أسود، ووراءهما رجلان يحملان حزمة طويلة يسندانها من طرفيها على أكتافهما. فلما وصلا إلى مكان الدهقان في القصر، أنزلاها إلى الأرض ووقفا هناك. أما الاثنان الأولان فدخلا دخول الأمراء، وحييا الدهقان بالفارسية. فلما سمع تحيتهما أجفل؛ لأنه سمع صوت رجل يعرفه، فتقدم ذلك الرجل إلى الدهقان — ولم يلتفت إلى ابنته — وسلَّم. فلما دنا من المصباح صاح الدهقان: «عبد الرحمن.»
أما الدهقان، فحالما عرفه رحَّب به، ودعاه للجلوس فجلس، ثم دعا أبو مسلم رفيقه للجلوس أيضًا وهو يقول له بصوت خافت وجأش رابطٍ: «اجلس يا خالد.»
فنظر الدهقان إلى الرجل كأنه لا يعرفه، فقال أبو مسلم: «هذا صديقنا خالد بن برمك.» فبغت الدهقان وقال: «ابن صاحب النوبهار؟»
فأجاب خالد قائلًا: «قد انقضت أيام النوبهار، وتخلصنا من عبادة النار؛ إذ هدانا الله بالإسلام.»
قال الدهقان: «صدقت. أهلًا بكما ومرحبًا.» ثم صفق فجاء بعض الغلمان فأمرهم بإعداد الطعام للضيوف، وتقديم ما تحتاج إليه القافلة من الزاد والعلف.
فاعترضه أبو مسلم بهدوء وسكينة قائلًا: «لا تتعب نفسك ولا تشغل رجالك؛ فإننا لا نحتاج إلى شيء من ذلك. ونحن نشكرك لحسن وفادتك.»
فقال الدهقان: «ومن أين أنتم قادمون؟»
قال: «من الحج.» وفي ملامح وجهه ما يدل على أنه يعني غير ما يقول، ففهم الدهقان أنه يريد الكتمان كعادته من قبلُ؛ فقد كان أبو مسلم يفدُ على الدهاقين في طلب المدد من المال ونحوه انتصارًا للشيعة. وكان يفعلُ ذلك سرًّا؛ خوفًا من عُمَّال بني أمية، فسكت الدهقان، فأدرك أبو مسلم ظنَّه فقال: «لا تظننا نريد التكتُّم؛ فقد انقضى زمن الأسرار، وآن لنا أن نُظهر دعوتنا، فهل أنتم على عهدكم معنا؟»
فتذكر الدهقان أنه وعد الكرماني بمصاهرته؛ وبذلك يكون قد خالف العهد، وقد كان في جملة من عاهد على نصرة بني العباس، ولكنه لم يتوقع ثباتهم؛ لتكرار فشل الشيعة في نصرة أهل البيت، ومع ذلك فقد ظن في كلام أبي مسلم مبالغة، فأراد أن يتحقق منه، على أن يكتم عنه أمر الكرماني، ثم يكون بعدئذٍ مع الغالب فقال: «وماذا تعني بذهاب زمن الأسرار؟»
قال: «أعني أننا كنا نأتيكم سرًّا باسم إبراهيم الإمام، وننصركم على بني أمية ريثما يحين الوقت للظهور وإخراج دعوتنا من القول إلى الفعل بالسيف، فنُبشركم أن الإمام قد أمرنا بإظهار الدعوة.»
فقال الدهقان: «هل جنَّدتم الرجال؟»
قال: «لم نجند أحدًا؛ لأننا لم نبدأ بإظهار الدعوة بعد، وأنت أول من عرف بعزمنا على ذلك، ونرجو إذا أظهرناها أن يستجيب لنا كثيرون؛ لأن أنصار شيعتنا عديدون في خراسان، ومعظم الدهاقين معنا.»
قال الدهقان: «هذا صحيح. ومَن هم الذين معك في القافلة؟»
قال: «النقباء؛ وهم سبعون نقيبًا اختارهم الإمام من شيعته ووجوههم لدعوة الناس إلى اتِّباعه وحمل السلاح في نصرته. وسنُفرقهم في خراسان قريبًا.»
قال الدهقان: «وكيف استطعتم المرور بهذا العدد الكبير في البلاد دون أن يشك العرب في أمركم وهم يسيئون الظن بكل فارسي؟»