المكاشفة
فاغتنم صالح تلك الفرصة وقال: «فلماذا حولتم الدعوة إذن إلى هؤلاء وأنتم أصحاب هذا الأمر، أم هي لا تزال في الحقيقة لأبناء الإمام علي وإنما تُظهرون البيعة لإبراهيم تمويهًا؟»
فسكت أبو سلمة ولم يُجبه، وكان الجواب يحشرج في صدره، ولا يأمن التصريح به، فابتدره صالح قائلًا: «يظهر لي أن أولئك الناس خدعوك وتملقوك طمعًا في أموالك، وأنا أعلم يقينًا أنك غير راضٍ عن إمامهم هذا، ولكنك لا ترى أن تفسد عليهم أمرهم؛ لأن تظاهرك ضدهم يؤذيهم.»
فلم يعد أبو سلمة يستطيع صبرًا عن الكلام فقال: «كلا، ولكنني أعلم أنني لو قلت ما في نفسي لم أجد من ينصرني، ولا أدري كيف تغيروا جميعًا وقبلوا هذا الإمام؛ وهو صاحب هذه الوصية؟»
ففرح صالح بهذا التصريح وقال: «وماذا عسى أن يكون من أمر هذا الإمام وهو كأحد الناس، وأنتم جعلتم له هذه المنزلة، وجمعتم له قلوب أهل فارس وخراسان.»
وكان أبو سلمة جالسًا يصغي لكلام صالح، فلما سمع قوله هذا هبَّ من مجلسه بغتة، وجعل يضرب في الغرفة ذهابًا وإيابًا، ومطرفه يجر وراءه، وصالح يرقب حركاته وتقلبات عواطفه، فأدرك أنه يكتم كرهه لهذه الدعوة، فنهض معه ووقف في أحد جوانب الغرفة وأطرق تهيُّبًا مما جاش في خاطر أبي سلمة. ثم وقف أبو سلمة أمام صالح وهو يصلح قلنسوته الموشاة وقال: «قد جمعنا له قلوب أهل خراسان وفارس، ومكَّناه من سيوفهم وأيديهم وألسنتهم، فأصبح هو المالك ولا حيلة لنا.»
فقال صالح: «الحيلة سهلة يا مولاي.»
فضحك مستهزئًا وقال: «كيف تستسهل ما لا سبيل إليه؟ إن مئات الألوف من الفرس وغيرهم يدعون باسم إبراهيم الإمام، فكيف نستطيع تغيير قلوبهم؟»
فقال صالح: «قلت لمولاي إن ذلك هيِّن عليَّ، فهل تُصغي لقولي؟ وهل أنا في خطر على حياتي؟»
قال أبو سلمة: «قل ما بدا لك ولا تخفْ؛ إنك في أمان.»
قال صالح: «ما قولك في قطع الشجرة من جذرها، ومحاكمة الرجل بقانونه؟»
وكان أبو سلمة يخاطب صالحًا وهو يتمشى، فلما سمع قوله وقف وأطرق وسبابته بين شفتيه ينقر بها قواطعه، ويده الأخرى في منطقته، ثم رفع بصره إلى صالح وقال: «ماذا تعني يا صالح؟»
فقال صالح: «أعني أن نقتل ذلك الرجل.»
فقال أبو سلمة: «ومن الذي يجرؤ على قتله؟»
فقال صالح: «عليَّ تدبير ذلك. أنا أقتله ولا يشعر بي أحد. فهل إذا فعلت ذلك يهون عليك تحويل هذه الدعوة ومقاومة أبي مسلم. إنه بدونك لا يستطيع عملًا، ولا سيما إذا علم الناس بمقتل صاحب الوصية؛ فلا شك عندي أنهم سيفرحون لقتله، وأول من يفرح هذه المسكينة التي قتل أبو مسلم أباها، ونهب قصره، وجعلها شريدة طريدة. وأخشى أن يصل خبرها إلى أبي مسلم فيبعث إليها؛ لأنه يفتش عنها لكي يقتلها. فتأمَّل واعتبر هذه المعاملة. ولا غرو؛ فإن هذه هي قاعدة العمل عند أبي مسلم، يتقرب إلى الرجل وهو في حاجة إليه، فإذا فرغ من حاجته قتله، فيجب أن يكون كل منكم ساهرًا على حياته. أقول ذلك بكامل الحرية ولك الخيار.»
فأدرك أبو سلمة أنه يعرض بالخطر على حياته هو، فتجاهل وعاد إلى إتمام الحديث فقال: «وهل أنت واثق من قدرتك على ما وعدت به؟»
قال صالح: «لك عليَّ ذلك في مدة لا تتجاوز مسافة الطريق وبضعة أيام. أليس صاحبكم في الحميمة؟»
فقال أبو سلمة: «بلى.»
قال صالح: «لا تمضي أربعة أسابيع أو نحوها حتى يقضى عليه، وسأذهب في هذه المهمة وأترك عندك مولاتي الدهقانة وخدمها، وربما أخذت معي واحدًا منهم، فأوصيك بها خيرًا.»
قال أبو سلمة: «لا توصيني ببنت دهقان مرو؛ فإنه كان صديقي، فضلًا عن صلة النسب بيننا، فإن شيرين خالة جلنار، وقد احتضنتها احتضان الوالدة لولدها؛ فكن مطمئنًا لهذا الأمر.»
وكان أبو سلمة قد استبشر بما سمعه من صالح، وتوسَّم في الرجل قوة وعزمًا، وجاء كلامه مطابقًا لما في خاطره، فعزم على استخدامه لتحقيق مصلحته، فأظهر له الارتياح وأثنى عليه، ولم يعلم أن صالحًا إنما فعل ذلك خدمة لمصلحته هو، لا يهمه من تلك الأحزاب غير الخوارج، وإنما يهمه فضلًا عن ذلك أن ينتقم لنفسه من أبي مسلم؛ لأنه تعمد قتله بالسُّم، وأبو مسلم يحسبه في عداد الأموات.
فلما بلغ بهما الحديث إلى هذا الحد، أشار أبو سلمة إلى صالح أن ينزل للاستراحة في دار الضيوف على أن يعود إلى الكلام في هذا الموضوع، فمضى ليقضي بقية يومه في الراحة وتدبير بعض الشئون، وسار إلى ريحانة فاجتمع بها وأطلعها على ما دار بينه وبين أبي سلمة، وأفهمها أمورًا تقولها لجلنار، وأوصاها بالبقاء هناك ريثما يعود من مهمته إلى الشام، وأنه سيصطحب معه سليمان الحلبي؛ لأنه يعرف تلك البلاد، ثم دعا سعيدًا وأبا العينين فأوصاهما بكتمان كل شيء عن أهل الدار فوق وصيته لأبي سلمة بذلك. وفي اليوم التالي استأذن أبا سلمة في الذهاب، فعرض عليه مالًا، فأبى وقال: «إني أقوم بهذا الأمر خدمة لمصلحة المسلمين لا أطلب عليها أجرًا.»