استيقظ قلبها
فلما قال صالح ذلك لاحظ أن جلنار تنظر إلى ريحانة نظرة استحثاثٍ كأنها تدعوها إلى التصريح بشيء تخجل هي من ذِكْره، فاستغرب ذلك منها وقد كان يتوقع فرحها بما ترجوه من القبض على العرَّاف أو قتْله، فنظر إلى ريحانة وقال: «ما بالي أراكما تترددان؟ هل أخطأتُ في رأيي في سرعة القبض على هذا الخبيث؟»
فقالت ريحانة: «كلا، فإنك فعلت الواجب، ولكن.» ونظرت إلى مولاتها فإذا هي مطرقة خجلًا، فرفعت عينيها إلى صالح وقالت: «ولكن ألا يمكن تأجيل قتله يومًا؟»
فاستغرب صالح هذا الاقتراح وقال: «وما معنى هذا التأجيل؟»
فالتفتت إلى مولاتها وسكتت، فازداد صالح استغرابًا ووجه كلامه إلى جلنار وقال: «ما الذي تكتمانه عني؟ لعلكما تسيئان الظن بي؟»
فقال ريحانة: «حاشا لنا أن نسيء الظن بك بعد ما رأيناه من جهادك في سبيل مصلحتنا، ولكن مولاتي تودُّ تأجيل مقتل العرَّاف لأنه شغل بالها بكلمة قالها، ووعد بتفصيلها في غدٍ.»
فقال صالح: «وأية كلمة؟ هل يجوز أن أعرفها؟»
قالت ريحانة: «نعم، بل يجب أن تعرفها؛ وذلك أنه لما جاءنا المرة الأخيرة وعرض ذكر أبي مسلم في حديثه نظر إلى مولاتي نظرة اهتمام وقال لها: «سآتيك غدًا بخبر يسرُّ قلبك؛ لمجيئه على غير انتظار منك، وأنا إنما أتيتُ هذه البلاد من أجله، ولا أحبُّ أن يعرفه أحد.» وأحببنا أن نستزيده بيانًا فأتاه خادم أبي سلمة يستدعيه إليه عاجلًا، فمضى.»
فلما سمع صالح قولها، ورأى تعلق آمال جلنار بما سيقوله اليهودي لها عن أبي مسلم، ارتبك في أمره، ولم يفهم القصد منه، ولكنه خشي أن يكون أبو مسلم قد ندم على مجافاته جلنار، فأحب أن يسترضيها، فبعث بإبراهيم متنكرًا لهذه الغاية. ولعله أوصاه أن يفعل ذلك خفية، وربما كان في جملة مهمته أن يستطلع مساعيه، ويتجسس أحوال العلويين ونحو ذلك. مرت هذه الخواطر في ذهنه وهو ساكت، وجلنار تنظر إليه خلسة وهي تخشى أن يجيب بالنفي، وهي تود الانتظار؛ لأنها ما برحت منذ سمعت وعد إبراهيم وهي تنتظر ساعة الموعد، وقد تحرك قلبها، وتحولت مجاري آمالها.
أما صالح فرأى من الدهاء أن يجزم بكذب إبراهيم، ويشكك في حسن نيته؛ مخافة أن يكون وراء أقواله ما يعرقل مساعيه أو يعرضه للخطر، فقال: «إني لأستغرب من مولاتي الدهقانة مع ما أعلمه من عقلها وذكائها أن تعلِّق أهمية على كلمة قالها هذا المنافق، وهو لا يريد بها غير التمويه ليستطلع ما بقي من أسرارنا، أو يوقعنا في الفخ. ألا تعلمين دهاء هؤلاء القوم؟ وكم غدروا بالناس على هذه الصورة؟!»
فقالت ريحانة: «صدقتَ، ولكننا إذا سمعنا قوله فليس من الضروري أن نعمل به. وعلى كل حال فنحن لا نخطو خطوة إلا برأيك وتدبيرك، فإذا أمكن استبقاء الرجل يومًا أو يومين كان في استبقائه وسيلة لذهاب قلق مولاتي باطِّلاعها على ما وعدتْ نفسها به.»
فقال صالح: «لا بأس من استبقائه، ولكن لا حيلة لنا في ذلك وقد ذهب العيارون للبحث عنه، والقبض عليه حيًّا أو ميتًا، فإذا جاءوا به حيًّا بعثنا به إلى الدهقانة، وأما إذا قتلوه فلا سبيل إلى إحيائه، على أني لا أراه إلا منافقًا يريد التمويه. وإذا أطعتماني وجاءكما فانبذاه وابصقا في وجهه. ومع ذلك، فافعلا ما بدا لكما.» قال ذلك وفي صوته وملامح وجهه أمارات العتاب، فأدركت ريحانة أنه استاء من إلحاحها، وقد سبق إلى ذهنها حسن الظن به، ورأت أن مجاراته في رأيه قد تخفِّف قلق سيدتها فقالت: «وأنا أرى مثل رأيك، فإن هذا الرجل لا يأتي على يده غير الأذى، والأحسن أن نحذره ونسعى في القبض عليه وقتْله؛ لنتخلص من شره.»
فلما سمعت جلنار اتفاق ريحانة وصالح في الرأي وافقتهما، وقد اقتنع عقلها بصواب رأيهما، ولكن قلبها ظل يتحرك فعمدتْ إلى السيطرة عليه بالتعقل فقالت: «دعوا المقادير تفعل ما تشاء. فإذا جاءنا حيًّا سألناه ونظَرنا فيما يقوله، وإذا قُتل فلا حيلة لنا فيه. وعلى كل حال فأنا لا أظنه يستطيع الفرار إذا أراده؛ لأن هؤلاء العيارين صنف من الأبالسة لا يفلت منهم طائر ولا هارب.»
وعاد صالح إلى هواجسه، وأراد أن يعرف كيف جاء إبراهيم إلى الكوفة؛ لعله يستطيع بذلك معرفة الغرض الذي يهدف إليه، فقال لريحانة: «كأني سمعتك تذكرين السائس الأبكم مع هذا اليهودي.»
قالت ريحانة: «نعم، قلت لك إنه جاء به معه في عودته من مرو.»
فقال صالح: «وأين هو؟ أحب أن أراه.»
فخرجت ريحانة مسرعة ثم عادت والسائس معها وهو على حاله الذي وصفناه به قبلًا، فلما دخل حيَّا ووقف، فسأله صالح عما تمَّ له في سفره، فأشار بيديه وعينيه أنه وصل إلى مرو ودفع الكتاب إلى سليمان بن كثير، فسأله كيف عرف منزله، فأجاب بأن رجلًا يعرفه من قبلُ دلَّه عليه، فسأله عن شكل ذلك الرجل، وأين عرفه، فأشار أنه قصير القامة، وأنه عرفه للمرة الأولى في بيت مولاه الدهقان يوم نزل أبو مسلم عندهم، فترجح عند صالح أنه إبراهيم بعينه، وأنه لما رأى ذلك السائس يسأل عن ابن كثير، وتذكَّر أن شاهده في منزل الدهقان، ظنه قادمًا بمهمة من الدهقانة أو منه، فخشي صالح أن يكون قد اطلع على فحوى الكتاب، فيقع ابن كثير في هوَّة الشك فيتعرض للقتل، فسأله كيف دفعت الكتاب إلى صاحبه، فأشار أنه دفعه إليه سرًّا، وكان منفردًا في حجرته، فقال: «وماذا فعلت بعد ذلك؟» فأشار إلى خروجه من مرو في صباح اليوم التالي، فلاقاه في أثناء الطريق عرَّاف يهودي صحبه إلى الكوفة ومعه خادمه، وكان يُسايره ويُركبه أحيانًا على بغلته، ويُطعمه من طعامه، ونحو ذلك، حتى وصل إلى الكوفة.
فتحقق صالح عند ذلك أنه إبراهيم، وأنه قادم في مهمة سرية من عند أبي مسلم، نبَّهه إليها مجيء ذلك السائس الجاهل بالكتاب إلى ابن كثير، وأيقن أنه إذا نجا وأبلغ إلى أبي مسلم خبرهم فإنه سيقتلهم ويقتل أبي سلمة لا محالة، فأصبح همُّه البحث عما أفضت إليه مساعي العيارين في القبض عليه، وقد نفر من رؤية السائس وندم على إنفاذه بتلك الرسالة، فأشار إليه أن يخرج، فلما خرج تقدم صالح إلى جلنار وخاطبها بصوت منخفض كأنه يحاذر أن تسمعه جدران الغرفة وقال: «يظهر أننا أخطأنا في الاعتماد على الخدم والأعوان في شئوننا، فينبغي لنا ألا نثق بأحد، واعلمي يا مولاتي أن العيارين إذا لم يظفروا بذلك اليهودي، فإننا نكون معرضين لخطر شديد.»
فبغتت جلنار، وبدت البغتة في عينيها وقالت: «وكيف ذلك؟»
فقال صالح: «ذلك لأن إبراهيم هذا إنما جاء في مهمة سرية للبحث عنا وعن مقاصدنا، وقد نجح في مهمته نجاحًا تامًّا، فعرف كل شيء عنا وعن هذا المسكين أبي سلمة، وعرف أننا سعينا في مقتل الإمام إبراهيم، فإذا نجا من العيارين ووصل إلى أبي مسلم، فإنه لا يدخر وسعًا في السعي في قتلنا، وهو اليوم في ذروة سلطانه، ولا عبرة فيما موَّه به عليك من الوعد.»
فلم تستطع واحدة منهما أن تعارض هذا الرأي؛ لأنه صحيح لا ريب فيه، فارتبكتا وشعرت جلنار بقلق وخوف وقالت: «لم يكن لنا ملجأ فيما مضى سواك، وأنت اليوم ملجأنا وعوننا؛ فأشِرْ علينا بما تراه.»
فقال صالح: «أرى أولًا، وقبل كل شيء، أن نستغني عمن معنا من الخدم، فإذا انتقلنا في مكان كنا وحدنا فقط — أي نحن الثلاثة — فالآن أنا ذاهب للاستفهام عن العيارين وما فعلوه، فإذا تحققت من فشهم عدت إليكما وأخبرتكما بما ينبغي عمله، وإنما أتوسل إليكما أن تكتما ما دار بيننا، وأرغب منك يا ريحانة أن تجمعي ما خفَّ حملُه وغلا ثمنُه من الأموال، وتهيئي كل شيء حتى نكون على أُهبة السفر في أية لحظة أردنا. هل فهمتِ؟»
ثم نهض وودعهما وخرج، ودخلتا تتأهبان للرحيل وهما مضطربتان، ولا سيما جلنار، فقد أصبحت كلما تذكرت ذلك اليهودي ترتعد فرائصها وتتألم من انطلاء حيلته عليها حتى كشَف أسرارها، ثم تتذكر ذهاب العيارين في أثره فيطمئن خاطرها، وريحانة مشتغلة عنها بتدبير الثياب والحلي، وانتقاء ما خف حمله.