وصية الإمام
فلما سمع أبو مسلم سؤاله أحب أن يفيض في وصف حالهم تثبيتًا للدهقان في نصرته؛ لعلمه أنه إذا نصره هو اقتدى به دهاقين كثيرون، فقال: «أنت تعلم يا أعظم الدهاقين أن العرب يفاخروننا بالنبوة؛ لأن النبي منهم، وقد احتقرونا وأذلُّونا وعاملونا معاملة الرق، ولو استطاعوا ألا يبقوا منا أحدًا لفعلوا، مع أن الفئة السائدة منهم الآن — وهُمْ بنو أُميَّة — ليسوا من أقارب النبي، بل هم أعداء أهله، وقد اضطهدوهم وقتلوهم، وبخاصة آل عليٍّ بن أبي طالب؛ ابن عمه، فإنهم ساموهم العذاب الشديد. ولا يخفى عليك أن آل بيت النبي لا يرون فرقًا في الإسلام بين العربي والأعجمي، بل هم يفضِّلون العَجَم على العرب؛ ولذلك كانت شيعتهم من الفرس، كما تعلم، ثم سلَّم آل عليٍّ حقوق الخلافة إلى آل العباس؛ عم النبي. وكبيرهم الآن إبراهيم الإمام، فتحوَّلت شيعة بني علي في هذه البلاد إلى نصرة بني العباس؛ فالإمام مقيم في الحميمة بالبلقاء قرب الشام يبث الدعاة ويُخابر الأنصار، وقد عهد إليَّ في العام الماضي أن أتولَّى الإشراف على هذا الأمر، وكتب إلى أصحابه أن يطيعوني، وجعلني أميرًا على خراسان وما أفتحه من البلاد، فاستصغرني بعض النقباء لصغر سني؛ لأني دون العشرين من العمر وهم شيوخ كبار، لكنهم أذعنوا أخيرًا. وقد أوصاني الإمام يوم وداعه في العام الماضي وصية ذات بالٍ هي أساس كل عمل عملته، أو سأعمله في سبيل هذه الدعوة.»
وكان الدهقان يسمع كلام أبي مسلم وهو مندهش من رزانته على صغر سنه، وقد أحسَّ وهو يسمع كلامه كأنه يخاطب شيخًا كبيرًا، أو ملكًا جليلًا؛ لما كان في وجهه من الهيبة والوقار، فلما سمعه يشير إلى وصيَّة الإمام أصاخ بسمعه ليفهم تلك الوصية جيدًا. وكانت جلنار تتظاهر بالانزواء وكلها عيون وآذان لترى وتسمع. ولا تسل عن حالها في تلك الجلسة؛ وهي المرة الثانية التي قابلت فيها أبا مسلم، ولم تبقَ جارحةٌ من جوارحها لم تتمثَّل صورة أبي مسلم فيها.
فلما فرغ من تلاوة الرق لفَّه وأرجعه إلى جيبه وهو ينظر إلى الدهقان. وكان الدهقان حينما سمع تلك الوصية قد ارتعدت فرائصه من شدتها وقوتها، وسرَّه نقمة الإمام على العرب؛ لمَا في نفسه منهم. ولم يكن رضاه بابن الكرماني صهرًا إلا من قبيل الخوف، ولكنه كان لا يزال ضعيف الثقة بشيعة بني العباس، على أنه كتم ذلك وتظاهر بالإعجاب وقال: «إنها وصية لا يقف عليها حكيم. ويكفي من بواعث اجتماع الفرس عليها أنها تأمر بإذلال العرب وقتلهم، فلا أظن دهقانًا أو أي رجل فارسي يطَّلع على هذه الوصية إلا كان من المتشيعين لآل العباس. ألا ترى ذلك يا خالد؟»
وكان خالد في نحو الأربعين من عمره، وهو ابن برمك (جد البرامكة؛ صاحب النوبهار) وهو بيت نار كان للفرس في مدينة بلخ — وكان برمك مجوسيًّا، والغالب أنه مات ولم يُسلم، فخلفه ابنه خالد هذا، وهو من أكثر الرجال عقلًا ودهاءً وبطشًا، وكان في جملة من أسلم من عظماء الفرس، وتشيع لآل العباس انتقامًا من بني أمية، والتماسًا لما كانوا يتوقَّعونه من السلطان لأنفسهم، والاجتزاء من النفوذ إذا قامت الدولة بهم. وكان برغم أنه كهل قد رضي برياسة أبي مسلم وهو شاب لا تزيد سنه على العشرين إلا قليلًا. ومِثْلُ خالدٍ كهولٌ وشيوخٌ كثيرون ممن قاموا بدعوة العباسيين، وقد رضوا بأبي مسلم قائدًا لهم؛ احترامًا لأمر إبراهيم الإمام. وكان أبو مسلم يحترم خالدًا ويقدِّره حقَّ قدره، ويستشيره فى أموره؛ ولذلك فإنه حينما أراد مقابلة الدهقان اختصه بصحبته دون سائر الرفاق.
فلما خاطب الدهقان خالدًا بشأن الوصية واستطلع رأيه، أجابه على الفور: «لا ريب عندي أن الفرس يتفانون في نصرة العباسيين؛ لأنهم إنما يسعون في مصلحة أنفسهم، ويجب على كل فارسي أن يقدم نفسه وماله لنصرة بيت النبي؛ لأن في نصرته رفع شأن الفرس.»
فأراد الدهقان أن يطري أبا مسلم؛ تقربًا منه، وإيهامًا له بأنه شديد التمسك بدعوته؛ إخفاء لما سبق من وعده بمصاهرة ابن الكرماني، فقال: «ولا غرو إذا انتصر الشيعة وفيهم مثلكما من رجال الحزم والبسالة والعقل.»
فقال خالد: «إن البسالة والقوة لا يكفيان للقيام بهذا العمل، يا حضرة الدهقان.»
فأدرك الدهقان أنه يلمح إلى المال فقال: «على كلٍّ منا أن يقدِّم مما عنده، وكما أننا لم نُقصِّر في الماضي والدعوة لا تزال سرية، فلا تظننا نبخل الآن بشيء.»
فعاد أبو مسلم لإتمام حديثه فقال: «فجئت إلى خراسان وقُمنا بالدعوة سرًّا، كما تعلم، وأنا أختلف إلى الإمام أحمل إليه ما يجتمع عندنا من المال وأتلقَّى أوامره، فلما كان هذا العام بعث يستقدمني إليه، فسرتُ ومعي النقباء الذين ذكرتُهم، فاشتبه الحكَّام في أمرنا أثناء الطريق، فكنا إذا سألونا عن مقصدنا قُلنا إلى الحج. ولما بلغنا قومس أتاني كتاب الإمام باسمي واسم سليمان بن كثير؛ وهو من كبار النقباء، ومع الكتاب راية النصر (وأشار إلى الحزمة المطروحة أمام القصر) وقد قال لي في ذلك الكتاب (وأخرج الكتاب من جيبه وقرأ): «قد بعثتُ إليك براية النصر؛ فارجع من حيث لقيك كتابي وأظْهِر الدعوة؛ فإن الله ناصركم».»