الرحيل إلى الحميمة
وما زالا سائرين مسرعين حتى وصلا إلى دمشق فنزلا خارجها، وقضى صالح أيامًا وهو يدرس أحوالها، وترك سليمان هناك وسار إلى الحميمة، فتحقق من وجود بني العباس وفيهم إبراهيم الإمام، ثم عاد واحتال الحيلة التي ذكرناها لتنطلي حيلته على مروان بغير أن يعرفه، أو يبحث عن قبيلته أو اسمه أو غير ذلك، فلما خرج من عند مروان في تلك الليلة سار توًّا إلى خارج المدينة؛ حيث التقى بسليمان الحلبي، وبدَّل ثيابه فلبس العمامة والجبة مثل سائر أهل الشام وتظاهر بالتقوى، وأمر سليمان أن يسير في أثره كأنه خادم له، وأوصاه وصايا تنفعه في المهمة التي يهمَّان بالقيام بها. وذلك أنه قصد البلقاء مسرعًا حتى وصل إلى الحميمة على جَمَله، وسليمان على جمل آخر في أثره، فلما وصل إلى الحميمة نزل في خان وتظاهر بالتقوى والولاية، وأشاع خادمه سليمان أنهما قادمان من الحجاز في مهمة لرجلٍ سيكون له شأن عظيم اسمه إبراهيم، فلما سمع أهل الحميمة ذلك خشي الذين يعرفون صاحب الدعوة من صالح؛ لئلا يكون قادمًا بدسيسة، فأنكروا وجود هذا الاسم. وكان بعضهم يجتمعون إليه في الخان يتجسسون ما في نفسه بغير أن يخبروه عن منزل الإمام، فكان صالح يتظاهر بالبَلَه ويقول: «تكبدت مشقة السفر من الحجاز إلى الشام لأرى الإمام وتمنعونني عنه، وأنا إنما جئتُ لأُنْبِئَه بهاتف أخبرني أن حياته في خطر قريب حتى يحترس.» ولم يقل صالح ذلك إلا حينما تحقق قرب وصول رجال مروان بحيث لم يعد في إمكانهم الفرار من أيديهم، فلما بُلِّغ الإمام قوله أرسل إليه أخاه أبا العباس متنكرًا كأنه أحد أهل المحلة، فقدِم إلى الخان وسمع أقوال صالح من فمه، فلم يهتم بها؛ إذ لم يثبت عندهم أنه من أهل الكرامة.
ولم يمضِ على ذلك يومان حتى جاءت جنود مروان بغتة، فأحاطوا بالمحلة حتى دلَّهم بعض أهلها على دار بني العباس، وهم كثيرون، فقاوموا الجند حتى كادت تكون مذبحة، فقال رئيس تلك الشرذمة: «إن أمير المؤمنين يطلب أحدكم الذى يسمَّى إبراهيم، ولا خوف عليه ولا بأس عليكم جميعًا، فسلِّموه إلينا بلا قتال. أما إذا اضطررتمونا للقتال، حلَّ لنا أخذكم جميعًا.»
فتذكر أبو العباس كلام صالح وتبيَّن له صدقه، ولكن لم يعد عندهم حيلة للنجاة، فتشاوروا فيما بينهم سرًّا، فاستقر رأيهم على تسليم الإمام إبراهيم فسلَّموه. وكان إخوته ثلاثة: أبا العباس، وأبا جعفر المنصور، وعبد الوهاب، فتحقق إبراهيم أنه مقتول، فأوصى بالخلافة بعده إلى أبي العباس، وأمرهم أن ينتقلوا إلى الكوفة وفيها شيعتهم.