معسكر أبي سلمة
وأما الناسك، وهو صالح أو الضحاك، فكان قد رافق جلنار ورفاقها إلى الكوفة وسأل عن منزل أبي سلمة الخلال، فأخبروه أن له معسكرًا خاصًّا في محلة حمام أعين خارج الكوفة، وهو هناك بحاشيته ورجال بطانته كأنه دولة قائمة بنفسها، وأهل الكوفة يراعون خاطره ويخشون نفوذه، وبخاصة بعد قيامه بالدعوة العلوية، فإنه كان يبذل الأموال الطائلة في سبيلها، فلما تحولت إلى العباسيين وقام بها أبو مسلم لم ير بدًّا من مسايرته، فظل على البذل والعطاء وفي خاطره شيء لم يبحْ به لأحد؛ خوفًا على نفسه من غائلة القتل، ولا سيما بعد أن بلغته وصية الإمام: «من اتهمته فاقتله.» وكأنه كان يتوقع فشل أبي مسلم في دعوة إبراهيم، فيعود هو إلى الدعوة العلوية؛ إذ تكون السُّبل قد مهِّدت لها على أهون سبيل. على أن تظاهره بدعوة بني العباس لم يكن ليخفي ما في نفسه على دهاة القواد والشيعة من أهل الكوفة، ولكنهم كانوا يسايرونه أيضًا ليستدروا أمواله في سبيل نصرتهم.
فلما وصل صالح بمن معه إلى الكوفة وعلم أن أبا سلمة مُعسكِرٌ في حمام أعين جاء بهم إليه، وحطوا رحالهم ونصبوا خيامهم خارج المحلة يُظهرون الإقامة مؤقتًا للاستراحة، وذهب صالح وريحانة حتى أتيا المعسكر فطلبا مقابلة أبي سلمة، فأدخلوهما إلى فسطاط كبير مبطن بالحرير الأحمر ببابه الحراس، ومظاهر الثروة بادية على رياشه وأساطينه. وكان صالح بملابس أهل خراسان فدخل وحيَّا، ولم يكن في مجلس أبي سلمة وقتئذٍ أحدٌ سواه، فرحَّب به وسأله عن غرضه، فاغتنم تلك الخلوة وقال: «هل يُعيرني مولاي إصغاء قليلًا؟»
فال: «نعم.»
قال صالح: «برفقتي جارية، فهل تأذن بدخولها؟»
قال أبو سلمة: «تدخل.» وصفَّق، فجاء غلام فأمَره أن يُدخل الجارية الواقفة بالباب، فدخلت ريحانة وقد غطت وجهها بالخمار على عادة النساء عندهم، ووقفت متأدبة فدعاها للجلوس فأبتْ، ولكنها قالت: «أيذكر مولاي أنه رأى هذا الوجه؟» وكشفت عن وجهها.
فلما وقع نظره عليها تذكرها وقال: «ريحانة؟»
قالت: «نعم يا مولاي.»
قال أبو سلمة: «وأين مولاك الدهقان؟ هل تركته؟»
قالت ريحانة وصوتها مختنق: «لا يا سيدي، بل هو تركنا.» ولم تتمالك أن تمسك نفسها عن البكاء.
فلم يستغرب أبو سلمة بكاءها؛ لظنِّه أن مولاها طردها، فهي تبكي على فراقه، فقال لها: «وكيف تركك؟»
فسكتت ولم تجب.
فأجابه صالح قائلًا: «إذا أراد مولاي أن نقصَّ عليه الخبر، فليأمر أن تذهب جاريته إلى دار النساء، ويأذن بذهاب الدهقانة جلنار؛ ابنة صديقك دهقان مرو، معها؛ لأنها مقيمة خارج هذا المعسكر.»
فبُغت أبو سلمة وقال: «جلنار أيضًا هنا! وأين والدها؟»
قال صالح: «إذا أمرت بدخولها دار النساء قصصت عليك خبرها.»
قال أبو سلمة: «لتدخل حالًا؛ فإن شيرين (يقصد امرأته) تفرح كثيرًا لرؤيتها.»
ثم نهض هو وأشار إلى صالح أن يلاقيه من الخارج، ودخل من باب سري في الفسطاط إلى دار بجانبه، ثم خرج من باب الدار وبين يديه الخدم، فلقيه صالح وريحانة هناك، فأشار أبو سلمة إلى ريحانة قائلًا: «ادخلي على مولاتك شيرين.» والتفت إلى صالح وقال: «هؤلاء هم الخدم، فمُرهم بالذهاب إلى الدهقانة لينقلوها بما معها إلى هذه الدار.»
فأثنى صالح عليه ومشى والخدم في أثره إلى خيمة جلنار وأخبرها بما فعله، وطلب منها أن تسير معه إلى الدار، وأن يبقى الخدم هناك حتى ينقلوا الأمتعة.
فمشتْ وصالح يشجعها ويُمنِّيها بتحقيق بغيتها على يد أبي سلمة حتى دخل بها الدار، فاستقبلتها الجواري وذهبن بها إلى خالتها، فلما رأتها شيرين ألقت بنفسها عليها وراحت تقبلها وتستنشق ريحها؛ لأنها كانت تحبها كأولادها، فأهاجت تلك القبلات ما في خاطرها من أمر والدها وفرارها، فغلب عليها البكاء ولم تعد تستطيع أن تمسك نفسها حتى خافوا عليها، فجاءت ريحانة وشاركتها البكاء، ولكنها جعلت تخفف عنها بعبارات استدلت منها شيرين على وقوع الفتاة في مصيبة اليُتم، فأجلستها إلى جانبها وجعلت تمسح دموعها وتقبِّلها. وكان أبو سلمة قد سمع الضوضاء وهو مع صالح في غرفة الرجال فتركه ودخل دار النساء، فرأى جلنار على تلك الحال فتأثر قلبه من بكائها، وقد توردت وجنتاها، واحمرت عيناها، وتكسرت أهدابهما، فنادى ريحانة فأتته أيضًا وهي تبكي، فسألها عن سبب بكائها، فقالت: «ستسمع ذلك من صالح؛ فإنه هو سبب بقائنا أحياء، ولولاه لكنا مع الأموات.»
فرجع أبو سلمة إلى صالح وعلامات التأثر بادية على وجهه، فأدرك صالح أنه قد آن أن يكاشفه بالأمر، ولكنه كان يخشى أن يكون ظنه في أبي سلمة في غير محله من حيث رغبته في العلويين ونقمته على أبي مسلم، فعزم على استطلاع سرِّه بالحيلة، فلما أقبل أبو سلمة عليه وسأله عن سبب ما شاهده من بكاء تلك الفتاة، قال: «إنها تبكي والدها.»
قال أبو سلمة: «تبكي والدها الدهقان! وما الذي أصابه؟»
قال صالح: «قتلوه.»
قال أبو سلمة: «ومَن الذي قتله؟»
قال صالح وهو يتظاهر بالتهيُّب: «قتله، قتله قائد رجالكم وصاحب دعوتكم.»
قال أبو سلمة: «أبو مسلم؟!»
قال صالح: «نعم يا سيدي.»
فهز رأسه وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله. ولماذا قتله؟»
قال صالح: «قتله لأنه نصره بالمال والرجال، ولأنه بذل كل ما في وسعه لنصرته.»
فضحك أبو سلمة ضحكة يمازجها غضب شديد وقال: «كيف يقتله لهذا السبب؟ قل الحقيقة.»
قال صالح: «هذه هي الحقيقة يا سيدي. إنه كان يعطيه الأموال بغير حساب، وقد خاطب سائر الدهاقين في خراسان لينصروه.»
فقال أبو سلمة: «لا يعقل أن يكون على هذه الصورة ويقتله بلا سبب.»
فاعتدل صالح في مجلسه وتأدب في جلسته حسب عادتهم في الجلوس وقال: «هل تدهش لذلك من رجل يقتل على الشك؟ ألم تسمع بوصية الإمام إبراهيم؟»
فأمسك أبو سلمة لحيته بيده وحكَّ ذقنه وهو يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» وكأن في خاطره شيئًا يضمره أو يخشى إظهاره، فتظاهر صالح بالحزن والبكاء وقال بصوت ضعيف: «أتستغرب ذلك من رجل يقتل على التهمة عملًا بوصية إمام يدعون باسمه ليلًا ونهارًا، وقد عهدنا الأئمة من قبل يحاسبون أنفسهم على نملة إن قتلوها بغير حق!»
فلم يتمالك أبو سلمة أن قال: «أولئك أئمة الهدى أبناء بنت النبي ﷺ، أولئك أبناء الإمام علي، كرم الله وجهه.» قال ذلك وغص بريقه.