حاييم المنجم
رجع صالح وقد تحقق أن إبراهيم مقتول بعد قليل، وأخذ يفكر في أمر إخوته وذهابهم إلى الكوفة، وما يكون من أمر أبي سلمة، حتى إذا عاد إلى خادمه سليمان وجده في انتظاره وقد أعدَّ الجملين، فركبا وسارا مسرعين. وقبل خروجهما من الغوطة، ترجَّل صالح عند بحيرة هناك اغتسل فيها، وأصلح شعره، ولبس ثيابه، وتلثم بالكوفية، والتف بالعباءة، وسار يطلب العراق وهو يكاد يواصل السير ليلًا ونهارًا حتى لا يسبقه العباسيون إلى أبي سلمة. وبعد مسيرة أيام، أشرف في الصباح على الكوفة فأطل على حمام أعين، فرأى قصورها وحدائقها وفساطيطها، وتذكر المهمة التي جاء من أجلها، فأيقن أنه فائز بتحقيق هدفه في إخفاق أمر العباسيين؛ لمقتل إبراهيم ومجيء إخوته وسائر أهله إلى أبي سلمة، فيهون عليه إغراؤه بقتلهم أو حبسهم، فتذهب دولتهم، ويقوى الشيعة على أبي مسلم فيفشل، ويسهل عليه الانتقام منه.
فاستراح في ظل شجرة هنيهة، ثم ركب مسرعًا إلى حمام أعين، وأمر سليمان أن يذهب إلى جلنار ليخبرها بمجيئه، وسار توًّا إلى منزل أبي سلمة وهو لا يزال ملثمًا بالكوفية وملتفًا بالعباءة، فلما وصل إلى الباب ترجَّل وأراد الدخول، فاعترضه الحراس ومنعوه من التقدم، فاستخف باعتراضهم وقال لهم: «أخبروه أني رسول أحمل إليه كتابًا.»
فقال أحدهم: «لا يستطيع أحد أن يخاطبه في شيء الآن.»
فقال صالح: «ولكنني رسول جئت بخبر هام لا ينبغي تأجيله.»
قال: «مهما يكن من أمر رسالتك، فنحن مأمورون بمنع أي إنسان من الدخول عليه؛ لانشغاله بمقابلة سرية.»
فاضطرب خاطر صالح بتلك المقابلة مع هذا التشديد في منع الداخلين عليه، ولم ير بدًّا من الطاعة، فتحوَّل إلى مقعد بجانب الباب وحل عقال كوفيته تخفيفًا من وطأة الحر، وجلس يفكر فيما سمعه، ثم سمع تصفيقًا ورأى الحراس على أثره في حركة واهتمام، وقد دخل أحدهم ثم عاد يتقدمه رجل قصير القامة، غريب الملبس، عليه عمامة كبيرة جدًّا، وقد كحَّل عينيه بكُحلٍ كثير، وأرسل سالفيه على صدغيه، وجعل لحيته شطرين، أرسل كل شطر منهما إلى جانب من صدره، وعليه جبة من الخز واسعة، وبيده عكاز يتوكأ عليه، ووراءه غلام، وقد علق على إحدى كتفيه جرابًا مزركشًا، وحمل أسطرلابًا كبيرًا، وتأبَّط كتابًا ضخمًا، فلما رآه صالح اختلج قلبه في صدره من البغتة؛ لأنه يشبه صاحبه إبراهيم اليهودي خازن أبي مسلم، فتفرس فيه وقد دُهش، وكاد الدم يجمد في عروقه؛ إذ تحقق أنه إبراهيم بعينه، وندِم على حلِّ لثامه مخافةَ أن يراه فيعرفه وينكشف أمره.
أما إبراهيم فإنه خرج وهو يمشي الخيلاء يضرب الأرض بعكازه ويلتفت يمينًا وشمالًا، والحرس وقوف بين يديه هيبة واحترامًا، فوقع بصره على صالح، فتفرس فيه حينًا وقد امتقع لونه عند رؤيته، ولكنه تجاهل وظل سائرًا إلى بغلة عليها عدة موشاة بالديباج أسرع بعض الغلمان في تقديمها إليه، وساعده غلامه في الوثوب على ظهرها، ولم تكن إلا لحظة حتى ركبها وسار.
وظل صالح واقفًا وقد تولته الدهشة، ثم انتبه لحاله وقال في نفسه: «ما الذي جاء بهذا الخبيث إلى هنا؟ لا بد أنه قادم بدسيسة؟» ثم التفت إلى الحاجب وقال: «هل تظن مولانا يأذن بدخولي عليه الآن؟»
فدخل الحاجب ثم عاد فدعا صالحًا، فدخل حتى أقبل على أبي سلمة في قاعة كبيرة — كان جالسًا وحده على وسادة في صدرها — وقد ظهر الاهتمام على وجهه، فلما رأى صالحًا مقبلًا ابتسم له، ورحب به، ودعاه للجلوس إلى جانبه، فهَمَّ أولًا بتقبيل يده احترامًا ثم جلس، فابتدره بالسؤال عن حاله وسلامته، فأجابه بالدعاء، فقال أبو سلمة: «أرجو أن تكون قد فُزتَ في مهمتك ليتم سرورنا في هذا اليوم.»
فقال صالح: «لقد نجحت في مهمتي أحسن نجاح بفضل بركتك ودعائك، فهل نحن في مأمن من الرقباء؟»
فقال أبو سلمة: «نحن في مأمن. قل ما بدا لك.»
فقال صالح: «أتقدم إلى مولاي بسؤال أرجو ألا يضجر منه.»
فقال أبو سلمة: «اسأل؛ فإنك مطاع.»
فقال صالح: «العفو يا مولاي. إنك أنت الآمر الناهي، ولكنني رأيتك منبسط الوجه على غير ما تعودته من ظهور الاهتمام والقلق في محياك منذ تشرفت بالمثول بين يديك في المرة الماضية، فهل من خبر جديد يدعو إلى السرور؟»
فضحك أبو سلمة وقال: «ليس ثمة خبر جديد، ولكن عرافًا باهرًا جاءني في هذا الصباح رأيت منه العجائب، وتحققت أنه من أمهر العرَّافين إلى حدٍّ بعيد.»
فقال صالح: «أظنه الرجل الذي خرج من عندك الساعة؟»
فقال أبو سلمة: «هل رأيته خارجًا؟ نعم هو هذا بعينه. إنه العرَّاف حاييم؛ من يهود حران، وله مهارة عجيبة في علم التنجيم.»
فقال صالح: «وكيف عرفت ذلك؟»
فقال أبو سلمة: «عرفته مما شاهدته من كشفه الأسرار؛ فقد أخبرني عن أمور خفية لم يكن يعلمها أحد غيري، حتى ذكر لي مجيئك إليَّ، وتلا عليَّ بعض ما حدثتني به.»
فلما سمع صالح قوله أجفل، وتحقق أن ذلك اليهودي قادم للبحث عنه، ولكنه استغرب اطِّلاعه على وجوده هناك، وعلى ما دار بينه وبين أبي سلمة، وخشي أن يبدو ذلك في وجهه، فتجاهل وأظهر الاستخفاف وقال وهو يضحك: «وما الذي قاله لك؟»
قال أبو سلمة: «أخبرني قبل كل شيء عما يكنُّه ضميري من أمر هؤلاء العباسيين وتعدِّيهم على الخلافة، فأنكرت ذلك عليه لئلا يكون قادمًا بدسيسة من أحدهم، فاستخفَّ بإنكاري وظلَّ على قوله، وبرهن على صدقه بأقوال لم يكن أحد يعلم بها سواي، وبعضها لم يطلع عليه أحد سواك، ومن جملة ذلك أنه ذكر مجيئك إلينا ومعك ابنتنا جلنار، وقصَّ ما أصابها من الأذى على يد أبي مسلم، ورأيته ناقمًا على هذا الخائن؛ لغدره بها، مع أنه لم يعرف الفتاة ولا أبا مسلم ولا رآهما، وأنك أخبرتني أن حديث جلنار ووالدها المسكين لم يطَّلع عليه أحد، وقد أوصيتني بحفظه مكتومًا. وكان لا يقول شيئًا إلا بعد مراجعة كتابه، واستعمال أسطرلابه. فلما رأيت منه صدق هذه الأقوال وثقت به، وسألته عما يراه من مستقبل هذه الأحداث، فطمأنني وبشرني.»
فلم يتمالك صالح عن قطع كلام أبي سلمة قائلًا: «هل أخبرته عن المهمة التي ذهبت بها إلى الشام؟»
فقال أبو سلمة: «لم يترك لي بابًا لأخبره عن شيء، بل هو كان يخبرني عما في نفسي حتى قال لي: إن المهمة التي سار بها صاحبك (يعني أنت) لا ريب في نجاحها.»
فاستعاذ صالح بالله وأيقن أن إبراهيم إنما أتى بدسيسة من أبي مسلم للبحث عنه وعن جلنار، ولكنه استغرب اطِّلاعه على تلك التفاصيل، فانقبضت نفسه، وأُسقط في يده، ونسي فرحه بقتل الإمام إبراهيم، وأطرق مبهوتًا ولم يُحِر جوابًا، فأنكر أبو سلمة حاله فقال له: «ما لي أراك صامتًا لا تتكلم؟ أخبرني عما فعلته في سفرك.»
فقال صالح بصوت ضعيف يكاد يكون مختنقًا: «ما الفائدة من نجاحي في مهمتي بعد ما سمعته منك؟»
فبُغت أبو سلمة ولم يفهم مراده فقال: «وما الذي سمعته مني؟ إنه ليزيدنا سرورًا ويطمئننا على حسن العاقبة.»
فقال صالح وقد ترقرقت الدموع في عينيه من شدة الغيظ: «كلا يا مولاي، وإنما هو يذهب بمساعينا أدراج الرياح، ويجعل حياتنا في خطر.»
فازداد أبو سلمة دهشةً لما سمعه ولم يفهمه، وصاح في صالح: «ولماذا؟ قل يا صالح؛ فقد شغلت خاطري بما لم أفهم.»
فقال صالح: «إن العرَّاف الذي ذكرته يا سيدي سينقل كلامك إلى أبي مسلم، وربما زاد من عنده ما يضاعف ذنوبنا، وأنت تعلم عاقبة الشكوك عند ذلك الرجل.»
فتطاول أبو سلمة بعنقه، وحَمْلق بعينيه، وتحفَّز كأنه يهمُّ بالوثوب وقال: «إلى أبي مسلم؟ وما شأنه مع يهودي من أهل حران؟ أظنُّك واهمًا؟»
فقال صالح: «لستُ واهمًا — يا مولاي — فإني أعرف الرجل معرفة جيدة، وهو من أتباع أبي مسلم، بل هو من أكبر ثقاته، ومِن أمضَى أدوات القتل عنده.»
فقال أبو سلمة وقد تلعثم لسانه من شدة التأثر: «أفصح؛ لقد شغلت بالي.»
فقال صالح: «قد عرفت هذا اليهودي خازنًا عند أبي مسلم، وعلمتُ من دهائه ومكره ما أكد لي أن أبا مسلم يعول عليه في التجسس على الأمراء بالاحتيال. لا ريب عندي في ذلك مطلقًا.»
فقال أبو سلمة: «وما العمل الآن؟»
فقال صالح: «لا بد من القبض عليه أو قتله حتى لا يستطيع إبلاغ خبرنا إلى أبى مسلم.»
فقال أبو سلمة: «نِعْم الرأي ما رأيت.» ثم صفَّق فدخل حاجبه، فقال له: «هل تعلم المكان الذي سار إليه العرَّاف الحراني؟»
فقال الحاجب: «كلا يا مولاي، ولكنني رأيته ركب نحو الكوفة، وقد ساق بغلته بسرعة كبيرة.»
فنظر أبو سلمة إلى صالح كأنه يستطلع رأيه، فقال صالح: «أظنه نازلًا في بعض الحانات هناك، أو في بعض منازل اليهود أو معابدهم.»
فالتفت أبو سلمة إلى الحاجب وقال: «ادعُ لي أبا ضرغام العيار.»
فخرج الحاجب وقد استغرب صالح طلب أبي سلمة فقال له: «وهل تنوي إرسال العيار في طلب اليهودي؟»
فقال أبو سلمة: «نعم، فإن هذا العيار وجماعة تحت أمره من نخبة العيارين قد ادخرتهم لمثل هذه المهمة؛ لسرعة حركاتهم واطِّلاعهم على خفايا الناس.» ولم يتم كلامه حتى عاد الحاجب ووراءه رجل عاري الصدر والظهر، مكشوف الرأس، حافي القدمين، وليس عليه من الثياب إلا سراويل قصيرة من الخيش المتين كالجلد، وقد علق بكتفه مخلاة مملوءة بالحصى، وفي يده اليمنى مقلاع، وفي يده اليسرى قطعة من الخبز، وهو يمضغ كأنه دُعي وهو على المائدة فنهض وبقية الطعام في يده، فوقف بين يدي أبي سلمة بغير احترام كأنه واقف مع بعض رفاقه على ضفة الفرات، فابتسم له أبو سلمة وقال: «هل تعرف الكوفة يا أبا ضرغام؟»
فضحك أبو ضرغام وقال: «وكيف لا أعرفها؟!»
فقال له أبو سلمة: «أرأيت العرَّاف الذي جاءنا في هذا الصباح وخرج من عندنا الآن؟»
قال أبو ضرغام: «هل تعني اليهودي المكحل صاحب العكاز؟ لقد رأيته خارجًا ووراءه غلامه، وقد أعجبني الجراب الذي كان يحمله؛ فإنه يصلح لحمل الحصى!»
قال أبو سلمة: «هل تستطيع أن تأتيني به ولك جرابه، وملء جرابه مما تشتهي. لقد ذهب الرجل إلى الكوفة، وهو إما في بعض الحانات أو عند بعض اليهود.»
فقال أبو ضرغام: «إني أسوقه إليك كما تُساق الغنم للذبح؛ فاذبح، أو ضحِّ، أو اعفُ؛ فإنك صاحب الشأن، ولكن هبْ أني لم أستطع إحضاره حيًّا، فماذا أفعل؟»
فقال أبو سلمة: «أحب أن أراه وأخاطبه؛ فالأفضل أن يكون حيًّا. وهل يعسر عليك ذلك؟»
فهز العيَّار رأسه وضحك ثم قال: «يعسر عليَّ؟! كلا، فإني أحضره إليك ولو كان في الجحيم. وهبْ أنه طار في الهواء، فإني أرسل إليه حجرًا بهذا المقلاع أصيب ما شئت من مَقاتِله فيسقط، فآتيك به صيدًا حلالًا.» قال ذلك وأشار إلى المقلاع الذي بيده.
فضحك أبو سلمة وقال: «فاذهب سريعًا، واحذر أن يفوتك، واذكر أن جرابه لك وفيه ما شئت من مال أو تحف.»
فمشى أبو ضرغام وهو يقول: «لا يهمني ملؤه من المال، وإنما يهمني أن أملأه من الحصى الملساء المناسبة لمقلاعي.»